البداية عند «نابليون»: محاولات فرنسا لتوطين اليهود في فلسطين
لم تكن فرنسا بمنأى عن المشروعات الأولى لتوطين اليهود في فلسطين؛ إذ كانت أولى الدول التي نادت بذلك في نهاية القرن الثامن عشر، بل اتخذت خطوات عملية في هذا المضمار، وذلك لكسب ود اليهود وتحقيق أهداف سياسية خالصة.
كومنولث يهودي في فلسطين
يذكر الدكتور أمين عبد الله محمود، في كتابه «مشاريع الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ قيام الثورة الفرنسية إلى نهاية الحرب العالمية الأولى»، أن فرنسا كانت أول من طرح بشكل جدي فكرة توطين اليهود في فلسطين؛ إذ أعدت حكومة الإدارة الفرنسية عام 1798 خطة سرية لإقامة «كومنولث يهودي في فلسطين» حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي، وفيه فلسطين، وذلك مقابل تقديم الممولين اليهود قروضًا مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك بضائقة اقتصادية خانقة، والمساهمة في تمويل الحملة الفرنسية المتجهة صوب الشرق بقيادة نابليون بونابرت، وأن يتعهد اليهود ببث الفوضى وإشعال الفتن وإحلال الأزمات في المناطق التي سيرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل أمر احتلالها.
وفي تلك الأثناء، دعا أحد زعماء اليهود الفرنسيين إلى تكوين مجلس يضم جميع الطوائف والفئات اليهودية، ويتخذ من باريس مقرًّا له، ليعمل بالتنسيق مع حكومة الإدارة الفرنسية من أجل «إعادة بناء وطن يجمع شمل اليهود وينظم حياتهم».
ومضى هذا الزعيم في دعوته، التي تضمنها منشور أصدره ولم يوقِّع عليه، قائلًا فيه: «إن عددنا يبلغ ستة ملايين في أقطار العالم، وفي حوزتنا ثروات طائلة، فيجب أن نتذرع بكل ما لدينا من وسائل لإنشاء وطن لنا … وهذا الوطن الذي ننوي قبوله بالاتفاق مع فرنسا يشتمل على مصر السفلى (الوجه البحري)، ويمتد شرقًا بخط يبدأ من بلدة عكا إلى البحر الميت، ومن جنوب هذا البحر إلى البحر الأحمر. وموقع هذا الوطن من أنفع المواقع في العالم، ويمكِّننا من السيطرة على ملاحة البحر الأحمر، قابضين على ناصية تجارة الهند وبلاد العرب وأفريقيا الجنوبية والشمالية وإثيوبيا والحبشة، ثم إن مجاورة حلب ودمشق لنا تسهل تجارتنا، وموقع بلادنا على البحر المتوسط يمكِّننا من إقامة المواصلات بسهولة مع فرنسا وإيطاليا وإسبانيا».
نابليون بونابرت وإعادة «المجد الغابر»
ويبدو أن نابليون بونابرت كان مُطَّلِعًا على الاتصالات الجارية بين زعماء يهود فرنسا وحكومة الإدارة الفرنسية، واتضح له مدى الخدمات التي كان بمقدور اليهود عامة، والشرق خاصة، تقديمها له، لذا فإنه أصدر بمجرد وصوله إلى مصر عام 1798 بيانًا حث فيه جميع يهود آسيا وأفريقيا على الالتفاف حول رايته من أجل إعادة «مجدهم الغابر»، وإعادة بناء مملكة القدس القديمة، روى محمود.
وما لبث أن وجَّه نابليون لليهود نداءً آخر أثناء حصاره مدينة عكا، وذلك في الرابع من أبريل عام 1799، وكان مما ورد فيه: «أن العناية الإلهية التي أرسلتني على رأس هذا الجيش إلى هنا قد جعلت العدل رائدي، وكلفتني بالظفر، وجعلت من القدس مقرها العام، وهي التي ستجعله بعد قليل في دمشق التي يضيرها جوارها لبلد داود».
وتابع نابليون نداءَه مخاطبًا اليهود بقوله: «يا ورثة فلسطين الشرعيين»، ودعاهم إلى مؤزارته، طالبًا منهم العمل على «إعادة احتلال وطنهم»، و«دعم أمتهم والمحافظة عليها بعيدًا عن أطماع الطامعين لكي يصبحوا أسياد بلادهم الحقيقيين».
ويعزو المؤرخ اليهودي سالو بارون، في كتابه «التاريخ الاجتماعي والديني لليهود»، أسباب إصدار نابليون هذا النداء إلى رغبته في استقطاب الجاليات اليهودية في الشرق، وجمعها تحت لوائه لتحارب معه، وتكون عونًا له في دعم نفوذه وتثبيت سلطانه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن نابليون كان يهمه من وراء هذه الدعوة كسب ثقة يهود فرنسا ودعمهم المادي في صراعه الذي بات وشيكًا مع حكومة الإدارة الفرنسية بسبب الخلاف على بعض الأمور.
ويضيف بعض المؤرخين إلى نداء نابليون هدفًا آخر، وهو تشجيع اليهود على الاستيطان في فلسطين بغية إيجاد حاجز مادي بشري يفصل بين مصر وسوريا، واستغلال ذلك في تسهيل وتدعيم الاحتلال الفرنسي لكل منهما، ذكر محمود.
كما كان نابليون يهدف إلى تهديد مصالح بريطانيا من خلال إغلاق طريق مواصلاتها المؤدي إلى الهند. وهناك إشارات أخرى في بعض المصادر إلى أن نابليون كان يهمه كسب رضا وتأييد اليهودي حاييم فارحي، الذي كان يتمتع بنفوذ مالي في عكا، ويتولى مسئولية تزويدها بالمؤن الغذائية.
تلاشي مشروع نابليون
ولكن دعوة نابليون هذه سرعان ما فقدت قيمتها بمجرد أن لحقت الهزيمة بالحملة الفرنسية أمام أسوار عكا. وبحسب محمود، فإن ما يسترعى الانتباه في هذا الصدد أن الجاليات اليهودية الشرقية والأوروبية بشكل عام لم تبدِ اهتمامًا جديًّا بدعوة نابليون، والمتضمنة وعدًا بإقامة وطن لليهود في فلسطين، وهذا يؤكد أن التفكير اليهودي باستيطان فلسطين لم يكن قد تبلور بعد، وأن جُل اهتمام اليهود في هذه الفترة كان يرتكز على تثبيت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية في البلاد التي كانوا يعيشون فيها دون الانسياق وراء مغامرات قد تعرض وجودهم للخطر.
ورغم تلاشي مشروع نابليون، فإنه أظهر بوضوح أن محاولات التوسع الإمبريالي الغربي في الشرق العربي فيما بعد ستتخذ من مشاريع توطين اليهود في فلسطين ذريعة للتدخل في مصير هذا الجزء من العالم، وستعمل جاهدة على تحقيق هدفها الكبير بإيجاد كيان يهودي حليف، يتم تسخيره لخدمة مصالح الإمبريالية الغربية نفسها.
محاولة أخرى لاسترضاء يهود فرنسا
كان نابليون يدرك بفطنته ودهائه ما يجول في أذهان الزعماء اليهود، ولذلك اتبع أسلوبًا آخر لاسترضاء اليهود بعد فشل مخططه في توطين اليهود في فلسطين، بغية الحصول على مساعدتهم حينما دعت الحاجة لذلك ثانية، خاصة أنه كان واثقًا من أن الصدام بينه وبين روسيا القيصرية أمر لا مفر منه.
وأخذ يهيئ جيشه للزحف على روسيا عبر المسافة الطويلة التي تفصلها عن فرنسا، وترتب على ذلك أن الحاجة برزت من جديد للمساهمة اليهودية في تمويل حملته العسكرية المتجهة إلى روسيا. والأهم من ذلك أنه كان حريصًا على كسب تأييد وولاء اليهود الروس واستغلالهم كطابور خامس خلال الحرب.
ومن أجل ذلك، دعا نابليون اليهود في سبتمبر عام 1806 إلى عقد «السنهدرين»، وهي الهيئة القضائية العليا لليهود التي كانت قائمة في الأزمنة القديمة، واستمر اجتماعها حتى نوفمبر عام 1807، حين أعلن نابليون أن الديانة اليهودية أصبحت إحدى الديانات الرسمية في فرنسا، وأن من حق المؤسسات الدينية اليهودية فيها أن تحظى برعاية وحماية الدولة، كما تعهد بإجبار حكام الدول الأوروبية التي يحتلها على منح اليهود من سكانها الحقوق التي منحتهم إياها فرنسا، كما حدث في هولندا وسويسرا. غير أن هذه الوعود والتعهدات سرعان ما تلاشت بهزيمة نابليون في واقعة واترلو عام 1815.
وبعد ذلك، بدأت حدة تبني فرنسا لفكرة توطين اليهود في فلسطين تفتر في أعقاب الفترة النابليونية، وذلك لانشغال فرنسا عن الشرق بمشاكلها الداخلية واتجاه توسعها نحو مناطق أخرى، مما قلل من حاجتها لخدمات اليهود.
مشروع لاهاران وشق قناة السويس
وفي أيام إمبراطورية نابليون الثالث الثانية (1852- 1870) فرضت فكرة توطين اليهود في فلسطين نفسها من جديد، عندما تجددت النشاطات الاستعمارية على نطاق أشد، فقد ضم نابليون الثالث الجزائر في شمال أفريقيا، وأقام محمية فرنسية في الهند الصينية انطلاقًا من سياسته الخارجية العدوانية، كما كانت له طموحات في الشرق الأوسط، وكان الممثل الرئيسي للصهيونية في هذه الحقبة هو أرنست لاهاران السكرتير الخاص لنابليون الثالث.
ويذكر سعيد جميل تمراز، في كتابه «طرد الفلسطينيين في الفكر والممارسة الصهيونية 1882-1949»، أن لاهاران من أبرز السياسيين الفرنسيين الذين نادوا بفلسطين إقليمًا يهوديًّا تحت الحماية الفرنسية، خاصة حينما حصلت فرنسا على امتياز شق قناة السويس عام 1854، حيث أبدى اهتمامًا ملحوظًا بفكرة توطين اليهود في فلسطين، كما أيد فكرة احتلال المشرق العربي، ودعا في عام 1860 إلى البحث عن الوسائل الكفيلة بتثبيت دعائم الوجود الفرنسي في المنطقة، ومنها بناء دولة اليهود في فلسطين تحت الحماية الفرنسية، ونشر آراءه في كتابه «المسألة الشرقية الجديدة – الإمبراطورية المصرية والعربية وإعادة إحياء القومية اليهودية».
واستعرض لاهاران في كتابه مناقشات الإنجليز الصهيونيين غير اليهود المؤيدة للاستيطان اليهودي في فلسطين، وبيَّن المكاسب الاقتصادية التي ستجنيها الدول الأوروبية، خاصة فرنسا، إذا ما أقام اليهود وطنًا لهم في فلسطين، وأوضح أن الصناعات الأوروبية ستجد لها سوقًا جديدة لتصريف منتجاتها، لذلك يجب على أوروبا كلها أن تساعد على انتزاع فلسطين من الدولة العثمانية وإعطائها لليهود.
وعبَّر لاهاران عن فكرته عن اليهود كجنس بقوله: «يا لهم من مثل يُحتذى، ويا لهم من جنس … إننا نحني رءوسنا لكم أيها الرجال الأشداء، لقد كنتم أقوياء بعد مأساة القدس، لأنكم كنتم كذلك طوال تاريخكم القديم، وإن الباقين منكم يمكن أن ينهضوا من جديد، ويعيدوا بناء بوابات القدس».
وتحدث لاهاران في كتابه بإعجاب كبير عن اليهود، واعتبرهم شعبًا ذا شخصية عبقرية مستقلة، فهم شعب عضوي لم يندمج في الحضارة الغربية، لأنه مرتبط بالشرق، حيث يجب أن يكونوا قناة الاتصال الحية بين القارات الثلاث، وسيكونون حملة الحضارة إلى شعوب ما زالت بدائية، وسيلعبون دور الوسيط بين أوروبا وأقاصي آسيا، فيفتحون الطريق المؤدية إلى الهند والصين، والتي ينبغي في النهاية فتح أبوابها للحضارة.
واقترح لاهاران قيام فرنسا بتوطين اليهود في فلسطين، يؤازرها في ذلك دعم وجهد رجال البنوك والتجار في العالم، على أن يُجرى اكتتاب مالي عام يتيح لليهود المجال لشراء وطنهم القديم من الدولة العثمانية، وذكر أن حدود الدولة اليهودية ستكون من السويس حتى ميناء أزمير في تركيا، وفي ذلك كامل المنطقة العربية.
ووصف لاهاران في كتابه العرب بالهمجية والوحشية، وأنكر مساهمتهم في ميادين العلوم الأوروبية وقصرها على اليهود، وعكس بذلك النظرة المتعصبة للإمبرايالية الغربية الحاقدة على الشعوب العربية والإسلامية، بحيث دأبت على الإنكار أو التقليل من أهمية أي دور إيجابي قامت به هذه الشعوب في مرحلة من مراحل تاريخها تجاه الحضارة الإنسانية.
وبحسب تمراز، انعكست نظرة لاهاران على إنكار وتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، ومن ناحية أخرى، هدف إلى تكثيف الهجرة والاستيطان، حتى يتسنى إقامة دولة يهودية خالصة لا تشوبها أي شوائب عرقية أو حضارية أخرى، وهو ما جعل طرد الفلسطينيين أمرًا حتميًّا وطبيعيًّا.
تأثر الصهيونيين بأفكار لاهاران
وتذكر ريجينا الشريف، في كتابها «الصهيونية غير اليهودية … جذورها في التاريخ الغربي»، وترجمه للعربية أحمد عبد الله عبد العزيز، أن دعوة لاهاران لم تتمخض عن نتائج سياسية آنية، ومع ذلك فإن جيل الصهيونيين اليهود الجديد الذي كان آخذًا في الظهور على مسرح التاريخ اليهودي تبنى تلك الأفكار، ففي عام 1862 نشر موسى هس، أحد الآباء المؤسسين للصهيونية اليهودية، كتابه «روما والقدس»، والذي اقتبس فيه الكثير من كتاب لاهاران، وكان واثقًا أن فرنسا ستدعم المساعي الصهيونية في فلسطين.
وذكر هس في كتابه: «ألا تزالون تشكون في أن فرنسا ستدعم اليهود لإقامة مستعمرات قد تمتد من السويس إلى القدس، ومن ضفتي نهر الأدرن حتى البحر المتوسط؟ إن فرنسا ستوسع مهمة التحرير لتشمل الأمة اليهودية. ويبدو أن الفرنسيين واليهود قد خُلق كل منهما للآخر في كل شيء».