الكتابة الشذرية: التفكك المتماسك
اعتدنا على الكتابة كونها تتسم بالنسقية؛ ارتباط واتصال الأفكار ببعضها البعض، مما يجعل النصوص في اتحاد وانسجام في ما بينها، وربما تكون هذه أحد المعايير التي نعتمد عليها في تقييم عمل ما؛ فحين نمدح كتاباً ما نقول «هذا الكتاب متماسك نصاً ولغةً».
يعترف معظم القرّاء بالأعمال الأدبية المتكاملة ظاهرياً، التي ليس بين نصوصها خصام ظاهري بخلاف الشذرات التي في ظاهرها عبارات ونصوص متفككة وغير مترابطة، التي غالباً ما تصطبغ بطابع الإيجاز والتكثيف، مما يجعل الأفكار التي في ثناياها قابلة للتأويل إلى حد كبير، ولعل ما يزيد من سحر هذا الجنس الأدبي دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، أنه يتسم غالباً بالذاتية أو ما يسمى بـ«التذويت»، مما يجعل النص بمثابة عصارة تجارب الكاتب الشخصية ورؤيته الخاصة للعالم والوجود.
ظهرت الكتابة الشذرية قديماً في عهد فلاسفة الطبيعة من مثل أنكسمينس وطاليس وأنكسمندريس. واستمر شيوعها وظهورها حتى يومنا هذا. ويرتبط مصطلح الشذرات كثيراً بكُتّاب برعوا في هذا الجنس الأدبي، مثل: بيسوا ونيتشه وإيميل سيوران، وغيرهم كثيرون.
ظاهرياً قد تبدو الأعمال الشذرية غير متكاملة، أو إنها نتاج عجز وكسل أصحابها عن استكمالها، لكن في الحقيقة عدم اكتمال هذه النصوص أو الأعمال هو عين الكمال والاكتمال الإبداعي، بل والأصالة الإبداعية.
في الكتابة الشذرية، الكاتب ليس مُلزماً بأن يضيف أو ينقص شيئاً من حجم نصه الأدبي الأصلي، لا يضطر أن ينجب عقله (قسراً) فكرة جديدة لتوائم أفكار نصوصه الأخرى أو تتمة تكمل بداية عمله كما في الروايات والقصص، هي فكرة يلفظها العقل مرة واحدة ليلتقطها قلم الكاتب، لا يحاول الكاتب إعادة تشكيلها كثيراً لتتناسب مع نصوص عمله الأخرى، لا يحاول توضيحها أو تلميعها أدبياً وفكرياً، يُخرجها للقارئ كما هي بغموضها وضبابيتها الأدبية.
يعطي النص الشذري القارئ فرصة ليشارك في صناعة معان جديدة له، مع كل تأويل جديد للنص الشذري يولد معنى جديداً للنص، وهكذا يولد النص من جديد، وهنا مكمن الإبداع. النص الشذري يُولد أكثر من مرة دون أن يموت في أي من المرات التي يُولد فيها؛ إنه مفتوح لكل التأويلات والتفسيرات. يكمن عنصر الأصالة فيه أن الأفكار أشبه ما تكون في حالتها الخام دون إضافات أو تعديلات فكرية عليها، النصوص الشذرية وإن كانت غامضة تزيل الحجاب عن جانب من جوانب «ذات الكاتب الحقيقية»، ورغم أن الكاتب في الكتابة الشذرية يسمح للقارئ بمشاركته في صناعة المعنى، فإنه في الحقيقة لا يكترث بوجوده أصلاً، فضلاً عن اكتراثه بمدى فهمه للنص؛ فهو لا يقع على رأس أولوياته. في الكتابة الشذرية، يعتبر الكاتب نفسه القارئ الوحيد لعمله، المهم أن ينال النص إعجابه هو، ويكون مُقتنعاً بفكرته، وعدا ذلك ليس مهماً.
غالباً ما يُفصح النص الشذري عن معتقدات الكاتب الفكرية، ولأن الكاتب لا يرغب في أن تُفضح أفكاره علناً، وبشكل صريح، فيحاول أن يُعبِّر عنها بالكتابة الشذرية. قد تكون النصوص الشذرية من أكثر النصوص الأدبية فردانية، حيث غالباً ما تشكَّل تصورات الكاتب ورؤيته محور نصه، نجد هذا جلياً في شذرات «بيسوا» على سبيل المثال، لا سيما في كتابيه «لست ذا شأن» و«اللاطمأنينة»؛ حيث كان يتحدث باستمرار عن ذاته وصراعاتها مع الوجود ومكنوناته.
ويقول في نص آخر:
بالنسبة لبيسوا تمثل الكتابة الشذرية لقاءً عفوياً مع الذات، حديثاً ارتجالياً معها، ليس من ثمة رسالة يحاول الكاتب إيصالها من خلال كتابته، إنه يكتب لنفسه ومن أجلها.
ليس عنصر الغموض في الكتابة الشذرية هدفاً يسعى الكاتب إلى تحقيقه، بل إنه ينساب من نصه انسياباً يجعل الكاتب نفسه في حيرة أمامه، ينهي الكاتب نصه الشذري بنصف فكرة، أو فكرة تبدو مبتورة، ليس لما تتسم به من غموض فحسب، بل لأن الكاتب أخرجها طازجة كما هي من عقله، ولم يحاول إعادة إنتاجها أو تنقيحها لتتناسق مع بقية النصوص، هي فكرة خرجت وفرضت نفسها على النص وعلى الكاتب نفسه.
يقول سيوران: «لا وجود لإحساس كاذب». هذه العبارة الشذرية وإن كانت قابلة لعدة تأويلات، ولكن مع الكتابة الشذرية، المعنى الظاهري غالباً لا يُؤخذ به، بالطبع لا يقصد شخص غارق في الواقعية مثل «سيوران»، أن كل إحساس هو بالضرورة صحيح وصادق، وأنه لا توجد أحاسيس كاذبة، ولكن ما يعنيه أن الإحساس وإن كان كاذباً فهو من فرط تسلطه وقوته، يبدو لنا وكأنه إحساس حقيقي وواقعي.
من ناحية علمية، فإن هذا الكلام صحيح، الأحاسيس لا سيما تلك المصاحبة للأفكار، التي تظهر بظهورها، هي أحاسيس كاذبة وخداعة، مجرد وجود إحساس ما، لا يعني أن هذا علامة على صدقه وصدق كل ما يؤتي به.
ليس بالضرورة أن يتقن الكاتب فن الكتابة الشذرية، وإن بَرَع في الأجناس الأدبية الأخرى؛ ذلك لأن الكتابة الشذرية تحتاج إلى كاتب متمرد، لا يكترث بالقواعد ولا يتردد في كسرها وتحطيمها، كاتب يُمجِّد الفكرة أكثر من النص، والنص أكثر من القارئ، تحتاج الكتابة الشذرية إلى كاتب يعتني بأفكاره جيداً، يعرف متى ينبغي عليه أن يتوقف عن الكتابة، ومتى ينبغي أن يستمر ويُكمل، متى ينبغي أن يبدأ النص ومتى ينتهي.