كيف استقرت المذاهب الأربعة في الفقه السني؟
من المذاهب الشخصية إلى المذاهب الأربعة
في سياقِ الرصد المـُوجز لنشأة الفقه الإسلامي وتشَكُّل مذاهبه، ألمحنا في المقال السابق إلى أنه لم يُقَدَّر البقاءُ لغير أربعةٍ من المذاهب التي نعتها الباحثون المعاصرون ـــ في مراحل نشأتها الأولى ــــ بالمذاهب الشخصية، وهي مذهبُ أبي حنيفة (150هـ/767م)، ومذهب مالك (ت 179هـ/795م)، ومذهب الشافعي (ت 204هـ/820م)، ومذهب أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م)؛ إذ أضحت بمرور الوقت هي المذاهبَ الكبرى التي تقاسمت السيادةَ على عالم الإسلام السُّني، في حين اندثرت المذاهبُ الأخرى، أو جرى استيعابُها داخل أحد المذاهب الأربعة المذكورة.
وقد استغرق اكتمالُ تلك المذاهب واستقرار منهجياتها في استنباط أحكام الشرع عقودًا طويلة بعد وفاة مؤسِّسيها، بفضل جهود ثُلَّةٍ من التلاميذ والأتباع المخلصين في كل مذهب؛ وهو الأمر الذي مهَّد بعد ذلك لرسوخ فكرة “الرباعية المذهبية” بوصفها أحد مرتكزات الإسلام السُّني.
والواقع أن الاعتراف العام بالفقهاء الحنابلة وإدراجَ مذهبهم ضمن مذاهب الفقه الكبرى قد تأخر إلى القرن الخامس الهجري؛ فحين أحصى المقدسي (ت 390هـ تقريبًا/1000م) (أحد مشاهير الجغرافيين العرب) مذاهب الفقه المتبوعة في زمانه جعلها أربعةً، ليس من بينها المذهب الحنبلي؛ حيث استبدل به مذهب أهل الظاهر([1]). وكذلك فإن النديم صاحب الفهرست (ت380هـ/990م)، أدرج الإمام أحمد ضمن “فقهاء أصحاب الحديث”، ولم يخصه وأصحابَهُ بفنٍّ مستقل، كما صنع مع المالكية والحنفية والشافعية والظاهرية، وذلك في المقالة السادسة من كتابه، والتي عقدها للحديث عن أخبار الفقهاء ومؤلفاتهم ([2]). وإن كان ذلك لا ينفي عن الحنابلة الأوائل صفة الفقه والاشتغال به في الجملة.
ويمكن تفسير ذلك بأن الإمام أحمد ـ المؤسس الأول للمذهب ـ كان يُنْظَر إليه بوصفه محدِّثًا لا فقيهًا صاحبَ مذهب مستقل؛ حيث طغى انشغالُه بتحصيل الحديث والعناية بجمع مروياته على شخصيته العلمية حتى غدا أبرز قسماتها، فلا عجب أغفل ابنُ جريرٍ الطبري (ت 310هـ/923م) ــــ وهو فقيه مجتهد صاحبُ مذهب مستقل لم يُكتب له البقاء ــــ ذِكْرَه في كتابه “اختلاف الفقهاء”، فلما سُئِلَ عن ذلك أجاب قائلاً: “لم يكن أحمد فقيهًا، إنما كان محدِّثًا”، ورُوِي أيضًا أنه قال: “أما أحمد بن حنبل فلا يُعَدُّ خلافه”، فاحْتُجّ عليه بذكر العلماء له في الاختلاف، فقال: “ما رأيتُه رُوِي عنه، ولا رأيتُ له أصحابًا يُعوَّل عليهم”، وهو الأمر الذي أثار غضب الحنابلة، فرموه بالتشيع تارةً، وجعلوا يحرِّضون العامةَ عليه تارةً أخرى.
وقد أومأ ابنُ خلدون (ت 808هـ/1406م) إلى شيء من ذلك في معرض تفسيره ضعفَ انتشار المذهب الحنبلي؛ حيث قال: “فأما أحمد بن حنبل فمقلدوه قليل؛ لبُعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض”([3]). وحديثًا، ذهب وائل حلاق إلى أن عناية أحمد ببعض مسائل الفقه كانت أمرًا عارضًا جاء في سياق اهتمامه الرئيس بعلم الحديث؛ إذ لم يكن يقصد قصدًا إلى إنشاء مذهب فقهي متماسك الأركان، وإن بدت جهودُهُ في هذا الصدد بمثابة النواة الأولى لمذهبٍ مستقلٍّ، يرجع الفضل في بنائه وتطويره إلى الجيل التالي لابن حنبل، وهو الجيل الذي لمعت فيه أسماءُ رجالٍ من أمثال أبي بكر الأثرم (ت 261هـ/874م)، وحرب الكرماني (ت 280هـ/893م)، وغيرهما من الأتباع والتلاميذ الذين استفرغوا جهدهم في نقل آراء ابن حنبل وتداولها، ثم جاء أبو بكر الخلال (ت 311هـ/923م)؛ فجمع ما تفرق من آراء الشيخ من أفواه تلاميذه، ليُخرج منها أول مدونة مهمة للفقه الحنبلي([4]).
على أن الحنابلة قد بذلوا جهدهم في الردّ على مَنْ أخرج أحمد من زمرة الفقهاء، وعزوا ذلك الموقفَ إما إلى الجهل وإما إلى التعصب؛ إذ كيف يسوغ القول به ولأحمد “اختياراتٌ بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرُهم، وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم”، على حد تعبير ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119)([5]).
ولسنا بسبيل مناقشة تلك المسألة، ولا نحبُّ أن نخوض في ذلك الجدل المتعلِّق بتعيين الصفة الغالبة على شخصية الإمام أحمد، وهل كان محدِّثًا أم فقيهًا أم جامعًا بين الفقه والحديث؟ فذلك شأن الفقهاء ودارسي الشريعة. وغايةُ ما قصدنا إليه هو إبرازُ موقع المذهب الحنبلي بين مذاهب الفقه الكبرى، ومحاولةُ تحديد الفترة التاريخية التي تبلورت فيها فكرةُ “الرباعية المذهبية” بوصفها أحد مرتكزات الإسلام السُّني، كما تقدم.
وجدير بالتنويه في هذا السياق أن بعض العلماء ومؤرخي المذاهب كانوا يُدْرِجون المذهب الظاهري ضمن المذاهب الكبرى المتبوعة؛ كأبي إسحاق الشيرازي الشافعي (ت 476هـ/1083م)؛ إذ يقول: “ثم انتهى الفقه بعد ذلك في جميع البلاد التي انتهى إليها الإسلامُ إلى أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وداود (الظاهري)، وانتشر عنهم في الآفاق، وقام بنصرة مذاهبهم أئمةٌ ينتسبون إليهم وينصرون أقوالهم”([6])، وذلك قبل أن ينقرض المذهب الظاهري بوفاة آخر أعلامه في بغداد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وإن بقي بشيراز طائفة قليلة من أتباعه([7]).
ومهما يكن من أمر، فقد تغلبت المذاهبُ الأربعة على أقطار العالم الإسلامي، على خلاف بينها في درجة الانتشار وعمق الأثر، في حين اندثرت المذاهب الأخرى، أو بعبارة ابن خلدون “وقف التقليدُ في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودَرَس المقلِّدون لمن سواهم”([8])، بل ساد الاعتقاد بأن باب الاجتهادِ قد أُغْلِق، وأنه لا سبيل إلى ابتداع مذهب جديد يُضاف إلى المذاهب الأربعة، وعوضًا عن الاجتهاد المستقل، اكتفى العلماءُ بالانتساب إلى أحد المذاهب المذكورة، وجنحوا إلى الاجتهاد المقيَّد بأسسها النظرية ومنهجياتها في بناء الأحكام، فلم يخرجوا عنها إلا في النادر الذي لا حُكْم له ولا قياس عليه.
بين السُّلطة والمذاهب
اجتهد الباحثون في تحديد الأسباب الموضوعية التي يمكن أن تفسِّر لنا لماذا ارتقت تلك المذاهبُ الأربعة إلى مصاف المذاهب الكبرى، وصادفت ذلك الانتشارَ الهائلَ في دار الإسلام، في حين اندثرت مذاهبُ أخرى، ظلت بين النشأة إلى الاندثار مجرد نَسَقٍ من الآراء الشخصية لأصحابها، فلئن وجدتْ مَنْ يعتنقها ويؤمن بها، فإنها لم تظفر بمن يتولى شرحها ويضيف إليها ما يصبح مع التراكم مذهبًا تامًّا، أو ينافح عنها في مواجهة المذاهب الأخرى([9]).
ثمة شرطٌ أساسي لتحول المذهب من مجرد كونه مذهبًا شخصيًّا يتكئ على الآراء الخاصة لصاحبه إلى مرتبة المذهب الفقهي بوصفه كيانًا منهجيًّا جماعيًّا ذا طابع تراكمي وسلطة معرفية مهيمنة، وهو أن يتهيَّأ له من الأتباع مَنْ يلتزمون به التزامًا صارمًا (تدريسًا وإفتاءً وقضاءً)، وأن يكون لآرائهم واجتهاداتهم دور حاسم في بناء المذهب، لا يقلُّ من حيث الأهمية وعمق التأثير عن دور مؤسِّسه الأول؛ ومن هنا فقد استغرق اكتمالُ المذاهب واستيفاؤها مقوماتِهَا المنهجية عقودًا طويلة بعد وفاة مؤسسيها، كما أسلفنا([10]).
وإذا كان ذلك الشرطُ يمكن أن يفسِّر لنا السببَ في تطور بعض المذاهب الشخصية ــــ من حيث التأسيس النظري والمنهجي ـــــ لتغدو مذاهب فقهية مكتملة الأركان، فإن ثمة أسبابًا أخرى يمكن أن نفهم في ضيائها لماذا انتشرت تلك المذاهبُ ذلك الانتشارَ الهائل؟ ولماذا رُزِقَتْ القبول العام، وأضحت لها السيادة ــــ دون غيرها ــــ على الأقاليم الإسلامية؟
ربما كان الدعمُ السياسي من جانب السلطة من أبرز الأسباب التي استند إليها المؤرخون قديمًا وحديثًا في سياق التفسير التاريخي لانتشار تلك المذاهب، وإن لم يكن هو السبب الوحيد لتلك الظاهرة. فالثابت تاريخيًّا أن بعض المذاهب حظيت بدعم الدولة ومساندتها؛ لأسبابٍ مدارُها في الجملة على الرغبة في اكتساب مشروعية دينية تتجاوز مشروعية القوة والتغلب التي وقع الاعترافُ بها سبيلاً لبلوغ الحكم والقبض على مقاليد السلطة. وليست تلك الرغبة ــــ عند التحقيق ــــ منبتةَ الصلة بالتحول الحاسم الذي طرأ على نظام الحكم في دولة الإسلام من خلافةٍ قائمة على الشورى والاختيار إلى ملكٍ متوارث لا يُنال بغير القهر والغلبة.
وليس الدعم الذي نعنيه أنَّ السلطة تدخلت في توجيه آراء المذاهب أو أَمْلَتْ على أصحابها طريقةً معينةً في صياغة أنظمتها المعرفية؛ إذ الواقع أنها لم تفكر في ذلك ولا سعت إليه؛ ليقينها أن التدخل بهذه الصورة خَصْمٌ من مشروعيتها وإظهارٌ لها في صورة المفتئت على الشريعة، أولاً، ولأن الفقه ظل ــــ رغم الاستبداد السياسي ــــ شأنًا دينيًّا/معرفيًّا له رجاله المتخصصون وأدواته المنهجية المستقرة، ثانيًا. ولكنَّ الدعم المقصود في هذا السياق هو تهيئة المناخ اللازم لانتشار مذهبٍ بعينه، من خلال تقريب فقهائه، وإدنائهم إلى مواقع النفوذ والتأثير الديني/العلمي/المجتمعي، بتقليدهم وظائف التدريس والإفتاء والقضاء، على نحو ما سيرد إيضاحه.
وتجدر الإشارة إلى أن الدولة أعربت عن رغبتها في الانحياز إلى مذهبٍ معينٍ وحمل الناسِ عليه حملاً لتحقيق ما يمكن تسميته بالانضباط التشريعي، وتوحيد نظامي العبادات والمعاملات= في مرحلة باكرة من تاريخ تشكُّل الفقه السُّني، وإن قُوبلت تلك الرغبة بالرفض والإنكار؛ فقد رُوِي أن الإمام مالكًا صنَّف كتابه “الموطأ” بطلب من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور إذ قال له: “ضعْ كتابًا أحمل الأمَّةَ عليه”، وأوصاه بأن يتحاشى فيه شواذَّ ابن مسعود، وشدائدَ ابن عمر، ورُخَصَ ابن عباس، وأن يتحرى التوسط والاعتدال، وأن يلتزم بما أجمع عليه الصحابةُ وأئمة السلف. بيد أن مالكًا رفض قائلاً: “ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين أن تحمل الناس على قولِ رجلٍ واحدٍ يخطئ ويصيب، وإنما الحق من رسول الله، وقد تفرقت الصحابة في البلدان، وقلَّد أهل كل بلدٍ مَنْ صار إليهم، فأَقِرَّ أهل كل بلدٍ على ما عندهم”([11]).
ويرفض جورج مقدسي القول بأن مذهبًا ما استمر لأنه كان يحظى بمشايعة الحاكم أو مباركة السُّلطة؛ إذ القول بذلك أشبه بوضع العربة أمام الحصان. وخلاصةُ رأيه في هذا الشأن أن السلطة إنما كانت ــــ لضرورات المصلحة السياسية العارضة ــــ تمنح عطفها وتأييدها للمذاهب القوية ذات الشعبية التي يمكن أن تحقق مصلحتها المتجسدة في إضفاء المشروعية الدينية عليها([12]).
وهذا رأي صحيح من حيث النظر إلى تأثير السلطة في تكوين المذهب وتشكيل بنيانه المعرفي، لا من حيث إسهامها في ترسيخ سلطة مذهب معين والترويج له، من خلال قرارات سياسية نافذة، وهو أمر متأخر على تكوُّن المذهب واستقراره. وذلك المعنى الأخير هو ما نروم إثباته، تأسيسًا على ما تواتر من أدلة تاريخية تفيد أن العامل السياسي كان أحد العوامل الحاسمة في نشر مذاهب الفقه والتمكين لها في المجتمع.
وإلى ذلك العامل أومأ ابنُ حزم الظاهري (ت 456هـ/1063م) قائلاً: “مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة ….. ومذهب مالك بن أنس عندنا (أي: في الأندلس)”([13]). وبيان ذلك أن أبا يوسف (صاحب أبي حنيفة وأحد كبار مؤسسي المذهب الحنفي) لما تولى منصب قاضي القضاة في خلافة هارون الرشيد (170-193هـ/786-808م)، احتكر أصحابُهُ والمنتمون إلى مذهبه مناصبَ القضاء في الأمصار المختلفة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وهو الأمر الذي تسبب في ضعف المذهب الشافعي بالعراق؛ نظرًا لاستبداد الأحناف بوظائف القضاء والخطابة والتدريس([14]).
أما الأندلس فقد عرف أهلُها أول ما عرفوا مذهب الأوزاعي (ت 157هـ/774هـ)، فساروا عليه وتمسكوا به، ثم عرفوا مذهب مالك في الثلث الأخير من القرن الثاني الهجري، فأقبلوا عليه إقبالاً منقطع النظير، حتى أضحى في غضون بضعة عقود هو المذهب الغالب على البلاد، وكان ذلك بفضل يحيى بن يحيى الليثي (ت 234هـ/848م)، وكان فقيهًا مالكيًّا متعصبًا لمذهبه، ذا مكانة رفيعة في بلاط بني أمية، مقربًا من الأمير الحكم ابن هشام الرَّبَضِي (ت 206هـ/802م). وقد استغل يحيى الليثي تلك المكانة في نشر مذهبه، حتى إن وظيفة القضاء أصبحت ـــــ بفضل تضخم نفوذه ـــــ حكرًا على المالكية([15]).
وكذلك فقد جرى الأمرُ في بلاد المغرب على نحو قريبٍ مما حدث في الأندلس؛ فحين تولى الإمام سحنون بن سعيد التنوخي (ت 240هـ/854م) قضاء إفريقية، استفرغ وسعه في نشر مذهب مالك، حتى صار القضاء في أصحابه وظيفةً متوارثة، كما تُتَوارث الضياعُ، فخبا ضوءُ المذهب الحنفي، وكان منافسًا لمذهب مالك. ثم كان أن أعلن الفاطميون قيام دولتهم في بلاد المغرب سنة 297هـ/909م، فشهد الفقه السُّني ـــ على المستوى الرسمي ـــــ تراجعًا ملحوظًا لصالح المذهب الشيعي/الإسماعيلي.
وكما حمل الفاطميون المذهبَ الإسماعيلي إلى بلاد المغرب بقوة سيوفهم، فقد استرد الفقه السُّني (وخاصة في صورته المالكية) دوره ومكانته بفضل قرار سلطوي مقابل؛ ففي سنة 443هـ/1051م قطع المعز بن باديس حاكم إفريقية كلّ صلةٍ له بالدولة/الدعوة الفاطمية في مصر، وأعلن الولاء للخلافة العباسية السُّنية، ثم لم يكتف بذلك، بل “حمل جميع أهل إفريقية على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه من المذاهب”، الأمر الذي دفع جمهور المغاربة إلى انتحال مذهب مالكٍ مرة أخرى، أملاً في الحصول على إحدى وظائف القضاء أو الإفتاء أو التدريس؛ إذ غدت منذ ذلك التاريخ حكرًا على المالكية([16]).
وفي مقابل انتشار المذهبين الحنفي والمالكي بفضل دعم السلطة ومساندتها، فقد ضعف انتشار المذهب الحنبلي لعزوف أصحابه عن تقلد مناصب الإفتاء والقضاء والتدريس، وإلى ذلك يشير ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) قائلاً: “هذا المذهب ـــ أي: المذهب الحنبلي ـــ إنما ظلمه أصحابُهُ؛ لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولَّى القضاء وغيره من الولايات، فكانت الولاية سببًا لتدريسه واشتغاله بالعلم. وأما أصحاب أحمد، فإنه قلَّ فيهم من تعلَّق بطَرَفٍ من العلم إلا ويُخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد؛ لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم”([17]). وكان ابن عقيل يُنكر دعم الدولة لبعض المذاهب، ولا يعتبر من المذاهب إلا “ما نصره دليلُهُ”([18]).
ولا نزاع في أن لوظيفة القضاء أثر حاسم في تقوية سلطة الفقهاء من ناحية، ودعم انتشار المذهب الذي ينتمون إليه من ناحيةٍ أخرى، بحكم اكتساب أحكامه صفة الإلزام القانوني؛ إذ القاضي ملزم بالصدور عن أصول مذهبه فيما يُرفع إليه من أقضية ومنازعات، والمتقاضون لا يملكون إلا الإذعان لما يصدره القاضي من أحكام، وهو ما كان يعني مزيدًا من تغلغل المذهبية في الأوساط الشعبية.
والواقع أن الفقهاء عمومًا والقضاة والمفتين خاصة كانوا يحوزون سلطة معرفية نافذة تعمل في شبه استقلال عن سلطة أمراء التغلب، ومصدر تلك السلطة هو الشريعة التي وُكل إلى الفقهاء أمرُ تفسيرها واستخلاص أحكامها، في حين اقتصر دور الأمراء والسلاطين على إنفاذ تلك الأحكام بوصفها بيانًا للمراد الإلهي، في ظل اتفاق عام على خضوع الدولة والمجتمع جميعًا لسلطة الشريعة.
ومن ناحية أخرى، فإن تبني الدولة مذهبًا فقهيًّا بعينه وجنوحها إلى فرضه على الناس قضاءً وإفتاءً يدفع طلاب الشريعة إلى دراسة ذلك المذهب والاجتهاد في تحصيل مدونته، وخاصةً بعد ظهور المدارس؛ باعتبار ذلك هو المدخل إلى الانخراط في الجهاز البيروقراطي للدولة، عن طريق الحصول على وظيفة مناسبة في مؤسسات التعليم أو القضاء أو الأوقاف أو الإفتاء، تؤمِّن لصاحبها موردًا ثابتًا ودخلاً منتظمًا، وربما كانت سبيلاً إلى الترقي الاجتماعي. وحسبنا أن نعلم أن كل مؤسسة من تلك المؤسسات كانت تضم شبكة معقدة من الوظائف والأعمال، يلزم من يلتحق بإحداها أن يكون الفقه ركنًا أساسيًّا في تكوينه المعرفي؛ فوظائف القضاء مثلاً كانت تشمل: القضاة والكُتّاب والنواب والأمناء والوكلاء والشهود …إلخ. ويسري ذلك أيضًا على وظائف الأوقاف والحسبة والتدريس ومشيخة المدارس ومؤسسات التصوف (الخانقاوات والربط والزوايا)، والخطابة والإمامة ….إلى غير ذلك من وظائف دينية تمثل جزءًا أساسيًّا في البنية البيروقراطية للدولة.
من التنافر إلى التقارب
كان لتسلط الأتراك على النظام السياسي الإسلامي وابتزازهم السلطةَ الزمنية من الخلفاء العباسيين (منذ منتصف القرن الثالث الهجري وما تلاه) تأثير ملحوظ على دعم السلطة لمذاهب الفقه التي بلغت أوج اكتمالها واستقرارها بنهاية القرن الخامس الهجري. ومن مظاهر ذلك التأثير أن السلطة سعت ـــ كما يقول طريف الخالدي ــــ إلى “فرض مقدار من التماثل المذهبي على مذاهب الفقه السُّنية، إما من خلال صيغ التوفيق المعلنة بمثابة سياسة عامة، وإما من خلال إقامة مدارس متعددة المذاهب، يلتقي فيها الفقهاء ويرصُّوا صفوفهم في وجه أهل البدع”([19])، وذلك في إطار الإجراءات التي اتخذها الأمراء العسكريون لإضفاء الشرعية على سلطة لا يعسر اتهامهم باغتصابها.
والواقع أن المشاحنات وألوان النزاع التي ما فتئت تندلع بين أصحاب المذاهب المختلفة (وخاصة بين الحنابلة والشافعية/الأشاعرة) لم تَثْنِ السلطة عن المضي قدمًا في ذلك المسار الذي أسهم في مزيدٍ من ترسيخ فكرة “الرباعية المذهبية”. وفي هذا الإطار أُنشئت المدرسة المستنصرية في بغداد سنة 631هـ/1233م وخُصِّصت للمذاهب الأربعة([20])، وهي كما يقول ابنُ الطقطقى “أعظم من أن توصف، وشهرتها تغني عن وصفها”([21]). وبعد نحو عشر سنوات عرفت مصرُ مدرسة مماثلة، وهي المدرسة الشهيرة التي أسسها الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 641ه/1243م([22]).
ومن المحقق أن تشييد مدارس على ذلك الطراز كان يوحي بتبلور نمطٍ جديدٍ من أنماط العلاقة بين أتباع تلك المذاهب، اتسم بشيء غير قليل من التوازن والتكافؤ، وهو الأمر الذي مهَّد لأن تتقاسم تلك المذاهب السلطة القضائية([23])؛ ففي خلافة الناصر لدين الله العباسي (575-622هـ/1180-1225م) قُصِر تعيينُ القضاة على أصحاب المذاهب الأربعة([24]). وفي مصر قام الظاهر بيبرس سنة 663هـ/1265م بإعادة تشكيل السلطة القضائية على المذاهب الأربعة، بحيث يحكم كل قاضٍ وفقًا لأحكام مذهبه، وذلك بعد أن كان القضاء مقصورًا على المذهب الشافعي([25]).
وقد ترتب على ذلك أن المؤسسات الدينية والعلمية والقضائية لم تعد مقصورة على مذهب بعينه من مذاهب الفقه بحيث تحتكر وظائفه طائفةُ المنتسبين إليه، بل انفتحت تلك المؤسسات على سائر المذاهب، وصار لأتباع كل مذهب منها نصيب معلوم من الوظائف وحظ من رعاية الدولة وتشجيعها ماديًّا وأدبيًّا، وإلى ذلك يشير المقريزي (ت 845هـ/1442م) قائلا: “لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة وعقيدة الأشعري، وعُمِلت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعُودِي من تمذهب بغيرها وأُنكِر عليه، ولم يُوَلَّ قاض ولا قُبلت شهادة أحد، ولا قُدِّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدًا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعملُ على هذا إلى اليوم”([26]).
على هذا النحو ترسخت فكرة “الرباعية المذهبية” واستقرت نهائيًّا، وغدت مرتكزًا ثابتًا لا للفقه السُّني وحده، بل لمجمل الأنشطة الدائرة في فلكه، في ميادين التعليم والقضاء والدعوة الدينية، وكأن اتفاقًا وقع بين المسلمين ــــ مدعومًا بفتاوى دينية ـــــ على وجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم الاشتغال بغيرها، كما يوحي ظاهر كلام المقريزي.
وبهذا المقال الثاني نكون قد انتهينا من تلك المقدمات الضرورية التي رأينا أن نمهِّد بها للحديث عن تطور حركة المذاهب الفقهية في مصر منذ تاريخها المبكر إلى العصر الحديث. وفي المقال التالي بإذن الله نستعرض نشأة الحركة الفقهية في مصر وتطورها منذ القرن الأول الهجري إلى قيام الدولة الفاطمية منتصف القرن الرابع. فإلى الملتقى.
- أحسن التقاسيم إلى معرفة الأقاليم، ليدن، بريل، الطبعة الثانية، 1906، ص 37.
- الفهرست، تحقيق: أيمن فؤاد سيد، لندن، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2009م، 2/3 وما بعدها، 2/83 وما بعدها.
- مقدمة ابن خلدون 3/951.
- نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ص 220، 221.
- ابن رجب الحنبلي، الذيل على طبقات الحنابلة، طُبع ملحقًا على كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى الفراء، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ، 3/156، 157.
- طبقات الفقهاء، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، دار الرائد العربي، بدون تاريخ، ص 97.
- السابق، ص 179. وراجع أيضًا: جورج مقدسي، نشأة الكليات، ص 46.
- مقدمة ابن خلدون 3/951.
- لمزيد من التفاصيل عن تلك الأسباب، راجع: وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي، ص 230-236، جورج مقدسي، نشأة الكليات، ص 41 وما بعدها.
- وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي، ص 217.
- موطأ الإمام مالك، برواية محمد بن الحسن الشيباني، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، القاهرة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 2001م، مقدمة المحقق، ص 14.
- نشأة الكليات، ص 44.
- الحميدي، جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008م، ص 383.
- السابق نفسه.
- المقريزي، المواعظ والاعتبار 4/366، 367. ولمزيد من التفاصيل عن دخول مذهب مالك إلى الأندلس، راجع: آنخل جنثالث بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: حسين مؤنس، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011م، ص 469، 470
- المواعظ والاعتبار 4/368.
- الذيل على طبقات الحنابلة، طُبع ملحقًا على كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى الفراء، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ، 3/157.
- ابن عقيل الحنبلي، كتاب الفنون، تحقيق: جورج مقدسي، القسم الأول من مخطوطة باريس الوحيدة، ص 237.
- فكرة التاريخ عند العرب، ص 343.
- البداية والنهاية 13/219، 220.
- الفخري في الآداب السلطانية، ص 330.
- كانت تلك المدرسة أول مدرسة يجرى فيها تدريس الفقه على المذاهب الأربعة بمصر، وما زالت بقاياها موجودة بشارع المعز بالقاهرة في مواجهة مجموعة قلاوون . لمزيد من التفاصيل راجع: المواعظ والاعتبار 4/2/485- 490.
- Sherman A. Jackson, The primacy of Domestic Politics; Ibn Bint Al-aaz and Establishment of four Chief Judgships in Mamluk Egypt, JAOS, vol. 115, no. 1, 1995, pp. 55, 56.
- جورج مقدسي، نشأة الكليات، ص 46.
- المقريزي، السلوك 1/2/539، 540، المواعظ والاعتبار 4/201.
- المواعظ والاعتبار 4/1/397.