الأساطير المؤسسة لتاريخ الوطنية المصرية الحديثة
تعاملت الأنظمة السياسية المصرية المتعاقبة منذ يوليو 1952 مع الأحداث التاريخية السابقة على أنها حقائق، بل واتخذت من بعضها شعارات تتغنى بها في المناسبات الوطنية، ويُرددها الأطفال في طابور الصباح في المدارس، ونقرأها في الصحف.
لم يتح النظام السياسي أي فرصة لإعادة التفكير في هذه الحقائق، فهو لم يُحرّم فقط التشكيك بها، بل منعنا من مجرد قياس منطقيتها عن طريق إعادة ترتيبها في سياقها التاريخي.
بعض من هذه الشعارات قائمة على تحليل سياسي، قام به النظام نيابة عن الشعب، وفرضه عليهم. والبعض الآخر قائم على معلومات احتكرها النظام، ولم يُبد منها سوى ما أراد، دون أن نعلم ما ألحق بها من إضافة أو حذف أو تعديل.
من يكتب التاريخ؟
يقول ابن خلدون:
ومن الشائع أن «التاريخ يكتبه المنتصر»، وفي منطقتنا العربية، دائماً ما تكون الأنظمة السياسية هي المنتصر في مواجهة شعوبها، وفي كتب تاريخها.
فهي من تمتلك المعلومات حصراً، وهي وحدها القادرة على تفسير الحوادث، وأي تفسير ما دونها باطل.
وغالباً ما يدفع المؤرخون بأن التاريخ يبدأ حين تنتهي السياسة، أي لا ينبغي أن نكتب تاريخًا في بلد أثناء وجود الحاكم في سدة الحكم لأن الكاتب سوف يخضع للمناخ السياسي القائم ولهذا خطورته على العلم، ومن ناحية أخرى فإن ما تكتبه اليوم من أحداث وجلائل الأعمال يتغير في اليوم الثاني.
ولكن في المنطقة العربية، وتحديداً مصر، يُكتب التاريخ يوماً بيوم، وفي بعض الأحيان يُكتب بشكل مُسبق، فمع الإعلان عن مشروع (إنجاز من وجهة نظر النظام) من المزمع تنفيذه، يدخل في سجلات إنجازات الحاكم، حتى وإن لم يتم، أو يحقق فائدته المرجوة.
ورغم هذا، فإن مصر تتمتع بما يُطلق عليه «الثبات والاستمرارية» في قراءة وتدوين التاريخ الحديث. ففي الدول الأخرى، يأتي كل حاكم جديد، فيتجاوز تاريخ سابقه، ويحذفه أو يشوهه. ولكن في مصر، ونتيجة أن «دولة يوليو» هي من حكمت مصر منذ 1952 حتى عام 2011 بشكل متصل، بنفس أسلوب الدولة العميقة، وذات الأدوات، ولكن باختلاف رأس الحكم فقط، كان من مصلحة كل حاكم، التأكيد على إنجازات سابقه، لأنها تُحسب لدولة يوليو، وهو ما يمنحه المزيد من الشرعية للحكم، كونه جزءًا منها، وجزءًا من هذه الإنجازات التي حققت التقدم والرخاء (المزعومين).
لماذا انهارت الأساطير؟
لم يُكتب هذا المقال لمحاولة إثبات كذب وزور الأحداث التاريخية التي ذُكرت في أوله، ولكن للتذكير بأن دولة يوليو هي من صنعت من هذه الأحداث أساطير، لتُشكّل ملامح تاريخ الوطنية المصرية في نصف القرن الأخير.
وبالتالي فهي ليست مُحصنة ضد النقد والتشكيك. فالتاريخ أثبت في أكثر من مناسبة أن النظام المصري اختلق أساطير وهمية، أحياناً لمجرد النجاة، وأحياناً أخرى لصنع مجد زائف.
وقد تمتعت بعض هذه الأساطير باستقرار كبير، منحها الولوج إلى عمق الوعي الجمعي المصري، وذلك بسبب استمرار دولة يوليو لما يقارب 60 عاماً.
ولكن جاء عاملان رئيسيان ساهما في زعزعة استقرار هذه «الأساطير الوطنية»؛ الأول، هو تقدم تكنولوجيا المعلومات، فباتت الوثائق السرية (المُفرَج عنها، وغير المُفرَج عنها) متداولة بين العامة على نطاق واسع، وبالتالي انكسر احتكار الدولة للمعلومات والحقائق التاريخية.
الثاني، انكشاف أركان دولة يوليو العميقة، بعد ثورة 25 يناير 2011، وظهور مدى قدرة النظام السابق على تزييف الحقائق، ورفع الحصانة والقدسية عن المؤسسات والأحداث والشخوص الذين مجدّهم النظام السابق.
تاريخ الشعوب
ظهرت هذه الفقرة في مقدمة مقال نُشر في الأهرام بتاريخ 25 أكتوبر 2013. وهي لا تعبر فقط عن رأي كاتب المقال أو رجالات يوليو المخصلين (أكاديميين كانوا أو سياسيين)، وإنما تُعبر عن فئة واسعة من الشعب التي تغذت على هذه الإنجازات، واعتبرتها طوال السنوات الماضية مصدرًا للاعتزاز والفخر، وربما وجدت فيه السلوان عن تردي أوضاع السياسة والمعيشة.
لذا يكون التخوين، وأحياناً الاتهام بالعمالة، رد فعل هذه الفئات، حين يخرج أحد بمقال أو كتاب أو برنامج تلفزيوني يُشكك في إنجازات يوليو.
بالطبع ليس هناك متسع لمناقشة مدى دقة الأحداث التاريخية المذكورة في أول المقال، ناهيك عن أن كاتب المقال لا يقطع بنفي هذه الأحداث أو إثباتها. ولكن تظل القضية المركزية التي تشغل المقال هي رفع الحصانة والقدسية عن هذه الأحداث.
فهذه الأحداث منحت المجد والشرعية لنظام يوليو في المقام الأول، نفهيا أو ثبوتها لا يؤثر ولا يضرب في تاريخ الشعب المصري.
فتاريخ الوطنية المصرية الحقيقي صنعه الشعب ودوّنه وحافظ عليه عبر الأجيال، سواء في مواجهة العثمانيين أو الفرنسيين أو الإنجليز، المُجد صُنع حينما قامت ثورة 1919، والتاريخ كُتب حينما قامت ثورة 25 يناير 2011.