أربعون سنة يتيهون في الأرض
الأرْضُ المُقفِرَة: يقولون مُضِلّةٌ، شَمْسُها صَماء لا يُهْتَدَى بها، وقَمَرُها سناه حائرٌ، يقفُ بين السماء والأرض، فلا هو يَقْتَدِر على ظُلْمَة السماء فَيُنيرها، ولا على الحاجز الأرضي فَيَخْتَرِقه. فهي عند العَرب بَيْدَاء قَطَعَتْ السَّماءُ غَيْثَها، وعَصَفَتْ الرِّيَاح زَرْعَها فَجَعَلَتْها جُرُزا؛ فترى الأرض وكأنَّها خُسِفَت بِمَنْ فيها، فلا واحَة فيها ولا عَينًا تُغِيثُ لَهْفَة بَعير. فهذا والله كما قالت جدتي اللغة ذات يوم: هو التِّيهُ المُتَيِّه الذي يُتَيِّهُ، تَتَيْيُهًا.سَألتُ أبي التَّاريخ، فقال إنَّهُ لَمْ يَخُطْ لانْبِثَاقِها زَمنًا، لا في كُتُبِه ولا على جدْرَانِه ولا على أوراقِ أغْصَانِه، بل إنه سَمِعَ بها كما سمِعت أنا من أولئك الذين لم تَعُدْ الحَياةُ تَشُقْهُم بعدما امْتَطَاهُم حَادي الهموم والشقاء. ارْتَشَفَ قَهْوته، وأجْلَسَني إليه، فَتَحَدَّث كأنّمَا يُسَافرُ بي عبر الأزمان: لقد تَرَحَّلْتُ يَمْنَة ويَسْرَة، ونَقَّبْتُ في طَوَايَا الأَكْوانْ والأَزْمَان، ونبَشْتُ الماضي والمستقبل فلم أجِدْ لها حُدُودَا أو سَبِيلًا، فَعَزَمْت السَّفَر مع قَوافِل المُرْتادِين، فامْتَطَيْتُ جَوادي، وحين شَدّ الحَادي العِنَان أَسْدَلَ الظَّلامُ سِتَاره. لا تسألني كيف ولماذا، فأنا حين أفَقْتُ قَهْقَهْتُ حَتَّى الدَّمْع، فأنا الذي يُظْلِم النور بسِتَاره، ويُنِيرُ الظُّلْمَة بضِيائه، كيف يُعْيينِي الأمر؟ فلا تعْجَبْ فالأعْجَب قادم.يوم أَفَقْتُ كانت الشّمْسُ تَتَسَلَّق فتضيء المَشْرِق بأصْفَرِها والمغرب بأصِيلِها، والقَمَر يعْقُبُها فلمْ يَحْدثُ يومًا أن تمردتا، ورأيت البَحْر يَهَبُ السَّمَاء من السُحُبِ ما يُلُبِّدُها ويُغيثُ الأَنَام، فَتُنْبِتُ الأرض زرعهَا وتغَطِّي الأَدِيمَ بجِنَانها، فلا شَيء مُرِيب، الطَّبيعَة والبشر يَسِيران على بِسَاط العَادَة والتكْرار، كما هي سنَّة الحياة من المهد إلى اللَّحْد، فسألت حَادِيّا أين التيه؟ نحن في الزمن الذي يَخُطُّه قَلَمِي، فابْتَسَم لي باسْتِهْجَان ولم يَنْبُس.لكِنِّي لا أعْلَم حقًّا هل ما زال قَلَمِي يَخُطْ؟ يَخْتَلِجُني شَعُور التَّرَنُّح، أشْعُر بأنَّ قُدْرتي على الإحْكَام بزِمَامِ الأمُور قد فُقِدتْ، لا أدْري أين؟ ومتى؟ ولَكِنَّ السَّمَاء أمْطَرَت، فغمرني ماؤها بالعَجْزِ وازْدَدْتُ تَوجُّسًا، فللمرة الأولى مُذ خطّ قلمي، يَنْفَدُ الحِبْر، نَبْضُ قلبي يَسْمو ويَضْمَحِل كالرِّيح إذا عَادَت الموج، أُحِسُّ بالتِّيه.. ماذا أَقُول؟ تِيه؟ ليتَ شِعْرِي ماذا يَحْصُل؟ وإذْ بصديقتي الطبيعة تَدْنو منّي.لمْ تكنْ هي، أَقْسِم أنّها كانت خائفة، لا يَزَال صَدَى نَبْضِها يَتَجَلْجَل في أُذُنَيّ، فارْتِجَافُها أصابني بالهَلَع، ثمّ تَمْتَمَتْ في أذنيّ بكلام مُبْهَم، لم أسمع منه غير الهَمْهَمَة، وفَرَّت مُنْبَثّة مع الهواء، فَاشْتَعَل فُؤَادِي، ولمْ أَعْلَمْ للأَمْرِ مِنْ سَبَب، فصاح بي الحَادِي بعدما غَابَ عنِّي الوُجُود، والابتسامة الهَجِنَة لا تزال تَلْتَمِع على شَفَتيه: مُدَّ يَدَك، وأشار للمطر الهَاطِل لأسْتَقْبِلَه، فجَمَعْت كفيّ لتَحْمِل دمع السُّحُب، ولكنّي لن أنْسَى ما حَييتْ ما اعْتَلانِي في تلك اللحظة، فعَيْنَاي جَحَظَتا مَذْهَولَتين مِنَ المُعْجزة التي تمثَّلَتْ أمامهما.نَعَم الماءُ يَخْتَرِقُهما وكأنهما شَبَح، مُبْحِرًا إلى أرضٍ بلا وُجْهَة. فَصَرَخْتُ، ولكن أنَّى لي الصُّرَاخ، فالضَبَاب انْفَتَق من العدم، يُهَرْول تجاهي جائعًا مُتَبَرِّمَا، يحمِل بشرًا يتَنَاحَرون، وآخَر يَحْمِل رأسَه بين كفَّيه، ورجلٌ يمْسِك بامرأة وما ترَكَها حتى أكَلَتْها شَهْوتُه أكْلًا، وآخرون، تَتَدَلّى ألْسِنَتُهم مِنْ الأعراضِ التي انْتَهَكُوها، فلا تركوا رائِحًا أو غاديًا. هَرْولْت، وتَسَاءلْت: أَكُل المُوبِقاتْ تَدَاعَتْ؟ ولكِنْ لا مَحِيص، لقد تَسَرْدَقْت. يبدو أنَّ الطبيعة كانت تُنْذرُني أنّها سَتَمُوج. فَبِتُّ أشْعر أن الفُجَاج الذي أهَرْول فيه أضْحَى دِهْلِيزًا، والسَّمَاء أصبحت كالجُدْرَان تَقْتَرِب حَدَّ الالتِصَاق، والأكسجين صار حزنًا أتَجَرَّعُه، فَعَبَرَتْنِي الخَاطِرَة، أحَقًّا هذا هو التِّيه؟ فعِنْدها جاءني صَوت الحَادِي ينشد:
عَنْدها أيْقَنْتُ أنَّي عِنْدَ الفَجْوةِ السَّودَاء بين الواقع والخيال، حيث تَقْبَعْ أرض التيه.زَلْزَلْتُ رأسي وضَمَمْتُ جُفُوني وفَتَحْتُها، فَشَعرت وكأنّي أبْحَرْتُ في مُحِيطِ الزَّمان. أيْقَظَني صَوتُه وهو يَرْتَشِف الرَّشْفَةَ الثَّانية، ثم اعْتَدَل والهَيْبَة تَغْمُره، وعَادَ فسَألَني: أتريد الحقيقة التي لا مَنَاصَ منها؟ فالتِّيه مَجَازِيّ، فهو ليس أرضًا تَطَؤها أقْدَام، وتَتَحَسَّسُها أَنَامِل، بل هو نُزُلٌ للأرواح الهائمة الضَّالة العَمِه التي تترنح على شواطئ الضياع، التي أسْقاها ساقي خمْر الهوى، فشرِبت، فثمِلت، فَتاهَت، فَأتَاهَت. وأقْسَمَ أنَّ هذا الهَوى البَاخِع هو جُلُّ لَبَنَة هذه الأرض. فصَرَخْت له وأقْسَمْت بالذي يحيي العِظَام وهي رمِيم: أنَّ ما مِنْ قدمٍ في وطني إلا ووطَأَت هذه الأرض، وكأنَّ وطني مستضافٌ دائم هناك.نحن منْ نَصَبَ أَوْتَادَ وطَنِنَا في قَعْر التِّيه بِيد مِنْ حَدِيد إلى قيام الساعة. فنحن في مَرَجٍ بين الواقع والخيال، قلما نَعُدْ نُدْرِكْ ما الحَقِيقَة مِنْ الخَيَال، وما البَاطِل مِنْ الحَق، وما الظَّلام من اللَّيل، فنحن نَتَقَلَّبُ في أمواج المُتَضَادَّات بلا مَرْسَى، فالجميع في وطني ظالم ومظلوم، غني وفقير، صادق وكاذب، سارق وجلّاد، ألم أقل لكم أنَّ بَحْرَنا بلا سَاحِل؟ تَجَرَّعْنَا مِنْ بحر التيه حَتَّى جعلنا الظُّلم عدلًا، فنحن من جَعَل من حكّامنا وحوشًا مُسْتَبِدِّين، فَجَّرْنَا فيهم الكِبْر والاسْتِعْبَاد والغُرُور، حتَّى أَغَرُّوا بِنَا، وهذا كُلُّه حَصَاد تَصْفِيقِنَا وتَصْفِيرنا ومَدْحِنا ومُدَاهَنَتِنَا، فالمدح سيفٌ ماكر، تَسْتَلُّه للحرب فَيَرْتَدُّ في صَدْرِك. فالحَاكِم في وطَنِي ليس فقط مَنْ يَعْتَلِي عَرْشِ البَلَد ويَبْطِش بسِواطِه، أبدًا فالحكَّام في وطني كثير: أبٌ ظَالِم، وأخٌ يبطش بذكوريته، وأمٌّ ليس لها من الحَنَان إلَّا كَنُور شَمْعَة في لُجِّ الظَّلام، يا له مِنْ بحر دِهَاق لا يَنْفَد حتّى يُهْلِك.فَمِنْ ظَمَئنا تَجَرَّعْنا الثَّانية، فأصبح الرجال والنساء كقِنِّينَة الخَمْر ظاهر شَهِيّ وبَاطِن قَذِر، فالرجل يَتَحَدَّث عن الفَضِيلة الضَّائعة، فتراه يَنْهَر رَعِيَّتَه عن القِيل والقَال والخَوْض في أعَراض العامَّة، وهو في الدِّهْليز المُجَاور لبَيْتِه يَنْتظر تلك العذْراء التي تعبر الطريق مُتَوجِّسَة وكأنَها تَعْبُر صِرَاط جهنم، لِيُشْبِع جُوع رغْبَته. أمَّا المرأة فليست أقلّ سُوءًا منه، فَهُما سواء. شِقَّان رضعا من ذات الثَّدي، إذا أخطأ الأول فلا بُدَّ للثاني من خَطأ، فلا رجل مَعْصُوم ولا امرأة بَاغِية، كُلُّهم خَطَّاؤون. فالفَضِيلة في وطني كِتَابٌ مَفْتُوح له مَسِيرةُ أَلْف عامٍ مِنْ الكلمات والمعاني، يَخُطُّه الناس بقلم الهَوى، فكأنّك تبحث عن نُقْطَة ماء في بحر..فالبحر في وطني سَيْلٌ من الدِّماء المُتَدَفِّقة بلا انْقِطَاع وبلا خَوف من جّبَّار الجبّارين أن يَمْكُر، صار القَتْل عَادة والحَدِيث عنه كالحَدِيث عن شُرُوق الشَّمْس وغُروبها، وغَدَت النَّظَرَات اسْتِمْتَاعًا، والحُبُّ شّهْوة، فَلَمَّا كان الحُبُّ شَهْوة في وطني، كان الوَجْه الآخر لعُمْلَة الشَّهْوة هو المَرْأة، فهي دَاعِرةٌ عندما تَبْتَسِم، وعَاهِرة عندما تَضْحَك، فَبِئس ما حَكَم هؤلاء الجُهَّال.فالجَهْل مَطِيًّة التّائه في الصَّحْراء، يَرْتَحِله بلا وِجْهَة، فهو في وطني عِلْم يُدَرَّس في المدراس والمساجد وعلى الشّاشات وفي المقاهي الليلية وعلى الخِوان في بيتك، فوَطَنِي إِنَاء للأمْرَاض المعنوية والحِسِّية، أمَّا الأَخِيرة فهي في وطني نِعْمَة، حَيْثُ تَسُوقُك إلى أجَلِّ الأمَانِي وهي الموت، فاللَّيْل نَهَار والنَّهَار لَيْل، فأنَّى لنا النجاةُ في تيه لا سُرَادِق له؟ فرَحْمَةً بنا تَغْتَرِفْ لنا الدُّنْيا دومًا غُرْفَةً مِنْ بَحْر السَّعادة لتَنْتَشِلنا، فَتَنْظُر فلا تجد غير الأهواء تَحْكُم والجَوارِح تَبْطِش، فتفرُّ هاربة من كَآبَة المَنْظَر.لقد عَدل الفلاسفة والمُتَكَلِّمون عن التَّكَلُّم، بل أصابهم البُكْم بعدما اسْتَقْصوا كلَّ ذَرِيعَة، فلم يَعُد للأمل بِذْرَة تَنْبُت مِنْ جديد. هل للفلسفة معنى في أرضٍ التكلّم فيها يَفْضِي إلى التَّنَاحُر؟ هل يفيد حقًّا التحدث عن الفضيلة، والوطن قارب يَتَلاطم في أمواج الرذائل؟ ليت كان للأسئلة أجوبة، لما جاءت «ليت» من بحر التَّمَنِّي.