الاستثمار الأجنبي: أشباح الفساد
لوكسمبورج هي دولة صغيرة تقع عند تلاقي الحدود بين فرنسا وبلجيكا وألمانيا، يعيش بها ما يقرب من 600 ألف نسمة، ليست مشهورة بشيء على مستوى العالم سوى أن بها أغنياء كثيرين. كل هذا يبدو طبيعيًّا، عدد سكان قليل يعني أن هناك نسبة أكبر من الأغنياء، حيث يزيد نصيب الفرد من الناتج المحلي.
لكن هل كنت تعتقد أن لوكسمبورج تتلقى استثمارات أجنبية مباشرة سنويًّا تساوي ما تستقبله الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر من الصين وألمانيا وكل عمالقة الاقتصاد العالمي!
تستقبل لوكسمبورج سنويًّا استثمارات أجنبية مباشرة بما يقرب 4 تريليونات دولار. ربما تتساءل عن مصدر هذه الإحصائية؟ فهذا لا يمكن أن يكون صحيحًا بأي مقاييس، كيف تتلقى تلك الدولة ذات المساحة الصغيرة جدًّا وعدد السكان القليل كل هذه الاستثمارات؟!
توصل لهذه النتائج صندوق النقد الدولي في تقرير حديث. قدر باحثو الصندوق أن أكثر من ثلت الاستثمارات المباشرة في العالم هي استثمارات شبحية Phantom Investments. يعني هذا أن 15 تريليون دولار سنويًّا من الاقتصاد العالمي تتدفق بين دول العالم بدون أن تكون استثمارات حقيقية تسهم في النمو الاقتصادي وتزيد معدلات التوظيف.
ما هي الاستثمارات الشبحية؟
في العادة تتوسع الشركات متعددة الجنسيات في أنحاء العالم، يعني هذا التوسع أن تقوم الشركة بضخ أموال جديدة في أحد فروعها في دولة ما، وضخ الأموال هذا يعتبر استثمارًا أجنبيًّا مباشرًا للدولة المستضيفة لتلك الأموال.
لكن في حالة الاستثمارات الشبحية فإن تلك الأموال تضخ لشركات وسيطة (واجهة)، عادة ما تكون في بلدان ذات معدلات ضرائب منخفضة، حتى تستطيع الشركة الأم تحويل الأموال لها من أجل التهرب الضريبي.
هناك 10 ملاذات ضريبية مشهورة في العالم، أهمها لوكسمبورج وهولندا، فالاثنان معًا يستحوذان على 50% من أموال الاستثمار الموجهة للتهرب الضريبي، إذا أضفنا لهؤلاء أيرلندا، هونج كونج، جزر العذراء، وجزر الكايمان تصبح تلك النسبة 85% من أموال التهرب الضريبي في العالم.
تؤثر تلك التقنيات التي تستخدمها الشركات للتهرب الضريبي على الجميع، على الدول المتقدمة والنامية. فالتزايد في تلك الاستثمارات يعني أن الحصيلة الضريبية للدول المتقدمة سوف تتأثر بشكل كبير، وبالتالي يتأثر تمويل البرامج الاجتماعية من تعليم وصحة وغيرها من الخدمات العامة.
أما في الدول النامية فغالبًا ما ترتبط الملاذات الضريبية بالفساد السياسي في النخب الحاكمة ورجال الأعمال، وهو ما يصعب لاحقًا عملية استرداد تلك الأموال، كما حدث مع مصر .
تنشئ الشركة الأم فروعًا لها في تلك الملاذات الضريبية، غالبًا ما تكون فروعًا وهمية، ثم تقوم الشركة بتحويل الأموال التي ربحتها من البلد الرئيسي الذي تعمل به إلى تلك الشركات الوهمية في مناطق الملاذات الضريبية، كمقابل لخدمات استشارية غير حقيقية.
يتم بذلك حساب الأرباح التي ربحتها الشركة الرئيسية على أنها تكاليف ومدفوعات لقاء خدمات من شركات أخرى أجنبية، وبالتالي تقل أرباح الشركة المسجلة، ومن ثم تقل كمية الضرائب التي تدفعها الشركة الرئيسية بنسب كبيرة.
تلجأ بعض الشركات إلى طريق آخر، حيث يعيدون تلك الأموال مجددًا إلى البلد الأم، لكن هذه المرة تحت اسم الشركات والفروع الأجنبية المُنشأة في الملاذات الضريبية، فتدخل تلك الأموال بذلك تحت بند الاستثمار الأجنبي الذي لا يخضع لنفس قانون الضرائب المحلي، وتُعرف تلك العملية باسم الاستثمار الدائري.
الشركات الوهمية التي يتم إنشاؤها في مناطق الملاذات الضريبية عادة لا يعمل بها أي موظفين، ولا يوجد لها أي مكاتب أو مقرات حقيقية، فقط عنوان المقر الذي تتشاركه العديد من تلك الشركات الوهمية.
على سبيل المثال يعد مبنى «أوجلاند هاوس» في جزر الكايمان مقرًّا لأربعين ألف شركة.
مصر والاستثمارات الشبحية
في أبريل 2016 أعلن الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين عن أكبر تسريب لوثائق خاصة بالملاذات الضريبية. كان التحقيق الذي عرف لاحقًا بوثائق بنما، سرب ما يقرب من 11 مليون وثيقة تخص بيانات 214 ألف شركة وشخص يستخدمون الملاذات الضريبية في العالم.
نالت تلك الوثائق سياسيين ورجال أعمال من كل دولة في العالم تقريبًا، بداية من بوتين وحتى جيمس براون، من القذافي وحتى بشار الأسد، وبالطبع جمال وعلاء مبارك.
كان هذا الكشف الأكثر دقة عن ثروات عائلة المخلوع مبارك، بعد كل تحقيقات لجان الكسب غير المشروع في مصر .
في تلك الوثائق ظهرت ملكية جمال وعلاء مبارك لعدد من الشركات المسجلة في جزر العذراء البريطانية، كان علاء يمتلك شركة تحت اسم “PAN WORLD INVESTMENTS INC” تلك الشركة امتلكت بدورها حصصًا في شركات استثمرت في مصر أيام حكم مبارك، وصناديق استثمار أخرى في مصر وحول العالم.
امتلكت شركة بان وورلد إنفستمنت، المؤسسة في جزر العذراء، 50% من شركة بوليون المؤسسة في قبرص، والتي يملكها كل من جمال وعلاء مبارك. وامتلكت بوليون بدورها 35% من صندوق إيه أف جي هيرمس للاستثمار المباشر، التابع للمجموعة المالية هيرمس، أحد أكبر بنوك الاستثمار في مصر والمنطقة العربية.
من ناحية أخرى امتلكت الشركة التي وردت في وثائق بنما حصة في صندوق مصر للاستثمار (Egypt Fund) المسجل في جزر الكايمان، بمشاركة شخصيات بارزة من رجال أعمال عصر مبارك مثل حسين سالم وأحمد عز. امتلك الصندوق حصصًا في 18 شركة عاملة في مصر في مجالات مختلفة.
في الفترة من 1970 وحتى 2013 كانت جزر الكايمان، وهي أحد أشهر الملاذات الضريبية في العالم كما ذكرنا، سادس أكبر مستثمر أجنبي في مصر، أكبر من فرنسا وأمريكا. كانت لتلك الجزر الصغيرة 85 شركة تستثمر في مصر.
بالطبع كانت تلك الشركات، والتي يصل رأسمالها لما يقارب 5 مليارات جنيه، شركات وهمية تمثل في الحقيقة شركات مصرية تستخدم الملاذات الضريبة من أجل التهرب من الضرائب في مصر.
تنتشر هذه الظاهرة في مصر مثلها مثل بقية الدول، فتقدر شبكة العدالة الضريبية ممارسات التهرب الضريبي المختلفة، التي يأتي من ضمنها الممارسات المتعلقة بالملاذات الضريبية، في مصر بنحو 68 مليار جنيه سنويًّا، وهو الرقم الذي أكدته حكومة إبراهيم محلب في إستراتيجيتها لمكافحة الفساد.
قدرت أيضًا منظمة النزاهة العالمية Global Financial Integrity تكلفة التلاعب بالفواتير، وهي إحدى وسائل التهرب الضريبي باستخدام الملاذات الضريبية، في الفترة بين 2001 و2010 بنحو 22.3 مليار دولار أي بمتوسط 2.2 مليار دولار (ما يساوي حاليًّا 40 مليار جنيه مصري) في السنة الواحدة.
هل يمكن حل المشكلة؟
في الآونة الأخيرة بدأت دول العالم إجراءات من شأنها أن تعاقب على تقنيات التجنب الضريبي التي تمارسها هذه الشركات. فمثلًا أعلن الاتحاد الأوروبي في مارس الماضي عن توسيع قائمته السوداء للملاذات الضريبية، والتي كان قد أعلنها في 2017 . لكن محاربة تلك التقنيات تتطلب تغييرًا أوسع في منظومة القوانين الحاكمة لحركة الأموال على مستوى العالم.
لا يستطيع الاتحاد الأوروبي أو غيره أن يمنع حرية حركة الأموال والاستثمارات، في ظل عالم معولم بالكامل كالذي نعيش فيه. ما يحاول هؤلاء الساسة أن يفعلوه هو محاولة تحجيم الضرر الناتج عن تلك المشكلة.
ففي حين ركزت العولمة على تسهيل حركة رءوس الأموال من خلال اتفاقات التجارة الحرة والمشتركة، فإنها لم تعمد في المقابل إلى إحداث تغيير ضريبي شامل في القوانين الضريبية حول العالم. بالتالي سعت دول من أجل الاستفادة من هذا القوانين الضريبية غير المعولمة.
أصبحت الملاذات الضريبية في مركز الخطاب الإصلاحي الحالي للرأسمالية، ولا عجب في اهتمام صندوق النقد الدولي بالتحذير منها؛ لأنها في النهاية تقوض الحصيلة الضريبية، وبالتالي تسهم في تنامي عجز الموزانة العامة، وهو السبب الأهم في الاقتراض من صندوق النقد.
على الجانب الآخر تعبر تلك الظاهرة عن زيف أسطورة كون الاستثمار الأجنبي المباشر الدافع الرئيسي لعجلة التنمية.
فبعدما أصبحت أكثر من ثلث تلك الاستثمارات عالميًّا هي من أجل التجنب الضريبي، لا بد أن يعاد النظر في موقع الاستثمار الأجنبي من أي خطط تنموية.
فالحوافز الضريبية في المناطق الحرة والإعفاءات التي تقدم للمستثمرين الأجانب قد أصبحت غير مجدية، لأن الأرباح في النهاية سوف يتم تحويلها لخارج تلك البلدان من أجل تجنب دفع أي ضرائب عليها.
علي المستوى العام تسهم تلك الظاهرة أيضًا في زيادة معدلات اللامساواة في العالم أجمع. فالشركات التي يملكها المليادريرات تتهرب من دفع الضرائب الواجبة عليها، بينما يقع عبء الضرائب،لسخرية القدر، على الطبقات الوسطى والفقيرة، التي لا تملك من دفعها مهربًا في الكاريبي.