يعيش بطيخ مولانا: عن البيع بالإكراه في زمن المماليك
واحد من أشهر مشاهد فيلم «الفتوة»، يوضح كيف تستطيع السلطة بمحاسيبها والمنتفعين منها أن يسيطروا على السوق ويبيعوا بضائع رديئة بأسعار أغلى من قيمتها، وذلك بترهيب الناس وإجبارهم على شراء السلعة وهم يهتفون لها، رغم أنهم يتمزقون داخلهم من القهر:
«مولانا» في فيلم الفتوة كان يقصد به فاروق الأول، ملك مصر، والمشهد الذي يسخر منه في الفيلم المنتج عام 1957، ربما كان مألوفًا في أسواق مصر قبل زمن فاروق بقرون، خاصة في العهد المملوكي.
في زمن المماليك شاعت ظاهرة «الرمي والطرح»، حيث كان السلطان أو الأمير تاجرًا له بضائع تباع في السوق، مستغلاً سلطته في إجبار الناس على شرائها بأغلى من ثمنها المتعارف عليه.
في السطور التالية نستعرض بعض أشهر قصص القهر والذل المرتبطة بهذه الظاهرة، ونحاول إيضاح أدوات تنفيذها من قبل السلطة، ومحاولات تمرد الشعب عليها في مصر وسوريا.
قصص من زمن القهر
عرفت ظاهرة البيع الإجباري في العالم العربي ربما قبل المماليك، ولكنها شاعت بشدة في عهدهم، وكانت في بدايتها مقتصرة على سلاطين المماليك ومن يعملون معهم، ثم انتهجها الأمراء المحليون لدعم ثرواتهم الخاصة، حسبما يذكر البروفوسير إرا لابيدوس (Ira M. Lapidus) في كتابه «مدن إسلامية في عهد المماليك» من ترجمة علي ماضي.
ووصل الأمر إلى التلذذ بقهر الناس والإسراف في ذلهم؛ ومن ذلك أن أيدكين الأزكشي والي القاهرة دخل برجاله مكانًا يجتمع فيه الناس للهو والسمر، وأخذ من المجتمعين ثيابهم، ثم أجبرهم (طرح عليهم ملابسهم) في اليوم التالي على شرائها، حسبما يذكر ابن يحيي اليوسفي في «نزهة الناظر في سيرة الملك الناصر».
وفي أحداث عام 895هـ يحكي ابن طولون في «مفاكهة الخلان» أن تاجر صابون انتحر شنقًا في بيته، لأن أحد رجال السلطان الأشرف قايتباي (دودار السلطان) طرح عليه صابونًا بأغلى من سعره وهو لا يستطيع الرفض ولا يملك الدفع.
ولم يسمح بدفن الجثة إلا بعد أن استوفى الدودار ثمن الصابون (25 دينارًا)، بل وعوقب والد التاجر، وحكم عليه بالشنق لأنه لم يعط ابنه ليدفع ثمن الصابون، ثم خفف الحكم عن الأب وغرّم بـ100 دينار!
شرف الدين النشو مُدَبِّر المملكة في عهد السلطان الناصر بن محمد بن قلاوون، كان من أهم من مارسوا الطرح والرمي، ومن أشهر الحوادث المرتبطة بذلك أنه كان يملك كميات من الأبقار، فلما هرمت وضعفت أراد استبدالها بأخرى شابة، ففعل ذلك من مال الناس وليس من ماله.
طرح النشو أبقاره على التجار، حتى لم يبقَ تاجر في القاهرة إلا وقد اشترى قسرًا بقرة منها بخمسة أضعاف سعرها، ولم يملك واحد منهم أن يبدي امتعاضًا؛ فالأبقار تخص واحدًا من أهم رجال السلطنة، إن لم يكن أهمهم بعد السلطان، حسبما نفهم من «مسالك الأمصار» لابن فضل الله العمري.
وفي قصة شبيهة طرح الأمير فخر الدين بن أبي فرج جواميسه على الناس، وأجبرهم على شراء الجاموسة باثني عشر ألف درهم، في حين كان سعر الجاموسة الجيدة في هذا الوقت لا يتجاوز ألفي درهم، حسبما يذكر المقريزي في «السلوك لمعرفة دول الملوك».
وفي عام 886هـ – 1481م، أجبر نائب دمشق التجار على شراء السكر من معمل تكرير تابع له بضعفي سعره العادي، حسبما يذكر ابن طولون في «المفاكهة».
ومن أشهر السلاطين الذين مارسوا هذه السياسة لحساب تجارته الخاصة كان الأشرف برسباي (تـ841هـ – 1438م، الذي كانت له تجارة في السكر واللحم والخضروات والغلال والتبن، حيث كان يجلب هذه المنتجات ويوزعها قسرًا على التجار، فيشتروها منه بأضعاف سعرها، ويبيعونها للمستهلك بأقل مما اشتروا منه، حسبما نفهم من المصادر.
ينهبون الناس ثم يبيعون لهم بضاعتهم
العجيب أن الكثير من أموال الأمراء والسلاطين التي كانوا يتاجرون بها لم تكن كلها ملكهم، بل الكثير منها كان من حصيلة النهب والسطو المسلح، أو مصادرة الأموال.
من الأمثلة على النهب ما كان يفعله فخر الدين بن أبي فرج، كاشف الكُشّاف (مسؤول عن ولاة الأقاليم)، فقد كانت قرى بأكملها تهاجم وينهب ما بها بأمره بل وبيده.
ففي عام 816هـ – 1413م، هاجم بنفسه مجموعة قرى بالصعيد ونهب ما بها من محاصيل وحبوب وحيوانات وذهب، وسبى بعض النساء، وحين عاد إلى القاهرة طرح ما معه على التجار بأغلى الأسعار.
وفي عام 819هـ – 1416م هاجم قرى البحيرة ونهب مائتي رأس بقر، و4آلاف و600 رأس ماعز، و3آلاف رأس ضأن، مائتي حمار، حسبما وثق المقريزي.
ويوضح المقريزي أن هذه الحوادث كانت تتكرر باستمرار، ففي عام 820هـ – 1417م، نهب فخر الدين من قرى الصعيد، جنوبي مصر، 6آلاف بقرة، و8آلاف غنمة، وألفي جمل، وألف قنطار من القند (العسل الأسود المصنوع من القصب)، وألفًا من الإماء والعبيد، ثم أخذ في طرح كل ما سبق على الوجه البحري، شمالي مصر.
وفي عام 911هـ – 1505م، نهب نائب دمشق أركماس من طراباي أكثر من ألفي جمل ونوق، وباعها للجزارين والطباخين في دمشق بأضعاف ثمنها، وفي نفس العام نهب نفس النائب ممتلكات نائب بيروت الذي كان يمتلك مصابن (معامل صناعة الصابون) كبيرة، وأعاد طرح الصابون على الناس بأضعاف سعره، حسبما يذكر ابن طولون في «مفاكهة الخلان».
أما مصادرة الأموال، فكانت أيضًا مصدر دخل كبير لصالح السلاطين، وباستعراض بعض المصادرات نتخيل كم الثروة التي تأتي من ورائها، ومن ذلك مثلاً ما قرره الناصر محمد بن قلاوون بإلحاق أراضي جزيرة الروضة بالكامل إلى أملاكه، حسبما يذكر المقريزي.
كما يذكر ابن إياس في «بدائع الزهور» ما صودر من ممتلكات بعض الأمراء الصغار من المماليك عام 737هـ – 1336م، لصالح خزانة الناصر محمد بن قلاوون، والتي قدرت بأكثر من 12ألف أردب، وحين صودرت تركة الوزير كاتب أرنان (تـ789هـ – 1387م)، لصالح خزانة السلطان الظاهر برقوق، كان بها 300 ألف أردب من القمح، و6آلاف من أنواع مختلفة من الحبوب.
وحين صودرت أملاك المحتسب الشهاب أحمد بن العيني، قدر ثمن تركته بـ100ألف دينار، واشتملت على حبوب وغلال وخيول وإقطاعات، بحسب ابن إياس.
ووصل الأمر إلى التفكير في مصادرة أموال وأراضي الأوقاف، والتي أوقفها أصحابها للإنفاق على مدارس أو مساجد أو أي منافع عامة للناس؛ حيث فكر السلطان برقوق في الأمر، واستدعى القضاة والمشايخ لأخذ فتوى دينية بذلك، ويوضح ابن إياس أن اعتراض الشيخ سراج الدين البلقيني على ذلك، وفتواه بحرمته أجبر برقوق على التراجع.
حيل للسيطرة على التجارة داخليًا وخارجيًا
ليحكم المماليك (سلاطين وأمراء) قبضتهم على التجارة، ليضمنوا ألا تتسرب إلى السوق بضائع بأسعار أقل مما يطرحونها، لجؤوا إلى بعض الحيل.
في أوقات كثيرة حول المماليك التجار المستوردين إلى مجرد جلابين للبضائع من خارج السلطنة، فقد كانوا يصلون الموانئ المملوكية ببضائعهم فيجدوا رجال الدولة في انتظارهم لتحصيل الضرائب والرسوم المفروضة عليها، ثم يجبرونهم على بيعها لسماسرة السلطان وهم في الميناء، وبعدها يعاد بيع البضائع -وربما لنفس التجار- بأسعار أغلى من السوق الداخلية.
حدث ذلك لتجار الكارم (التوابل والمنتجات التي تأتي من الصين والهند والشرق عموما) المصريين، حيث أتوا ببضائع من الصين عام 737هـ – 1336م في ميناء الإسكندرية، وصادرها سماسرة السلطان ابن المنصور قلاوون، ثم أعادوا بيعها، حسبما يوضح سامح عبد الرحمن فهمي في دراسته «القيم النقدية في الوثائق المملوكية».
ويوضح سامح أن هذا الأمر تسبب في مقاطعة التجار لمينائي الإسكندرية ودمياط، بعد أن انتهى الأمر بتعيين الدولة مسؤولاً تابعًا لديوان السلطان ليتسلم كل ما يرد من الخارج، ثم يعيد طرحه.
داخليًا كان السلاطين والأمراء والقضاة ومحاسيبهم يسيطرون على الكثير من أدوات الإنتاج نفسها، خاصة المحلات التي يؤجرونها للتجار، كما يوضح لابيدوس في كتابه، وبالتالي كان التاجر مهددًا بالطرد من محله أو مخزنه إن لم ينصعَ للمالك الذي كان في الوقت نفسه تاجرًا يطرح بضائعه عليه بالسعر الذي يقرره.
من ناحية أخرى كان هناك توجيه للإنتاج لصالح السلطان، ومن ذلك ما قرره السلطان الأشرف برسباي عام 831هـ – 1427م، بمنع زراعة القصب إلا في أراضيه فقط، ليحتكر صناعة السكر ويطرحه بالسعر الذي يريده، وكذلك العسل الأسود، حسبما يذكر ابن إياس.
هل صمت الشعب على هذا القهر؟
لم يكن هناك مجال للرفض أو التمرد، وإذا حدثت مجرد شكوى كانت تواجه بعنف، كما حدث بـ«القبيبات» في الشام عام 904هـ – 1498م، حين اشتكى التجار لنائب الشام عجزهم عن دفع ثمن الجمال المطروحة عليهم، فاعتبر النائب أن مجرد الشكوى لا تصح، وأمر رجاله بضربهم، بل وعزل الوالي الذي سمح لهم أن يذهبوا للنائب ويشتكوا له، وأجبرهم على الدفع، حسبما يذكر ابن طولون.
ولكن قد تنجح محاولات الشعب أحيانًا؛ ففي أزمة طرح نائب دمشق للسكر بضعفي سعره، عن طريق رجله «ابن شادبك»، صعد الناس المآذن وعلت التكبيرات والدعاء على ابن شادبك الذي رفع سعر السكر من 14 درهما إلى 28، فتدخل النائب (رغم أنه صاحب المعمل) واقترح أن يكون السعر 23 درهمًا، فرفض الناس الذين فوضوا المشايخ للحديث نيابة عنهم.
نتيجة لذلك راسل مشايخ دمشق مشايخ القاهرة، وعلى رأسهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وقطب الصوفية ابن الصابوني، والقطب الخيضري، ليتدخلوا بدورهم لدى السلطان الأشرف برسباي في القاهرة، الذي رد بمرسوم إلى نائبه على الشام بأن يجمع أهل الخبرة والاختصاص ليضعوا سعرًا عادلاً للسكر، حسبما يذكر ابن طولون.
وللمفارقة كان برسباي نفسه يمارس في مصر ما فعله نائبه في دمشق كما ذكرنا، ولكنه اختار في هذه الواقعة أن ينحاز للشعب.
وفي بعض الأحيان استطاع الناس التعبير عن غضبهم بشكل أقوى، وصل إلى الإضراب عن العمل وإغلاق المتاجر والمحلات، ولكن ذلك كان يواجه بحسم، كما حدث حين أضرب تجار قيسارية في فلسطين، فهدد شرف الدين النشو بنهب أي دكان مغلق، وشنق التاجر المضرب عن العمل، إن لم يدفع ثمن البضائع المطروحة عليه.
وفي بعض الأحيان قد يستطيع الناس مواجهة السلطة بسلوك أعنف، كما فعل أهالي المحلة (بمحافظة الغربية المصرية الحالية) عام 821هـ – 1418م، حين رشقوا الوالي بالحجارة، حسبما يذكر المقريزي.
ونفس الأمر فعله أهالي دمشق عام 843هـ – 1439م، حيث أغلقوا دكاكينهم ورجموا نائب السلطنة «جلبان» وهو يسير في موكبه، وحدث هرج ومرج في المدينة لم ينتهِ إلا بتدخل القضاة وعقلاء الأمراء، حسبما يذكر ابن إياس.
المسألة كانت دائمًا تخضع لأهواء السلطة وموازنات القوة، لا للقانون أو النظام، وكان لشخصية السلطان ومزاجه الشخصي الوقتي دور كبير؛ ففي بعض الأحيان كان السلطان يقرر أن يريح الناس ويخفض الأسعار، كما فعل الناصر محمد بن قايتباي، عام 892هـ – 1486م، حيث فتح مخازنه وأجبر أمراء المماليك وكبار التجار على فتح مخازنهم وإغراق السوق بالقمح ليخفض أسعاره.
وفي بعض الأحيان كان الأمراء يرفضون إجراءات تخفيض الأسعار التي أقرها السلطان فيواجهون بالتهديد، كما حدث عام 796هـ – 1393م حين أجبر محتسب القاهرة الأمراء على بيع مخزونهم من القمح وإلا تعرضوا للسلب والنهب من قبل جنود السلطان وأعوانه، حسبما ينقل المقريزي.
ومن ذلك أيضًا ما فعله نائب الشام «أركماس من طراباي»، في دمشق، بعد أن قل اللحم والقمح، حيث أمر كل من كان عنده قمح ببيعه وإلا تعرض للنهب، حسبما يذكر ابن طولون في «إعلام الورى».
وكما ذكرنا في حالة السلطان برسباي قد يقوم نفس الحاكم بسلوكين متضادين؛ فنائب دمشق مثلاً الذي أمر بفتح المخازن وبيع القمح ليرخص سعره، هو نفسه الذي صادر أموال نائب بيروت وطرح الصابون الذي صادره من معامله على التجار، وهو نفسه الذي يصف ابن طولون عهده ويقول: