«كله يهون في سبيل الميدالية الذهبية»!
كلما سمعت جملة «كله يهون من أجل الذهبية» احتبس صوتي وارتعش قلبي وتلجم لساني. أجدني أجلس كما التمثال، وأعود لأحلام اليقظة التي رافقتني منذ طفولتي. تلك الأحلام التي أرى نفسي فيها في مكان آخر أو حياة أخرى، وأنفصل عن واقع يرفضه عقلي.
كنت أجلس على مقعدي في صالة تدريب الجمباز أراقب ابني يحاول ويجتهد، ينجح تارة ويفشل تارة أخرى. أراقبه يتمرد على تعليمات المدرب ويتفاوض معه بالأرقام أو بالبكاء أو بالزن أو بالامتناع. أراقب المدرب، وهو مثال لضبط النفس، في معادلته للحسم واللين. يتحدث بصوت حازم ولكنه لا يزعق. يكرر الأمر بدون انتهاك لاحترام الطفل. يقسو، أحياناً، بدون إهانة أو عنف أو شتيمة.
في جانب آخر من صالة التدريب أسمع (لسوعة) الأصابع الكبيرة على الأجساد الصغيرة. أسمع الإهانة والسخرية والشتائم. أرى الضرب والانتهاك الصريح للأجساد. الفتيات تبكين في ذل وقهر، والصبيان يكبتون نحيبهم فتخونهم دموعهم. تتقوض الإرادة وتهان الكرامة والأمهات واقفات لا مباليات – مشجعات متضامنات متقبلات في أحيان كثيرة.
«كله يهون في سبيل الميداليات الذهبية»!
أتخيل نفسي صارخة فيهن! لكنني أجبن من مواجهة كل هؤلاء الأمهات والمدربين! أتساءل في صمت عن حال هؤلاء الأطفال في البيت؛ بالتأكيد يتكرر سيناريو العنف اللفظي والجسدي ضدهم. سرعان ما تقفز أمامي صور التعليم والمعلمين في الفصول التي لا يدخلها الشمس.. أو الحب. ماذا جنى الطفل لتكون هذه حياته؟
أرتمي كل ليلة في حضن كتب ماريا مونتيسوري، وأعيد قراءة كلامها عن احترام الطفل، وعن الحواجز النفسية التي تنشأ بين الطفل ومواد بعينها أو القراءة أو ممارسة الرياضة بسبب تجاربه السلبية أثناء تعلمهم. تتحدث عن انفصال الطفل عن واقعه وهروبه بالأحلام والخيالات ليتغلب على مشاعر الفشل والإحباط. تذكرنا مراراً وتكراراً أن طفل اليوم هو رجل الغد وأن مستقبل البشرية بين أيدي أطفالنا.
كيف نتقبل هكذا بكل هدوء تشويه نواة المستقبل؟
يخرج آدم من التدريب بعد انتهائه ويوصيني المدرب باحتضانه و«تدليعه» لأنه يحتاج للمزيد من الحنان والحب. أنظر للمدرب ولآدم في عجب؛ يستطرد المدرب «ما تنسيش تلعبي معاه. مش كله أوامر وطلبات».
أبتسم وألملم أشيائي، وأنا أراقب فتاة باكية، ضربها مدربها على مؤخرتها وهي تؤدي إحدى الحركات أثناء التدريب. أنظر لوالدتها أجدها تصرخ في الفتاة: «بطلي دلع ومرقعة! الدهبية هتروح منك».
هذه الفتاة قد تصبح بطلة فعلاً، بدليل الميداليات الذهبية التي حصدتها، ولكن ذكريات رياضتها المفضلة، وذكريات طفولتها ككل، ستثير غثيانها عندما تكبر. الأسوأ من الغثيان هو تأثير هذه الانتهاكات المستمرة على حياتها.
إذا كان من حق الكابتن أن يضربها، فمن حق أي رجل آخر أن يمد يده عليها. ستقف عاجزة تماماً عن الدفاع عن نفسها، مثلما عجزت عن الدفاع عن نفسها وهي طفلة. من حق المعلم أن يضربها على يدها لتتذكر دروسها، ومن حق أستاذها بالجامعة أن يهينها ليتقن تعليمها، ومن حق خطيبها أن يجرجرها من شعرها في خلاف بينهما، ومن حق زوجها أن يصفعها باسم الحب ومن حق مديرها أن يخاطبها بأسلوب غير لائق باسم مصلحة العمل.
بالمثل، سيصبح العنف طريقها مع أولادها، لأنها لم تعرف طريقة أخرى للتربية أو التعليم أو التفوق. ستصبح الإهانة مجرد خطأ وسيصبح الانتهاك حبا وسيقترن التفوق بالألم وقبول الإساءة … دائماً. إنها دائرة مغلقة من جرائم الإساءة في حق الأطفال – نواة المستقبل – ولن تنكسر سوى بالرفض! الرفض بالإجماع!
أتمنى أن نرفض كلنا الضرب والعنف اللفظي والنفسي كأساليب للتربية والتهذيب في المنزل أو المدرسة أو التدريب. هل من الممكن قبل إدراج طفلك بمدرسة ما، سؤال الإدارة عن سياستهم في التعامل مع أخطاء الطلبة؟ هل من الممكن مقاطعة المدارس التي تنتهك الطفل بالقول أو الفعل؟ هل من الممكن أن يعاقب النادي، أو إدارة صالات التدريب الخاصة، المدربين الذين يتجاوزن في حق الأطفال؟ هل يمكنك رفض الاعتداء على طفلك وإهانته؟ هل أنت مقتنع حقاً أن الكرامة حق للجميع؟ هل يمكننا جميعاً الحفاظ على كرامة أطفالنا؟
هل ننشئ صفحة على الفيسبوك تفضح المدارس والنوادي التي يتم الاعتداء فيها على الطفل تحت أي مسمى براق؟ هل ندشن حملات لمقاطعتهم؟ هل نصور أفلاما وثائقية توثق هذه الانتهاكات؟ هل نؤسس منظمات مجتمع مدني تشرف على أداء المعلمين والمدربين؟
يقول د. وليام سيرز: «إن السر الخفي وراء سلوك الطفل السيئ هو ضعف تقدير الذات؛ إذا شعر الطفل أنه سيئ، سيكون سيئًا. إذا عاملته على أنه فاشل، سيفشل. إذا عاملته على أنه بلا كرامة، سيصبح (مرمطون)».
دورنا، كأمهات وآباء، هو حماية أطفالنا، عاطفياً وجسدياً من كل أشكال الاعتداء والانتهاك. من منا يريد لطفله أن يشب ويكبر ليعاني من ضعف تقدير الذات وتبعاته؟ من منا يريد ابنةً بلا عزة نفس؟ من منا يريد ابناً متخبطاً مكسورًا من الداخل؟
القراء والقارئات، انصحوني! أنا أذهب إلى صالة الجمباز مرتين بالأسبوع، كيف أوقف هذه المهزلة؟ من أين آتي بالشجاعة لأصرخ في وجه من يقول: «كله يهون في سبيل الميدالية الذهبية»!