لَاجْلِ النَّبىّ !
بعيدا عن الأوساط الشعبية التي بالقرب من جامع الحسين وجامع السيدة زينب خرجتُ من محاضرة في المناهج تحت قبة جامعة القاهرة فاجتذبني صوت الموسيقى المألوفة لأغنية (لاجل النبي) فتعبتُه حتى أوقفني سريعا بين يدي سرادق مضيء، بدا كأنه من تصميم مهندس ديكور حاذق، تتألق أضواؤه على مسرح كمسارح المغنين المشهورين، وباقات من الشبان والفتيات يقفن لانشغال كل المقاعد بالجالسين من طلاب الجامعة، حيث ترتدي كل الفتيات سراويلهن الجنزِية المشدودة، تحت ستراتهن الشتوية المهتزة، تعلو وتهبط مع أنغام الليلة المحمدية، وأحيانا تنسدل السترات حتى تغطي الاهتزازات الجنوبية وفي أكثر الأحيان تنتهي قبل القيام بهذه المهمة.
وبين هذه الانفعالات النسائية الراقصة شمالا وجنوبا يتابع الشبان عن كَثَب بكل اهتمام هذا التفاعل الغنائي في حب النبي صلى الله عليه وسلم، متيمين بنور الحقيقة المحمدية المنعكس على الحركات المتأرجحة للنهود والسماء، وكنتُ من بين هؤلاء الشبان أتأمل..
صاح الجمع مرة واحدة وصفقوا للمغني (المنشد) المرتدي بدلته الأنيقة وربطة عنق مميزة أمام فريق من عازفي الموسيقى العربية، مع جوقة من الكواعب متحدات الأزياء شبه المتسترة.
وبسبب عذوبة اللحن وحسن الأداء فحسْب نازعتني نفسي أن أبقى قليلا لكن العناصر الرمزية الأخرى للحالة الصوفية أصابتني بتشويه استفزني فغادرت أقول لنفسي، وتقول لي:
كيف يلتقيان؟!!
التصوف والمجون؟ ولا أقصد هنا البتة بالمجون مجرد السماع أو وجود الموسيقى ولا مجرد وجود الفتيات ولكن الحالة بكل أطرافها كانت لا تحمل على التصوف بوجه..
لاح لي الأمر كأنه أضغاث أحلام شتى، اجتمعت من أقطارها لمحموم في مذاق أقرب ما يكون لمزيج من الحامض والحلو، لكل طعمه المميز على حدةٍ ولكن لا معا!!
التصوف وهو شدة التقرب إلى الله وسمو الروح، مع المجون وهو شدة التقرب من المادة ودُنُو الجسمانية!! كيف يمتزجان؟!
لكل منهما لذته –والتجربة خير شاهد- لكن أيتأتى الجمع بينهما عقلا أو وجودا؟! عندها تذكرت بعض اصطلاحات الصوفية عن: «الخمر الإلهية، وخلع العذار، والتهتك، … إلخ» وكذلك بعض تفسيراتهم لهذه الحالة من كون الصوفي قد جُذب رغما عنه لا باختياره، غائبًا عن الحاضر، فلا تسري عليه أحكام الناس من ضرورة الوقار وسائر التقاليد الاجتماعية بل بعض الأحكام الفقهية؛ لأنه مجذوب إلى الله! لكن هل هذا الذي رأيته في الجامعة له أدنى علاقة بهذه الحالة؟ لا أظن ذلك.
أكثر ما ظهر لناظري هو أُنْس الطلاب بالحالة، واستمتاعهم بأداء دور الصوفي رقصا وتشجيعا وحماسة، كانت عواطفهم موارة جدا! كأنهم فرحين بالوصول إلى لذة التصوف – أو ما ظنوه تصوفا- دون أن يدفعوا ثمنها، من التزهد والتنسك والتزام الأوراد بل ترك بعض المباحات صيانة للنفس عن حب الدنيا .. كانت كل رموز التصوف تعمل في أرواحهم وقلوبهم وعقولهم عمل الخمر بالسكران للمرة الأولى، أواه .. أخيرا يغيب عن مُرِّ حياته للحظات هي عين الانتعاش والسعادة ويعتقد أنه بذلك يشحن بطاريته ويحتشد لمقابلة الحياة الصعبة مرة أخرى على وعد بغيبة جديدة وكأس ثانية.
إن أثر الخمر الذي فاض من عيون ووجوه وأجسام هؤلاء الفتية ليس خمر المحبة الإلهية التي يحدثك عنها ابن عربي وابن الفارض .. إنها حالةُ استجابةٍ توافقيةٌ بين: الدين بوجْهِهِ اللطيف الخفيف الظريف من جهة، والْمُجُون بكل حسناته ولذائذه ومباهجه من جهة أخرى.
وعند جلاء هذه الثنائية المتضادة المجتمعة (الدين x المجون) في شخصية الطالب الجامعي، أو الشاب المصري الذي يشعر باعتداله فكرًا وسلوكًا؛ لأنه لا يمنع نفسه من أحدهما باسم الأخرى؛ فلا هو متدين منغلق يمنع نفسه من الأوقات السارة في المحيط الطَّرِيِّ للصديقات الحسناوات من زميلاته الجادات في الجامعة، ولا هو ماجن لا يعرف معنى حب الله وحب الرسول والاحتفال بالمولد والوجد الصوفي والرقص الصوفي، هذا الرقص الخاص الذي يشعره بمعانٍ جديدة تقربه من نفسه ومن «مَن يظنه خالقَه».
ربما علي أن أعترف أنني الآن لا أريد الجنوح لأحد قطبَيْ هذه الثنائية –على شدة جاذبية كل منهما- لكني هنا أريد أن أفهم كيف استطاع مصمم هذه الحالة –وهو بارع لا شك- أن يوظف عناصر معينة من كل قطب –من قطبي الثنائية- لكي يلتقي مع القطب المضاد؟
لعلك أدركتَ أن هذا التساؤلَ قائمٌ افتراض وجود مصمم أو صانع للحالة، وحتى لا تذهب نفسكَ بعيدا أوضح الأمر بأن هذا المصمم ليس بالضرورة شخصًا واحدًا أو مؤسسة واحدة ولكن كل من شارك في إنتاج هذه الحالة فهو مصمم لها، أشبه من يكون بصيحات الملابس وقصات الشعر فبغض النظر عن وجود مُوَجِّهٍ لها أو لا، لكن كل شاب مستخدم لها يكون صانعا مُرَوِّجًا في الوقت نفسه للحالة العامة، من حيث يدري أو من حيث لا يدري.
يزعم علماء السِّيمِيائِيَّة –وهو المنهج الذي يهتم بحياة العلامات في المجتمع على المشهور- أن مصمم الحالة الشعورية لمتلقي مُنْتَجٍ معين يحتاج – من حيث يدري أو من حيث لا يدري- إلى سجل كبير من المفردات الثقافية وتراكيبها لهذه الأقطاب، ليستثمر هذه الخلفيات الثقافية ويولد احتياجا شديدا لدى المتلقى للحالة الشعورية التي يقدمها له منتَجُه هذا .. فيقبل عليه الجمهور لا لأنه الأنفع والأفضل عقلا ولكن لأن طاقته الوجدانية توفر له حالة صار يطلبها وينشرها كما تقدمه للآخرين بطريقة أكثر تميزا وجمالا.
وهذه المرة يبدو أن فجوات عديدة في المجتمع تستاعد صاحب هذه الحالة ليوفق بين القطبين المتضادين، من أهمها: انغلاق الطرح الديني المقدم من المؤسسات والأفراد العاملين في مجال الدعوة الإسلامية بَدءًا بالأزهر الشريف – أكثر الطروح الدينية نعومة- انتهاءً بالجماعات الإرهابية أو التكفيرية –أكثرها خشونة- مرورًا التيارات والدعاة المستقلين على درجات متفاوتة كألوان الطيف.
مع هذا الانغلاق الداعي إلى إيجاد طرح أوسع وأشمل يستوعب كل مجالات الحياة نجد القطب الثاني قد خطا خطوات واسعة في الدعاية لنفسه متأنقًا بنبذ «الفاحشة» و«العُرِي» وهذه الكلمات المزعجة لأذن المجتمع محولا لها إلى «العلاقات الاجتماعية الراقية بين الأصدقاء» و«الحرية الشخصية في اختيار الملابس» و«الانفتاح الفكري على الآخر» وفكرة: «أنا راض وهي راضية، وكلانا محترم محافظ على أخلاقه الحميدة» مع تسليط الضوء بقوة على «نسبية هذه الأخلاق الحميدة» وتفاوتها من طبقة لطبقة بل من فرد لآخر، ولا داعٍ لأن تقاض الآخرين وتحكم عليهم؛ لأننا نريد التعايش في مجتمع حر..
من بين هذه العوامل يبدو التصوف أَلْيَن وجوه الدين المعروضة على المجتمع ثقافيًّا كما تبدو الحرية أكثر وجوه المجون تمسكا بالخلق الرفيع ومن ثم المعنى الإجمالي للدين لا الدين نفسه، وعليه: تتبدل نظرة المجتمع المتعصبة إلى (الدين x المجون) بهذه المفاصلة الواضحة بين الضدين إلى نظرة أكثر مدنية وليبرالية للثنائية لتصير في قوة (تصوف x حرية) إذ لا تعارض بينهما؛ ولذلك تحظى هذه الطبعة من طبعات الدين -وهي مهذبة ومنقحة ومختصرة جدا- بالقَبول لدى الجمهور الباحث عن إشباع الغرائز الدينية؛ لأنه متدين بطبعه، مع الحفاظ على أكبر قدر من حرية الانفكاك من أحكام هذا الدين التي تبدو في بعض طبعاته غير متناسبة مع العصر.
والخلاصة أن تلك الصورة الثقافية للتصوف أكثر تآلُفًا مع الصورة الثقافية للحرية المعاصرة، فيمكن أن تنسجما في شخصية الشاب المعاصر بلا تنافر؛ لأن هذه الصورة الثقافية للتصوف الجديد صارت بمثابة أفيون يخدر الإنسان كلما نزعت نفسه إلى خالقه عند الشدائد أو أراد التقرب إليه، ما أجمَلَ هذا الرب الجديد الذي يعطي دائما ويمنح دائما بوصفه ربًّا، ولا يكلفنا دفع الثمن بالعبادات والأوراد لأنه ليس إلهًا.