ولنا في كرة القدم فلانتين
في عصرنا الحالي هناك العديد من السلبيات بكرة القدم التي بوسعنا التبحر فيها، سواء بفقدان اللعبة لبعض بريقها الرياضي وتحولها لطابع اقتصادي تجاري، ابتداءً من أسعار اللاعبين وانتهاءًا بجائزة الكرة الذهبية التي كانت بعض اختياراتها تسويقية في السنوات الأخيرة. لكن لنبتعد قليلاً عما هو سلبي ونركز على جانب آخر نكاد نتجنب الخوض فيه، ونسأل أنفسنا لماذا وقعنا في حب كرة القدم؟.
ربما تكون قد قرأت أو سمعت أحدهم يقول إن كرة القدم أصبحت بمثابة المعتقد أو الدين بالنسبة له، إذ يتعلق البعض بأنديتهم ويصل بهم الحال لدرجة التعبد أو ممارسة بعض الطقوس الخاصة، سواء بحضور المباريات وأنت ترتدي قميص النادي وتتفاعل مع كل لقطة سواء بالهتافات أو الآهات، أو بالأناشيد الكروية التي يقوم المشجع الليفربولي بغنائها مع جماهير النادي من منزله الكائن على ضفاف نهر النيل في مدينة دمياط المصرية، وستعود لمزوالة هذه لطقوس والتقاليد نفسها مع كل أسبوع وكل شهر وربما حتى آخر يوم في حياتك.
فاللعبة أصبحت تجمعنا حول معتقد ما رغم اختلاف الثقافات وابتعاد المسافات، وأسرت قلوبنا وعقولنا وكما يُقال في الحب إنه لا يعرف المستحيل ولا حدود له. ومن الصعب أن يستبدل أحدهم معتقداته بفكرة معينة أو مسألة ما، فالقناعات والمعتقدات من الصعب أن تتغير أو تتبدل؛ لأن عواطفنا تستدرجنا دائمًا للحب الأول الذي يأبى فُراقنا، لكن هذه المعادلة لا تشمل كل أطراف اللعبة، بل تتعلق بنا نحن كمجشعين وليس اللاعبين، فاللعبة هي معتقدنا وفي النهاية شئنا أم أبينا هي مهنتهم ومصدر رزقهم وخاصة في العصر الحالي.
ومن حيث المبدأ يُعد الأمر صحيحًا، فمن الصعب أن تقنع مشجعًا لنادي الزمالك أن يغير ميوله التشجيعية ويصبح أهلاويًا، فهذا ضرب من ضروب الجنون وكأنك بهذا التغيير تقوم بنقله من الجنة إلى الجحيم، وحتى لو كان الأهلي هو الجنة فهو راضٍ بجحيم الزمالك، والأمر سيان بالنسبة لأحد سكان مدينة الدار البيضاء المغربية، فالوداد والرجاء بمثابة الشرق والغرب لا يلتقيان.
الحب من أول نظرة
مقهى مصري خلال إحدى مباريات كأس العالم
لو كنا من الجيل السابق حتمًا لن نكون على هذه الدرجة من التعلق بكرة القدم أو بالرياضات بشكل عام؛ وذلك لأن اللعبة لم تكن تُبث تلفزيونيًا قبل التسعينات إلا بشكل قليل. أما اليوم فنحن نستطيع مشاهدة مباراة للاعب مصري يحترف في اليونان أو للاعب سوري يحترف في الدرجة الثانية في ألمانيا، التلفزيون أتاح لنا فرصة مشاهدة اللعبة والتعلق بها والتمتع بمتابعتها، على عكس الجيل القديم الذي لم يتمكن من مشاهدة مارادونا إلا في مناسبات قليلة جدًا، فمتابعتنا الأسبوعية لأنديتنا ولاعبينا المفضلين تزيد من اهتمامنا باللعبة بلا أدنى شك.
فترة مناسبة لتقييم العلاقة
بالإضافة إلى التلفاز، كان لوجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعية أثرٌ بالغ في إدراك قوانين اللعبة، وأيضًا كان لها دور في فهم أنديتنا بشكل صحيح. في بداية عصر البث التلفزيوني كانت مشاهدتنا تنحصر بالمتعة بنسبة كبيرة، لكن وسائل التواصل جعلتنا نفهم القوانين بشكل أفضل، فأصبحنا نختلف مع الحكام ونجادل بقراراتهم الخاطئة، وصار من السهل قراءة الآراء والأفكار والتحليلات لكُتاب ونُقاد من أرض الحدث. هذه الوسائل أغنت فكر المتابع وجعلته أقرب لكرة القدم، وأيضًا جعلته يسرح بمخيلته ويتصور نفسه مدربًا يعطي التعليمات أو لاعبًا يوجه زملاءه في أرض الملعب.
رهان غير متوقع
تعد كرة القدم الرياضة الجماعية الأكثر إنصافًا و عدلاً بين جميع الرياضات الأخرى؛ فهي تُعطي من يُعطيها ولا ترتبط الانتصارات فيها بقوة الفرق. في كرة السلة بإمكان منتخب الولايات المتحدة التغلب على أي منتخب آخر وربما باستخدام العناصر الاحتياطية، والأمر نفسه في أغلب الرياضات الجماعية الأخرى فالمفاجآت فيها قليلة الحدوث. أما في كرة القدم عليك أن تؤدي جيدًا لتستحق الانتصار، الأرجنتين ورغم وجود ميسي وتيفيز خسرت من بوليفيا بسداسية في تصفيات كأس العالم، وإيطاليا ودّعت الدور الأول من مونديال 2010 بحلولها في المركز الأخير رغم أنها حاملة النسخة السابقة من البطولة. في كرة القدم لكل مجتهد نصيب وهذا يجعلها مليئة بالمفاجآت دائمًا، وآخرها تتويج ليستر سيتي بلقب الدوري الإنكليزي وربما هبوطه هذا الموسم.
دروس خصوصية بالمجان
سلسلة بشرية في اليوم الوطني لإقليم كتالونيا ضمن حملة تدعو للاستقلال
كرة القدم نشاط تتناقله المحطات ويصل إلى بيوتنا بشكل يومي دونًا عن الأحداث الرياضية الأخرى، ويعود هذا الرواج الإعلامي الواسع كونها اللعبة الشعبية الأولى في العالم وتنتشر في كافة أرجائه، فلم تقتصر اللعبة على الرياضة فحسب، بل أصبح لها آثار تثقيفية وتعليمية دون أن نعي ذلك، وعندما تكتشف أن سبب معرفتك لبعض المعلومات كان نتيجة لمشاهدة كرة القدم يزداد تعلقك بها أيضا، فلولا كرة القدم لما علمنا أن في كواليس الكلاسيكو الخفية يوجد صراع سياسي بين قطبيه «ريال مدريد – برشلونة»، صراعٌ تسعى فيه مقاطعة كتالونيا إلى الانفصال عن إسبانيا وإحدى أسلحة هذا المسعى كانت كرة القدم، وأصبح بعض المشجعين من المؤيدين لقضية الانفصال أيضًا، وكأن التشجيع تحول لما يشبه حالة الانتماء اللاطوعي وكل هذا بسبب اللعبة. لولا كرة القدم لما كنا عرفنا بعاصمة الغابون ولا بمدينة بيلو هوريزنتي البرازيلية والتي كانت مسرحًا للهزيمة التاريخية للسيليساو أمام الماكينات الألمانية في نصف نهائي كأس العالم.
نبع لا ينضب
تطور العوامل التقنية رافقه تطور فني سواء في طريقة لعب الأندية أو في الأداء الفردي للاعبين، وهذا عائد للاهتمام الكبير بكرة القدم فلقد أصبحت تصنف على أنها صناعة أو مجال تجاري ولم تعد مجالاً ترفيهيًا يقدم المتعة والتسلية. فالمدرب أصبح لديه عشرات المساعدين يتابعون كافة الجوانب الفنية والتقنية والصحية وأصبح تلافي الأخطاء وإصلاحها أمرًا أسهل مقارنة بالفترات الماضية، وكذلك اللاعبون أصبحوا أكثر لياقة وقوة ويمكنك تشبيه بعضهم بالأبطال الخارقين في السينما الهوليودية كما وصفهم الكاتب سيمون كوبر في إحدى مقالاته، فلا يمكن إلا تخيل إبراهيموفيتش بهذه الصورة بسبب طوله الفارع وحركاته الأكروباتية رغم تقدمه في العمر، وأيضًا كريستيانو رونالدو بقوته البدنية الكبيرة وقدرته على تجاوز المدافعين بسرعته العالية، وميسي بفاعليته اللامحدودة رغم قصر قامته وافتقاره للقوة البدنية، فارتقاؤه للكرة في نهائي روما في عام 2009 أمام مانشستر يونايتد كان خارقًا وجعل «فان ديرسار» يقف مذهولاً عاجزًا عن الحركة.
الكاتب الصحفي سيمون كوبر.
الهروب من الواقع العربي
أطفال يمارسون كرة القدم في مخيم الزعتري للاجئين- الأدرن
نحن -كشباب عربي- واجهنا العديد من الأزمات التي تعصف ببعض ببلداننا سواء في الحروب أو الأوضاع الاقتصادية التعيسة، وبالنسبة لمحبي اللعبة شكلت كرة القدم ملاذًا للهروب من الواقع المرير والأليم. كرة القدم كانت الوسيلة الوحيدة لنسيان المشاكل التي تشغل عقولنا وتعتصر قلوبنا، كرة القدم كانت بمثابة حياة سعيدة في عالم موازٍ لعالم آخر شغله الشاغل الجنون المستعر حول السلطة والأسلحة والقتل والدماء.