كرة القدم: أعظم من مجرد لعبة
إذا تأملنا أكبر الأحداث الدورية حول العالم، الأكثر جذباً للاهتمام والمتابعة، فسنجد أن مسابقة كأس العالم لكرة القدم هي الأكثر جماهيرية، متفوقة على كل ما سواها، مثل الانتخابات الأمريكية، وجوائز نوبل. لا شك أن تلك الشعبية ترجع إلى مكانة الرياضة نفسها –كرة القدم– في قلوب الجماهير، لا إلى المراسم الاحتفالية والتنظيم والدعاية المرافقة للمسابقة، بل إنه كثيرًا ما ينال التنظيم والمسابقة نفسها انتقادات مختلفة، بدايةً من الطعن في الدولة المنظمة -على أسس حقوقية مثلاً- إلى التلوث البيئي المصاحب للمسابقة.
لقد نمت شعبية اللعبة بصورة مدهشة، حتى لم يعد مستهجنًا على الإطلاق أن يطرح المحاور على أحد كبار المثقفين أو المفكرين أو الفلاسفة سؤالًا عن كرة القدم، بل إن منهم من دوَّن في حب هذه الرياضة، ونظرته الخاصة إليها وإلى فلسفتها.
في العالم العربي، يتضح حجم الاهتمام المبكر بكرة القدم، من أبيات الشاعر والكاتب العراقي معروف الرصافي، التي تغنى بها في بداية القرن العشرين. ويقول في مطلعها:
كما اهتم عدد من العلوم الإنسانية وتخصصاتها بدراسة الرياضة، باعتبارها نشاطًا إنسانيًّا، يكشف الكثير عن طبيعة البشر والمجتمع. لكنه اهتمام لم يقتصر على الفروع ذات العلاقة المباشرة، مثل فلسفة الرياضة، بل درسها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيون أيضًا. ولا شك أن مسيرة أغلب هذه الحقول كانت لتتعثر كثيرًا -في أفضل الأحوال- لولا كرة القدم وما وفرته من مادة بحثية هائلة، بعد ما بلغته هذه الرياضة من انتشار ورسوخ، سواء على مستوى الممارسة أو المتابعة.
ويمكنك اليوم قراءة كتب ودراسات جادة عن علم نفس كرة القدم، أو علم اجتماع كرة القدم، بشبه استقلال عن علم النفس الرياضي وعلم الاجتماع الرياضي، كما يمكنك الحصول على شهادة ماجيستير في دراسات كرة القدم. لم تعد كرة القدم مجرد لعبة، كان ذلك واضحًا منذ وقت مبكر. حتى بالغ البعض بالزعم أنها النسخة الحديثة للأديان، على أساس الاشتراك في الإيمان، والطقوس، والاحتفال، وغيرها. لكن هذا لا يقلل من أهمية دراستها.
على الصعيد السياسي، ظهر في بعض الأنظمة الديكتاتورية المعاصرة نوع من التقدير لهذه اللعبة، بسبب شعبيتها وأثرها الكبير على نفسية الجماهير، وإن كان في هذا الاهتمام قدر من القسوة لا يستغرب على أرباب حكم الفرد المطلق.
من الأمثلة الحديثة على ذلك ما تعرض له المنتخب العراقي لكرة القدم من ضغوط تحت حكم الرئيس السابق صدام حسين، حيث كان ابنه «عدي» رئيس اللجنة الأولمبية، وهناك عدة شهادات بعدد من اللاعبين، تفيد تعرضهم للتعذيب والإهانات في حالات الخسارة. كذلك تعرض منتخب ساحل العاج للعقاب، تحت حكم الجنرال روبرت جوي، في مطلع الألفينيات. وتحدثت الصحف العالمية عن معاقبة منتخب كوريا الشمالية، بسبب الخروج المبكر من بطولة كأس العالم عام 2010. إضافة إلى ذلك، ارتبطت كرة القدم بالتاريخ الاستعماري للمملكة المتحدة، التي حاولت استخدامها لـ «تمدين» سكان المستعمرات ودمجهم في الثقافة البريطانية.
على الجانب الآخر، لأنها لعبة يمكن للطرفين فيها إحراز الأهداف في أي وقت، أصبحت مباريات كرة القدم الجماهيرية فرصة للتنديد بالمظالم، والتضامن مع القضايا الإنسانية، ومهاجمة الأنظمة الفاشية.
لكن، مع الأسف، يظل العديد من الأحداث الوحشية ماثلًا في الذاكرة، شاهدًا على قدرة الإنسان الاستثنائية على تدمير أي تجربة إنسانية، مهما امتلكت من مقومات الجمال. مثل مجزرة استاد بورسعيد، عام 2012؛ حيث لقي أكثر من 70 مشجعًا للنادي الأهلي حتفهم وأصيب المئات.
وتشهد ظاهرة العنف الرياضي -التي بلغت أوجها في بريطانيا خلال حقبة السبعينيات- اهتمامًا كبيرًا من علماء الاجتماع، الذين يسعون إلى الكشف عن الأسباب الاجتماعية والطبقية، وتحديد السياسات الواجب اتخاذها للحد منها.
لكن لا يسعنا لوم رياضة كرة القدم، أو اتهامها بالتسبب في هذه الدماء. فظاهرة العنف الجماهيري -في أغلب الظن –أقل ارتباطًا بطبيعة الرياضة نفسها، منها بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للحضور، كما أن هذه العوامل تتغير من حالة إلى أخرى. أو مثلما قال «إريك دونينج»، عالم الاجتماع البريطاني، بعد تحليله لظاهرة العنف الرياضي في بريطانيا:
في النهاية، تبقى كرة القدم ظاهرة عالمية فريدة، تجاوزت حدود الجغرافيا واللغة والثقافة والأيديولوجيا. تسللت إلى الأكاديميا، والفنون، والآداب. صحيح أنها لم تتعهد يومًا بأن تكون نسخة أكثر عدلًا من الحياة، إلا أنها كانت أكثر متعة وإثارة على الدوام.