شعراء في المطبخ: أشعار الطعام في مصر العثمانية
يحتل الطعام مكانة مميزة في الوعي الشعبي في مصر، فالمصريون يتعاملون مع الأكل بصورة طقسية محاطة بهالة من التقديس والاحترام، فيعبرون عن العِشرة الطويلة بـ«العيش والملح»، وإذا أغلظ أحدهم القسم حلف بـ«النعمة الشريفة»، والجدات يحكين دائمًا عن اللقمة التي تشفع لصاحبها يوم القيامة.
وقد امتزجت تلك الحالة مع ما عُرف عن المصريين من الميل للفكاهة والمزاح، فظهر في مصر خلال العصر العثماني ما يمكن أن نسميه «أشعار الطعام»، وهي قصائد يتناول فيها أصحابها المأكولات وأصنافها، بل وتخصص بعض الشعراء في هذا النوع من الأدب. وفي هذا المقال نتناول جانبًا من هذه الظاهرة الأدبية، ونتتبع بعض دلالاتها الاجتماعية والثقافية.
نزهة القلوب في لذة المأكول والمشروب
هذا هو عنوان كتاب صنفه «موسى بن عبد الله الدهمراوي» (ت: 1000هـ)، وهو عبارة عن ملحمة شعرية طريفة، قوامها أكثر من 380 بيتًا، وصف فيها الدهمراوي كثيرًا من المآكل والأطعمة المعروفة في مصر في ذلك الحين.
وقد بدأ المصنف كتابه بمقدمة وصف فيها نفسه بـ«الشيخ الشاطر، والضبع الكاسر، سلطان الوحوش الكواسر، وعدو الأطعمة الفواخر، قاهر الطعامات الفايقة، والأدهان الرايقة، صاحب الكيس المشمع، والكُم الموسع، شيخ الوكالين، وكبير اللفافين، أبوجابر ابن سُفوف بن طرَّاق السوق ابن سُلْهَيْبة ابن طماع ابن بلعة الطفيلي بن نازل بن سحاب بن شوحة بن الحاج عياد بن قنداف بن طَيْبُغا اللفاف». ثم ذكر الباعث له على تصنيف هذا الكتاب:
وقسم الدهمراوي قصيدته اللامية الطويلة إلى عشرة فصول، تناول فيها أصنافـًا متنوعة من الأطعمة والمأكولات، فعرض لأطباق اللحوم والدجاج والأسماك، وما يلزمها من أنواع الخضروات المختلفة كالباميا والقلقاس والبازلاء، ولا يكتفي في ذلك بمجرد الوصف الظاهري لما يتذوقه من تلك الأطعمة، بل يعطي وصفاته الخاصة لكيفية طهي بعض هذه الأطباق، فها هو مثلًا يقدم لك وصفته الخاصة لعمل «المنتو» وهو أحد أطباق اللحوم، فيقول:
ومن خلال أبياته يعرض لبعض الأكلات المثيرة للجدل، التي اختلفت عليها أذواق أهل العصر، كالقراميط والفسيخ:
وهو ما يفتئ يعطي تحذيراته لبعض الآثار الجانبية لبعض الأطعمة، كتلك التي تحتوي على الثوم:
ويبدو أن الدهمراوي قد شغف بالحلويات فخصص الفصل السابع لذكر «الحلاوات»، كالفستقية والفولية وإصبع زينب، وقد جاءت أبيات هذا الفصل بالذات على صورة حوار متبادل بينه وبين تلك الحلاوات التي تتكبر عليه بسبب التباين بين ثمنها الباهظ وفقره المدقع، فها هو يعاتب «الربيعية» إحدى حلوياته المفضلة:
ولا يفوته كمصري أصيل أن يتحدث عن التسالي التي يسميها «النُقَل»، فتحدث عن الترمس وحب العزيز والكعك والبندق، ولكن لأنه يعرف قدراته المادية جيدًا، فهو يكتفي بقصقصة اللب:
وقد ختم الشاعر قصيدته بذكر «ضِباع الأوقات وما يرى لهم من عجايب الصفات»، تناول فيها أخبار الشرهين والفضوليين. وبعد أن أنهى الدهمراوي منظومته، اختصرها في قصيدة رائية قصيرة وسماها: «ضوء المصباح في المآكل الملاح». وفي قصيدتيه يشير الدهمراوي عدة مرات إلى أن هذ الموضوع لا يخضع لمجرد الذوق، بل أيضًا لضوابط اقتصادية وطبقية صارمة، فيقول:
وباعتباره من هؤلاء الفقراء فهو لم يأل جهدًا في مديح تلك الوجبات الأصيلة، فيقول في الفول:
والأبيات تعطي أيضًا صورة عمرانية لقاهرة ذلك العصر، فهو يوصي بزيارة طباخ يدعى «لقيلق» بسوق باب اللوق، وأما القشطة فمن عند «بريغيت» وهو قشاط بسوق القرافة، والعطارة من خان الخليلي.
ألفية الأنبوطي
تخصص الشيخ «عامر الأنبوطي» (ت: 1171هـ) في أشعار الطعام، وقد وصفه الجبرتي قائلًا: «كان كلما رأى لشاعر قصيدة سائرة قلبها وزنًا وقافية إلى الهزل والطبيخ فكانوا يتحامون ذلك»، لدرجة أن أحد شعراء العصر كان يكرمه ويقول: «يا شيخ عامر لا تزفر قصيدتي الفلانية وهذه جائزتك».
وقد نظم هذا الشاعر «ألفية الطعام» على وزن «ألفية ابن مالك» الشهيرة في النحو، أولها:
ثم يقول:
ولم تكن ألفية ابن مالك ضحيته الوحيدة، فقد عارض قصائد شهيرة أخرى كـ«لامية ابن الوردي» و«لامية العجم»، ومن نظمه العامي:
الفول في حضرة الشيخ الحفني
يعتبر الشيخ «شمس الدين الحفني» (ت: 1181هـ) واحدًا من أشهر العلماء والمتصوفة في مصر في القرن الثامن عشر الميلادي، وقد ألف أحد تلاميذه الشيخ «حسن شمه» كتابًا في نسبه ومناقبه، وضمنها مقامة وأشعار سماها «فيض المغني في مدح الحفني». ومن ضمن هذه الأشعار كتب هذه المقطوعة الهزلية:
فلما عرضها على الشيخ الحفني ضحك، وقال له ممازحًا: «أنا لا أحبه بالزيت حار، وإنما أحبه بالسمن» وأنشد:
في خدمة الأغراض الشعرية
تفنن شعراء هذا العصر في تضمين ذكر الطعام في أغراض شعرية مختلفة، ففي حين كانت الخمريات موضوعًا شائعًا في الشعر العربي، استخدم «ابن الصلاحي» (ت: 1181هـ) البُن -الذي شاع شربه في العصر العثماني- كبديل للخمر في شعره:
أما الشيخ «حسن الجبرتي الكبير» (1188هـ) أحد أعلام ذلك العصر، فبالإضافة لتميزه في العلوم الشرعية فقد نبغ في العلوم التطبيقية كالفلك والرياضيات. وبسبب تلك الاهتمامات العلمية، لم يتناول الطعام من باب الهزل، بل نَظَم بيتين تعليميين في أصول المطعومات:
وقد شرح الشيخ الجبرتي نفسه هذين البيتين قائلًا: «والفرق بين العفص والقبض، أن القابض يقبض ظاهر اللسان، والعافص يقبض ظاهره وباطنه، والتفاهة المعدومة مثل ما في الخبز واللحم، وقد يقال التفه لما لا طعم له أصلًا كالحديد، وهذا هو المشهور».
خاتمة
رغم أن هذا الموضوع يبدو ظاهرًا مجرد موضوع شائق وطريف، إلا أنه يحمل في طياته دلالات هامة:
1. فهو تمثيل لأحد إسهامات المصرية في الأدب العربي، وهو تفننهم في إدخال المزاح والدعابة في الأدب، وميلهم للتلاعب بالألفاظ بقصد المرح، والإكثار من التوريات والأهاجي اللاذعة، وقد تناول د. «شوقي ضيف» هذه الظاهرة بكتابه «في الشعر والفكاهة في مصر».
2. من خلال هذه القصائد يمكن ملاحظة آثار التبادل الثقافي والاجتماعي بين مصر والولايات العثمانية المجاورة، فيبدو الأثر التركي واضحًا من خلال ذكر البُنّ في آداب تلك الفترة، ومعروف أن العثمانيين قد تكفلوا بنشر ثقافة القهوة في داخل الولايات العثمانية وخارجها، ويبدو الأثر الشامي من خلال أطباق الحلويات الشامية المعروفة في تلك الفترة.
3. نستطيع أيضًا أن نتتبع تاريخ الذوق المصري للطعام، ففي حين اضمحلت كثير من الأطباق كالمنتو والططماج والششبرك (ولا زالت بعض تلك الأطباق موجودة في المطبخ التركي والشامي)، صمدت أطباق الريف المصري ومأكولات الفقراء كالفول المدمس والمِش والعدس والبيسار (تنطق الآن البيسارة)، بل إن بعض الأطباق التي تختلف عليها الأذواق في العصر الحاضر كالفسيخ والقراميط والقلقاس كانت أيضًا محل جدل في الماضي.
4. تعطي تلك الأشعار صورة لأوضاع مصر الاقتصادية وحالة التفاوت الطبقي في تلك الفترة، وسلوك شرائح المجتمع المختلفة للتكيف مع هذه الحالة.