قراءة في رواية الأرض المسطحة
أتعلمون أكثر ما قد يجذبني للرواية؟ قدرتها على انتزاعي من الواقع، أن تنقلني في قارب عبر بحر صفحاتها إلى شطآن جديدة لم أزرها من قبل، حتى إذا جاءت النهاية أكتشف أن الواقع قد حل في جسد الرواية بكل تفاصيلها، ولم يكن منفصلًا عنها منذ البداية قط.
إن «خنزير مزرعة الحيوانات» لم يكن خنزيرًا محبوسًا داخل أسطر الرواية الشهيرة فحسب، فلقد أخرج قوائمه برشاقة من غلاف الكتاب ليتجول في عالم الواقع ناسخًا نفسه عبر الأزمان. كما لم يكن «الأخ الكبير» في رائعة جورج أورويل ١٩٨٤ شخصًا ستفتقده حينما تغلق دفة الكتاب الخلفية. شخصيات ديستويفسكي تهيم في الحياة من حولك، ورضوى عاشور تسافر بك إلى عوالم زمنية أخرى، كما سترى نفسك من جديد بين أسطر رواية «حي بن يقظان».
رواية الأرض المسطحة (Flatland): هي رائعة إدوين إبوت التي كتبها عام ١٨٨٤م خلال العصر الفيكتوري ببريطانيا. تحمل الرواية تضمينات متعلقة بالثقافة الطبقية التي كانت منتشرة آنذاك ببريطانيا، كما تختبر نظرة القارئ لمن حوله، تختبر عنصريته وإلى أي مدى يرى أن رأيه هو الصواب المطلق وأن تخيله كامل عن الأشياء التي حوله، سيكون الجاهل هو ذلك الشخص الذي لا يرى غير رأيه ولا يتخيل أن هناك ما هو خارج حدود معرفته.
ترجمت دار كلمات التابعة لمؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة هذه الرواية وأتاحتها إلكترونيًا مجانًا على هذا الرابط.
عاش إدوين إبوت معلمًا وهو ما سينعكس على أعماله الأدبية، ومن ضمنها رواية الأرض المسطحة التي يستخدم فيها الهندسة لرسم عالمه. رُسِم إبوت قسيسًا في ١٨٦٣م، وألف على مدى حياته عشرات الروايات، ولكن ظلت هذه الرواية هي واسطة العقد في أعماله.
ما الذي يميز رواية الأرض المسطحة؟
بداية أود أن أوضح أن وجودنا في وسط المجتمع يدفعنا نحو الخضوع الحتمي لجميع المؤثرات من حولنا، والتي تؤثر في معظم الأحيان على نظرتنا وتحليلنا لكل ما يجري حولنا من أحداث، دقيقها وجليلها، ومن ثم على قراراتنا وانحيازاتنا، وعليه يصعُب حتى على من يريد سلوك طريق الحق أن يكون فعليًا محقًا تمامًا وعادلًا؛ السبب ببساطة هو أننا نحكم على الصورة ونقيمها ونحن داخلها بالفعل.
لتوضيح الصورة؛ دعونا نفترض أن رجلًا فرنسيًا يسعى لتمكين الحق والعدل ولو ضحى في سبيل ذلك بنفسه، قد وُلد إبان الثورة الفرنسية -التي انطلقت شرارتها في العام ١٧٨٩م- لأسرة من عامة الشعب أو لأسرة برجوازية أو أرستقراطية، هل يتوقع أحدكم نهاية واحدة وموقفًا واحدًا من الثورة له في كل الحالات؟ أعتقد أنه ربما كان ليذهب إلى المقصلة ثابتًا لتُفصل رأسه في بعض الحالات أو كان ليُرسل هو الناس إلى المقصلة في ظروف أخرى ثابتًا مقتنعًا أيضًا!
ربما تختلف القناعات باختلاف المنشأ والظروف المحيطة، ولكن لا يمكن أن يكون الشيء وضده صحيحين بالطبع، لكنها المؤثرات التي تؤسس قناعاتنا جنبًا إلى جنب مع ما يؤسس وعينا من منطق وفكر حر.
الوصول إلى الحق يتطلب عقلًا حرًا تمامًا. يقول جورج أورويل «الولاء يعني انعدام التفكير، بل انعدام الحاجة للتفكير. الولاء هو عدم الوعي»، وإن كان أورويل يلمح إلى الولاء للأشخاص أو لمذاهب فكرية معينة، فأنا أريد أن أسحب هذه المقولة لتشمل الولاء للعقل ذاته، واعتبار أن قناعاتنا التي وُلدت من رحم الواقع وبين أمواجه المتلاطمة صحيحة دائمًا أو منزهة عن أي نقص.
هل كنت لأكون مسلمًا لو كنت وُلدت لأبوين يهوديين مثلا؟ هل كان عقلي ليوجهني نحو الإسلام في كل الظروف؟ هل كنت سأغدو مناهضًا للعنصرية لو ولدت لأبوين غير ملونين في جنوب أفريقيا قبيل حركة نيلسون مانديلا التحريرية؟ هل كنت لأكره الصهيونية لو أنني ولدت لأسرة يهودية تكثر فيها المباكي على حال اليهود المشتتين وما حدث لهم من اضطهاد منذ عهد نبوخذ نصر وحتى هتلر وأفران الغاز المرعبة؟
الحقيقة أن الأسئلة السابقة صعبة للغاية بحق، وتجعل ثقتنا في أنفسنا وفي قراراتنا المصيرية على المحك، ولأننا سنحيا حياة واحدة فحسب، فنحن نرجو أن نكون على الحق دائمًا، أو على الأقل أن نرى الحق مجردًا لنسعى قدر إمكاننا نحو الالتزام به.
ببساطة، الروايات تصنع لك العوالم الأخرى، تجعلك بطلًا في حياة موازية، يتغير لونك أو دينك أو جنسك، أو كل ذلك، تعيش مُضطهَدًا أو ملكًا، تعيش في رخاء أو في خضم حرب ضروس. الروايات إذًا محاكاة لما قد يحدث في ظروف مختلفة، وهذا بالتبعية يلمّع عدسة المنطق الذي نستخدمه ويثري الفكر ويهذب أداته وهي العقل.
إلا أن ما قد ينغص هذه التجربة في كثير من الأحيان هو دخولنا إلى عالم الرواية دون أن نخلع كل ما نرتديه من الواقع الثقيل على عتباتها، فيبدو لنا أننا نتعاطف مع بطل معين لأنه يمثل الحق وفقًا لملابسات واقع الرواية، في حين يكون انتماؤه لدين أو عرق أو ربما حتى اتصافه بصفات شكلية أو جوهرية، تشبه ما نحن عليه، هو ما حدا بعقلنا الباطن إلى الميل إليه دون أن ندري، فنظن أن أحكامنا خالصة ومتسقة مع المنطق وهي في الحقيقة غير ذلك.
لعل هذا من النقصان الذي يصيب كل ما يتعلق بنا كبشر ونحاول التغلب عليه ما استطعنا، فللكتاب حيل مختلفة يستخدمونها حينما يكون السياق لذلك ممكنًا من أجل إزالة أي مؤثر خارجي، ومن ذلك استخدام الحيوانات في العمل القصصي أو الروائي، كما تجلى ذلك بديعًا في كليلة ودمنة، أو حجب كل ما لا تستدعيه الضرورة من المعلومات عن شخصيات عالم الرواية، حتى يذهب البعض إلى التعامل مع بطل الرواية بضمير الغائب دون حتى ذكر اسمه، يكون الغرض إذًا دائمًا في هذا النوع العظيم من الروايات، هو أن ينتقل القارئ إلى الواقع الافتراضي ليختبر قناعاته فيها وفق الظروف المختلفة، أو ليكون منطقه من جديد بعيدًا عن الواقع وضغوطه!
هذا الأسلوب السابق مفيد للغاية في كثير من الحالات، إلا أنني لا أخفي أنني لم أتعاطف مع الخنازير في رواية مزرعة الحيوانات لأجل أنهم خنازير، كما وضعت الحمار في قالب لم أُخرجه منه حتى نهاية الرواية، ربما كان هذا مقصودًا، لا أدري. ولكنني دخلت عالم الرواية ولو بنزر يسير من قناعاتي وهو الأمر غير المفضل على الإطلاق.
لم أنس بالطبع أننا نتحدث عن رواية الأرض المسطحة؛ لذا فسؤالي لك أيها القارئ هو: هل خضت من قبل تجربة كان فيها أبطال الرواية التي تقرؤها أشكالًا هندسية، يحيون في عوالم يرسمها المؤلف بنفسه في أقل من ١٥٠ صفحة؟