تلسكوب أفق الحدث يلتقط أول صورة حقيقية لثقب أسود
في قرية «ثورنهيل» الهادئة في مقاطعة «يوركشاير» الإنجليزية، عاش رجل يدعى «جون ميشيل – John Michell» هناك. درس اللاهوت، ولغات متعددة مثل العبرية واليونانية في كامبريدج، ثم تحول نظره واهتمامه نحو العلوم الطبيعية حيث كانت بدايته مع الجيولوجيا دراسة الزلازل.
نحن الآن في العام 1783، في إحدى قاعات الجمعية الملكية في لندن حين دخل «جون ميشيل» من أجل إلقاء محاضرة عن النجوم، بالأصح؛ عن جاذبية النجوم. شرح في محاضرته أن الضوء لن يستطيع ترك سطح نجم ضخم للغاية إذا كانت جاذبية هذا النجم كبيرة بما فيه الكفاية. واستنتج أنه إذا كان مثل هذا الشيء موجودًا بالفعل في الطبيعة، فلن يصل ضوؤه إلينا أبدًا.
بعد أكثر من عقد من الزمن، وصف عالم الرياضيات والفيزيائي والفلكي الفرنسي «بيير سيمون دي لابلاس» في كتابه «Exposition du Système du Monde» فكرة النجوم الهائلة التي لا يفر منها الضوء، حيث ذكر أن هذا الضوء، وفقًا لنظرية إسحاق نيوتن، يتكون من جسيمات صغيرة، أما هذه الأجسام المعتمة فسماها لابلاس بـ «الجسم المظلم – Dark Body». كانت هذه مرحلة تكون فكرة وجود الثقوب السوداء في كوننا.
منتصف القرن الماضي
نعرف من خلال نظرية النسبية العامة لآلبرت أينشتاين أن الأجسام الكبيرة في الكون (ذات كتلة) تُحدِث تغيرًا (انحناء) في نسيج الكون «الزمكان – Space Time». يمكن أن تُحدث هذه الأجسام -بسبب كتلتها- تموجات تنتشر عبر الكون من المصدر إلى الخارج بسرعة الضوء. سميت بـ «موجات الجاذبية – Gravitational Waves»، حيث تنبأ بوجودها «ألبرت أينشتاين» في العام 1915.
تحمل هذه التموجات معها دلائل على طبيعة الجاذبية نفسها، وليس فقط إثبات صحة نظرية النسيبة العامة.. ولكن كيف تدل هذه الموجات على وجود الثقوب السوداء؟
بتطبيق نظريات أينشتاين على الأجسام الضخمة المتسارعة في الكون مثل النجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء (أجسام هائلة الكتلة) التي تدور حول بعضها البعض، سنعثر على موجات الجاذبية، وهو ما تم بالفعل في الرابع عشر من سبتمبر/أيلول عام 2015، حين التقط مرصد لايغو هذه الموجات الناتجة عن اندماج ثقبين أسودين هائلين.
اقرأ أيضًا: أينشتاين ينتصر مجددًا
الثقوب السوداء: مم تتكون؟
لكل شيء نهاية، حتى النجوم التي تعطيك جمال وسحر هذا الكون حينما تنظر للسماء، تموت. وعند موتها تتحول لوحوش الكون المجهولة؛ الثقوب السوداء.
تحدث عملية موت النجم حين تنهار مكوناته من الغاز والأشعة على نفسها، ثم يبدأ بالتقلص وتجميع هذه المكونات في نقطة صغيرة، عالية الكثافة للغاية تسمى «المتفردة – Singularity». تقع هذه المتفردة وسط الثقب الأسود، وهي نقطة أحادية البعد في مساحة صغيرة لا نهائية، حيث تصبح الكثافة والجاذبية فيها لا نهائية، ويصبح نسيج الكون (الزمكان – Space-Time) لا نهائي. يصفها الفيزيائي «كيب ثورن» بقوله:
بالطبع رأيت العديد من الصور التي حاولت محاكاة شكل الثقب الأسود، حيث تظهر دائرة معتمة تمامًا من الوسط، ومتوهجة من القطر الخارجي. يرجع هذا التوهج إلى كمية الغاز التي يمتصها الثقب باتجاه المركز، حيث يتم تسخينها في هذه المنطقة، والتي يطلق عليها اسم «أفق الحدث – event horizon»، وتحت تأثير دوبلر، يظهر هذا التوهج بشكل أكبر في جهة اليسار.
أما عن «ستيفن هوكينج» الذي انصبت دراسته العلمية فيما يخص الثقوب السوداء، فقد دحض الاعتقاد السائد بأن لا شيء يستطيع الهرب من الثقب الأسود، حيث اكتشف إشعاعًا يخرج من الثقب الأسود، فسّر من خلاله أن هذه الثقوب يمكن أن يفلت منها الضوء، وأنها أيضًا يمكنها أن تتبخر في النهاية.
اقرأ أيضًا: هوكينج: الخروج من الثقب الأسود ممكن!
تلسكوب أفق الحدث، كيف فعل هذا؟
الصورة التي تراها هي لثقب أسود، بمعنى أكثر دقة، لـ«أفق الحدث – Event horizon»، منطقة اللا عودة في الثقب الأسود، حيث يتم فيها تسخين المواد التي يمتصها الثقب الأسود. تم تصوير هذه المنطقة في ثقب أسود في مجموعة «Sagittarius A*» في مركز مجرتنا درب التبانة،ومجرة «ميسييه 87 – M87»، التي تبعد عنا 55 مليون سنة ضوئية.
يمكننا تخيل منطقة اللا عودة بعتبة باب غرفة (عتبة الثقب الأسود). على جانبي هذه العتبة توجد منطقة داخل الغرفة (داخل الثقب الأسود حيث الجاذبية الهائلة)، ومنطقة خارج الغرفة (بعيدًا عن الثقب الأسود في الكون).
أنت الآن في الخارج هائمًا في الكون، إذا أردت الدخول لداخل الثقب الأسود، يجب عليك تجاوز العتبة (أفق الحدث) بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. وإذا افترضنا أنك استطعت بشكل ما دخول الثقب الأسود وتجاوز عتبته هذه، لن تستطيع الخروج منه مرة أخرى إلا إذا كانت سرعتك تتجاوز سرعة الضوء أيضًا. وفي كلتا الحالتين الأمر مستحيل وفقًا للنظرية النسبية الخاصة لألبرت آينشتاين.
تلسكوب أفق الحدث – Even Horizon Telescope
الجزء الأكثر إثارة من التقاط الصورة نفسها، هو كيف فعلوا هذا في مجرة تبعد عنا 55 مليون سنة ضوئية؟
التلسكوب نفسه تحدٍّ، فهو شبكة عالمية مكونة من 8 تلسكوبات راديوية عالمية كبيرة موجودة بالفعل في أماكن متفرقة في العالم، تم توصيلها مع بعضها البعض من خلال توقيت دقيق باستخدام الساعة الذرية لتعمل معًا. شملت مواقع التلسكوبات الثمانية مواقع في هاواي والمكسيك، والجبال في أريزونا وسييرا نيفادا الإسبانية، وصحراء أتاكاما التشيلية، والقارة القطبية الجنوبية.
السؤال هنا: لماذا لجأوا لاستخدام مجموعة تلسكوبات كبيرة في هذه المهمة، بدلًا من تلسكوب واحد؟
الإجابة هي أننا إذا استطعنا رؤية أجسام صغيرة في الكون، نحتاج لتلسكوبات أكبر . وفي حالة الثقب الأسود هنا، فهو موجود في مجرة أخرى تبعد 55 مليون سنة ضوئية. الأمر وكأنك تنظر إلى تفاحة على سطح القمر. لذا كان من صنع تلسكوب بحجم الأرض من أجل الحصول على صورة واضحة لهذا الثقب.
تستخدم التلسكوبات تقنية خاصة يطلق عليها اسم «مقياس التداخل ذي خط الأساس الطويل جدًا – VLBI»، والذي يقوم بمزامنة التلسكوبات في جميع أنحاء العالم، ويستغل دوران الأرض لتكوين تلسكوب ضخم بحجم الأرض، يراقب بطول موجة يبلغ 1.3 ملم. يسمح مقياس التداخل للتلسكوب بتحقيق دقة بزاوية 20 ثانية/ دقيقة.
أكثر إيضاحًا، التلسكوب هو تعاون دولي حول هدف واحد، وهو التقاط صورة لثقب أسود. أقنع الباحثون العاملون في المشروع بقية العلماء من أنحاء العالم بتوجيه التلسكوبات الراديوية الخاصة بهم إلى مجموعة «Sagittarius A*» في مركز مجرتنا درب التبانة حيث تعد مصدرًا راديويًا قويًا، ومجرة ميسييه M87 في كوكبة العذراء، ثم جمعوا الملاحظات لإنشاء مجموعة عملاقة واحدة بحجم كوكبنا.
شاهد هذا الفيديو لمزيد من التوضيح:
ماذا يعني التقاط صورة حقيقية لثقب أسود؟
السؤال الأكثر تداولًا.. حسنًا، الكون ساحر. نجومه ومجراته تعطينا الأمل بشكل ما، عندما تتأمل كوكب الزهرة في السماء، أو عندما تستطيع تمييز كوكبة الجبار بشكلها المميز، فإن ذلك يعطيك الأمل ويذهب عنك غبطة اليوم. والبشر بطبعهم ينبهرون بالأشياء الجديدة، ولا يوجد إبهار أكثر من الكون، لكن لا داعي للمبالغة في ردّات الفعل خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.
فكما ترى، ليس هناك فرق شاسع بين الصورتين، لذلك فاستخدام رموز القلوب ومشاعر الحب المفرطة التي تنتشر لوصف صورة حقيقية لثقب أسود عثرنا عليه ليست في محلها على الإطلاق؛ فالثقب الأسود -كما عرفته في الأعلى- هو وحش كاسر يمكنه التقاط عالمك كله في أي وقت من الأوقات من عمر الكون، أو ينتظر منك فقط أن تدنو منه مسافة يستطيع فيها الإمساك بك، ليبتلعك كشيء أصغر من جسيم ذرة بمليارات المرات، مُعلنًا بذلك نهايتك المأساوية في الفضاء.
الأمر أشبه وكأنك تسير وسط الغابة، تعلم مسبقًا أنها مليئة بالأسود المفترسة، وفجأة رأيت أحدهم يحدق في عينيك مباشرة، أنت الآن تحدق في وجه الفناء حرفيًا.
لكن الأحداث الكونية مثل اكتشاف موجات الجاذبية أو تصوير ثقب أسود، أو حتى العثور على حياة أخرى في نجوم ومجرات أخرى شيقة للغاية، ولا توحي بشيء سوى أننا كنا دائمًا على حق، أن العلوم الطبيعية وقوانين الفيزياء على صواب، لم تخطئ ولم تسقط، وأن العلم ليس خرافة لكننا لم نستطع الوصول لجميع أدلته الملموسة بعد، وبمرور الزمن يزداد الأمر تأكيدًا مع توفر الأدوات اللازمة للبحث في فضائنا.
يمكن استخدام صورة الثقب الأسود الحقيقية -وغيرها من الاكتشافات الكونية- لمعرفة عمل الكون بصورة أكثر واقعية، وليس مجرد محاكاة طوال الوقت.