#أول_محاولة_تحرش_كان_عمري: العائلة والصدمة ومحاولات التجاوز
حَفَلَ مارس الماضي بوقائع عنيفة ضد النساء، ليتحول بذلك شهر النساء إلى درس عملي عن العنف الجنسي، بدأ الأمر باغتصاب رضيعة ولم تتوقف عند حلقة الاعتداء الجماعي على فتاة بأحد شوارع مدينة الزقازيق.
ورغم صعوبة الدرس في كل مرة، فإنه مازال وقعه صادمًا. في كل مرة تكشف النساء عن طبقة جديدة من صراعهن ضد العنف الجنسي، هذه الشهادات، أو المواجهات، أو الحقائق الصادمة، هي الأداة الأكثر شيوعًا في الصراع، بعد ما انحصر دور الدولة في استصدار إستراتيجيات دون آليات واضحة لتنفيذها. ولتصبح التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي المصرية مآل هؤلاء اللاتي لم تواتهن الفرصة للحديث عن تجاربهن مع العنف الجنسي.
وفقًا لـ تقرير من إعداد منظمة الصحة العالمية عام 2002، يُعرف التحرش الجنسي بأنه:
ويتضح من خلال شهادات هاشتاج «#أول_محاولة_تحرش_كان_عمري» الذي أطلقته مجموعة من الشابات المصريات في نهاية مارس 2017، أن جرائم العنف الجنسي ذات مستويات بالغة التعقيد، سواء في تفسير دوافعها أو في تحليل نتائجها على الناجيات\ين.
وتدرّجت الشهادات بين التحرش اللفظي وملامسة الأعضاء الجنسية سواء بأصابع المعتدين أو أعضائهم الجنسية، حتى الاعتداء الجنسي والاغتصاب بالاستدراج أو تحت التهديد وبالتكرار، ممتدة بذلك إلى ما يمكننا تسميته بـ«العبودية الجنسية».
وعلى تشابه هذا التدرج من أفعال الاعتداء الجنسي بين شهادات المدوّنات، فإن الأخيرة أضافت بُعدًا لتقاطعية العنف الجنسي مع العمر والنوع الاجتماعي للناجيات\ين.
الاعتداء الجنسي على الأطفال وهرمية العلاقات داخل العائلة
لم يكن الهاشتاج هو أول محاولة للحشد ضد التحرش الجنسي باعتباره وباء مجتمعيا، ففي النصف الأخير من عام 2012 انطلقت عدة هاشتاجات على موقع تويتر تستهدف التوعية بصراع النساء اليومي مع التحرش الجنسي؛ منها: «#هل_تعلم» و «#EndSH » .
لكن ما يُميز الهاشتاج هذه المرة هو أنه يستهدف الكشف عن المرحلة العمرية التي تعرضت فيها الناجية للاعتداء الجنسي، ويُضاف إليها استطراد الكثير من الناجيات للحديث عن تفاصيل الاعتداء والإعلان عن هوية المعتدي\ن، والذين كان معظمهم من أفراد العائلة.
الطفلة المغتصبة والمعروفة إعلاميًا باسم «طفلة البامبرز» لم تكن وحدها التي تعرضت للاعتداء الجنسي، فأغلب المُشاركات وثّقن أول حادثة تحرش\اعتداء في الطفولة، وصلت لأعمار أقل من أربع سنوات، وكان المعتدي هو أحد أقارب الدرجة الأولى كالأب والأخ، أو العائلة الممتدة كالجد والخال والأقارب، بما فيهم أزواج العمّات والخالات.
قراءة هذه الشهادات حرّى بنا أن نضعها في سياقاتها الاجتماعية، مع اعتبار النوع الاجتماعي أداة تحليل فعّالة لفهم لماذا يتعرض الأطفال للاعتداء الجنسي، والإناث منهم بالأخص.
في دراسة تقول دكتورة علم الأنثروبولوجي والنوع الاجتماعي بجامعة كاليفورنيا «سعاد جوزيف» إن:
في الأنظمة الأبوية ترتكز السلطة على الجنس في المقام الأول وعلى عدة عوامل أخرى، أهمها هو السن. وبالتالي يصبح الذكر الأكبر سنًا ذا سلطة شبه مطلقة على كل مَن هم أقل منه سنًا، وبالأخص النساء.
وبتطبيق هذا التفسير، تصبح الطفلات أكثر عرضة للعنف الجنسي من هؤلاء الذكور، نظرًا لموقعهن في هرمية السلطة كإناث وكصغيرات في السن.
وهنا يأتي دور الترابطية؛ قد يعتمد المعتدي على إرهاب الطفلة ونهيها عن الحكي خوفًا من فقدان هيبته داخل العائلة أو نبذه، وقد يؤدي ذلك إلى تكرار الاعتداء على الطفلة. وترهيب الطفلة يعتمد على عاملين أساسيين: أولًا أنها هي أيضًا تستمد كيانها من علاقاتها مع أفراد الأسرة والعائلة، وبالتالي يرهبها المعتدي بأن الحكي عن تجربة الاعتداء سيفقدها هذا الكيان، مع ملاحظة أنها طفلة.
ثانيًا: يلجأ المعتدي إلى ثقافة لوم الضحية، ليرسخ في ذهن الطفلة أن الإفصاح عن الاعتداء وعن هوية المعتدي لن يُسفر إلا عن لومها هي، وبالتالي تفقد جزءا كبيرا من كيانها المرتبط بالأسرة.
علي سبيل المثال، دونت إحداهن، أنه بعد مصارحة والدتها بتعرضها للاعتداء الجنسي من أحد أفراد العائلة، توجهت إليها الأم باللوم وحذّرتها من الحديث عن الأمر أمام آخرين.
كما أنه من المفيد أن نُشير إلى أن الاعتداء الجنسي على الأطفال يدحض التبريرات التي اعتدنا سماعها عن التحرش الجنسي، كاتهام النساء بالتأخر ليلًا أو لومهن على ملابسهن وسلوكياتهن.
الاعتداء الجنسي واضطرابات «كرب ما بعد الصدمة»
هذه الأحداث المؤلمة تترك آثارها في ذاكرة الناجين والناجيات، حتى أنه بعد مرور سنوات، قد تظل التجربة حية في اللاوعي. خصوصًا، إن تم استدعاؤها بواسطة الذاكرة إن تعرض الناجيات\ين إلى مواقف مشابهة.
هذه المواقف إما أن تختبرها بنفسها أو تتلقاها من آخرين بالسمع أو القراءة وغيرهما، فتعود تجربة الاعتداء بشكل وحشي في كثير من الأحيان إلى الذاكرة.
هذه الوحشية قد تتسبب في أعراض نفسية فقط، منها الشعور بالضيق أو إنكار الحادثة أو نفس-جسمية كضربات القلب السريعة وارتفاع ضغط الدم، وقد تصل إلى نوبات هلع وتشنجات.
وقد نُرجع السبب في ذلك إلى أن المعتدى عليه\ـا لم يتجاوز تجربة الاعتداء، بسبب الكتمان والخوف، فضلًا عن صعوبة تجاوز فكرة انتهاك الجسد والألم الجسدي والنفسي. ويتم التعبير عن هذه الأعراض بـ «اضطراب كرب ما بعد الصدمة».
ولا تقتصر التجربة السيئة للاعتداء الجنسي على هذه الأعراض المؤقتة أو الفُجائية، فقد تتسبب في إصابة الناجي\ة ببعض الأمراض العقلية المزمنة كاضطراب القلق المرضي والاكتئاب والوسواس القهري وغيرهم. وبالتالي تخرج التجربة من حيز الماضي وتتجاوز حدود الزمان والمكان، لتصبح في خلفية غالبية الأحداث اليومية والحياتية للمعتدى عليهن\م، وتُشكّل طريقة استقبالهن للأفكار وتعاملهن مع المواقف المختلفة.
في كتابها الصدمة والتعافي تُشير «جوديث هيرمان» إلى الاعتداء الجنسي بأشكاله كسبب رئيسي لأعراض كرب ما بعد الصدمة، كما أن التعرض له من الأقارب الموثوق فيهم قد يتسبب في فقدان ثقة الناجية في العلاقات الإنسانية، إلى جانب تطوير مشاعر غضب وحقد تجاه المعتدي، لا تخلو من الرغبة في الانتقام. كما عبّرت عنها إحدى المدونات على الهاشتاج: «وفعلا بعد وقت قصير والله عمل حادثة وحصلتله عاهة مستديمة وحسيت إن ربنا خدلي حقي».
لذلك، بات من غير اللائق أن تُتهم المدوّنات باختلاق قصص بدعوى أن الذاكرة تفشل في الحفاظ على ذكرى الاعتداء في سن مُبكرة، لأن التجارب الإنسانية الصعبة تجد وسيلتها للحاضر من خلال العقل الواعي واللاواعي. ويعتبر الاعتداء الجنسي من أكثر هذه التجارب ألمًا بعد الحرب والأسر، وقبل الكوارث الإنسانية.
التدوين كأداة للتجاوز
وكعادة أي زخم على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تنوعت ردود الأفعال على الهاشتاج، وكان أغلبها إيجابيًا من النساء أنفسهن الذين شاركوا تجاربهن وخضن تجربة الكتابة، فخلقن حالة من الدعم والتضامن فيم بينهنّ ومع نساء أخريات قد امتنعن عن الكتابة لاعتبارات شخصية. وبعضها سلبيًا، كهؤلاء الذين استخدموا الهاشتاج للسخرية من تجارب المدوّنات، دون أدنى حساسية لطبيعة هذه التجارب وأثرها.
وهؤلاء الذين يتوجهون باللوم المباشر وغير المباشر للناجيات، ويأمرونهن «بالستر» حرصًا على سمعة عائلاتهن، حتى وإن كان أفراد هذه العائلة معتدين جنسيًا. وهناك أشخاص استنكروا التدوين، خاصة أن بعض الرجال بدأوا بالتدوين عن تجاربهم مع الاعتداء الجنسي أيضًا.
وتكمُن أهمية الهاشتاج وغيره من وسائل الحكي والتدوين هو أنه يمثل ولو جانبًا ضئيلًا من عملية التعافي، حيث إن استرجاع ذكرى الاعتداء بطريقة واعية والتفكير في الكتابة، والقيام بالكتابة كفعل، ثم قراءة المكتوب، يساهم في تخفيف الضغط على الناجية، وقد يساهم بشكل فعّال في استعادة الشعور بالسيطرة على أحداث التجربة التي خالطتها مشاعر العجز والإهانة.
وتُساعد قراءة التجارب الأخرى أيضًا في تخفيف الشعور بالوحدة والإضطهاد. هذا الشعور بالتحكم في ما يُكتب وما يُنشر واختيار اللغة والكلمات والوقت والقرّاء يتصادم مع مشاعر الإنتهاك والإستباحة التي صاحبت الإعتداء، محاولًا خلق توازنًا يدعم التعافي.
وعلى ذلك لا يمكننا اختصار فعل الكتابة الفردي التطوعي في الهاشتاج بأنه دعوة للتوعية -مع تحفظنا على اللفظ- ضد العنف الجنسي؛ لأن هذا الفعل خاص الناجيات في المقام الأول، وأي محاولة لاعتباره فعلا جمعيا هي إجحاف لحق هؤلاء المدوّنات وتحميلهن مسئولية إنهاء ما تعرّضن له ومسئولية منع تكراره مع أخريات.
ولكن يُمكننا دومًا الإشارة إلى الفعل الفردي باعتباره المكوّن الأساسي للفعل الجمعي؛ وبالإشارة إلى فاعلية الأفراد المُشاركين وحفظ حقوقهم في الفردية.
في النهاية، مازلنا نحتاج إلى آليات فعّالة لضمان الحد من العنف الجنسي، ومازلنا نحتاج إلى الحفاظ على مساحات التدوين والكتابة آمنة لكل شخص قرر مشاركة تجربة ما، قد لا نعلم ظروفها، ولا نعلم مدى تأثيرها على الشخص، لاسيما النساء وتجاربهن مع العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي.