من الجزائر التي عُرفت بأنها «بلد المليون شهيد» إلى البلقان التي يبدو أنها تشابهت معها في عددٍ من المآسي والحكايات والمصائر، يأخذنا الروائي الشاب سعيد خطيبي في رحلة قاسية موجعة مع أبطال روايته نتعرف فيها على ما دار ويدور في هذه المنطقة التي تدور فيها أحداث روايته، ومن خلال تشابك الحكايات وتقاطعاتها، والانتقال بين الحاضر والماضي، وبين أماكن مختلفة وشخصيات متعددة يرسم صورة واسعة لتلك المأساة.

تبدأ الرواية بحكايتين منفصلتين، الأولى «سليم» الصحفي الجزائري الشاب الذي تأتيه الفرصة أخيرًا لكي يترك بلاده، بعد أن أغلقت في وجهه كل السبل، والثانية على الجهة الأخرى «إيفانا» الفتاة البوسنية التي تبحث عن فرصة لها لتمارس هوايتها في التمثيل والكتابة للمسرح، ولكن كل شيءٍ يقف في طريقها. تجمع الرواية والمآسي والمصائب المشتركة بين البطلين، ويغوص الكاتب بنا في طبقاتٍ من الحكايات التي تصف واقع كل مدينة وشعبها بشكلٍ مفصل.

ينتقل السرد بانسيابية، ومن خلال الفصول المتقطعة بين «الجزائر العاصمة» و«البوسنة» وبين أحلام ذلك الشاب وآمال وطموحات تلك الفتاة، ومن خلال ذلك يرصد بشكلٍ دقيق وذكي مظاهر التغيرات التي أحدثها توالي الحروب والموت والدمار الذي لحق بالبلدين سواء في «سراييفو» أو «الجزائر» حتى ليبدو ما يحكيه «سليم» العربي شديد الشبه والتقارب بما تحكيه «إيفانا»

كل شيء تغيّر في هذه المدينة المُستسلمة لأسيادها الجدد. أرصفتها الواسعة ضاقت طرقاتها تتخلّلها حفر البنايات تخترقها آثار رصاص، سيارات زاستافا اختفت وكذا سيارات «اللادا» ونابت عنها سيارات جديدة قادمة من ألمانيا وفرنسا وأمريكا. وحدها سيارات «فيات» و«شكودا» تُنبهنا لما مضى، وملابس العابرين في الشّارع أو تلك المعروضة في واجهات المحلاّت أيضًا تغيّرت بتّ أُصادف ماركات ألبسة لم أكن أشاهدها سوى في التلفزيون أو في إعلانات مصوّرة في مجلات، كما أن أشجار البلوط التي كانت تصبغ المدينة بالأخضر يستحيل أحيانًا إلى أصفر أو برتقالي اختفت. فقد تناوب النّاس على قطعها وتفتيتها للتّدفئة خلال سنوات الحرب . كان العدو ينكّل بنا ونحن ننكّل بجذوع الأشجار.
حطب سراييفو، سعيد خطيبي

بشكلٍ مفصّل ومتسلسل يأخذنا الراوي إلى عائلتي البطلين، بين الأب الجزائري الذي كان عضوًا في حزب التحرير لنلمس تلك التقاطعات التي ربما تشير إلى نقاط التقاء بين عالميهما، فيما يبقى الألم والمأساة هو ما يجمع بينهما في النهاية، وفي بلدٍ لا ينتميان إليها وفي مكانِ أرغما على الوجود فيه في «سلوفينيا» يسعيان حثيثًا إلى إيجاد فرصةٍ جديدة لهما للحياة، في زمنٍ ومكانٍ كل ما فيه يبشر بالنهاية وبالموت.

تعكس الرواية مع حكاية أبطالها صورة بانورامية عامة لحياة الناس في تلك الفترة الصعبة من تسعينيات القرن الماضي، حيث ننتقل مع سليم في حكاياته العربية وإيفانا في حكاياتها البوسنية التي تمنح الرواية اتساعًا في الرؤية، وإمكانية لتصوير العالم بطريقة مختلفة من خلال جيران إيفانا ومعارفها وقصص حبها المبتورة من جهة، وحكاية سليم مع مليكة وقصة حبهما الغريبة.

باتت سراييفو أشبه بامرأة جميلة يملأ وجهها كدمات. اختفت منها جنائن زهر مارغريت الصّفراء والبيضاء، وزاد المشهد كآبة رائحة الموت المنبعثة من تحت التّربة، فالقبور في كل مكان ورفات الموتى تكتظ تحت أقدامنا. يحصل، أن نجد مقبرة جماعية يقف أمامها مقهى أو مطعم يتحوّل في الليل إلى حلبة رقص يتناوب فيها الأحياء على تحريك أجسادهم وقبالتلهم الموتى يتفرّجون وهم صامتون.
حطب سراييفو، سعيد خطيبي

أجاد خطيبي في تمثل حالة أبطال روايته والتعبير عنهما بشكلٍ واقعي، وذلك من خلال تقنية تعدد الأصوات، حيث ترك لكلٍ بطلٍ منهما أن يعبّر عن نفسه بشكلٍ كامل، وانطلق من خلال تيار الوعي لنقل مشاعر أبطاله وعالمهم، وإشراك القارئ في تلك التفاصيل الدقيقة لكلا العالمين بالتوازي، حتى يلتقيا في المنتصف. وتكون المفاجأة من نصيب السارد والقارئ على السواء.

هكذا يمضي السرد في مستويين متوازيين، يدفع القارئ دفعًا، عبر أحداثه المتلاحقه وتقاطعات حكاياته المترابطة إلى متابعة التفاصيل، التي تكتسب صبغة البوليسية في آخر الرواية، حيث يكتشف كلا البطلين أن كل الذي كانا يبحثان عنه، ويسعيان إليه محض سراب!

يبدو وعي الكاتب سعيد خطيبي وحرصه على نقل تلك الأفكار الإنسانية العامة حاضرًا طوال الرواية، إذ يحرص على توضيح فكرة أن ما يجمع الناس حتى لو كان قاسيًا أو مؤلمًا هو أكبر بكثير مما يفرقهم، وربما كانت مفاجأة للكثيرين حديث خطيبي عن مشاركة جزائريين في حرب البلقان، وهو ما يؤكده بهذه الرواية وبدراساته الموسعة التي جرت بين البلدين لتبين هذه الحقيقة، في حوار له على موقع ميم يقول سعيد خطيبي:

لقد كنت دائمًا مسكونًا بالحرب، التي عشتها صغيرًا في الجزائر، وفقدت فيها بعضًا من أهلي ومعارفي، ولكن ليس الاهتمام بالحرب في بشاعتها أو ماذا دار فيها، بل أهتم بحيوات النّاس العاديين في الحرب، كيف يعيشون وكيف يفكّرون، حيوات الضّحايا المفترضين للحرب، الذين نجوا منها بالمقابل، أشعر بحزن دفين كوننا تأخّرنا في الكتابة وفي الوصول إلى هذه المنطقة، المكتظّة بتاريخ متفجّر لا يختلف عن تاريخنا. فبالتّقدّم في الكتابة، كنت أتوقّف، كعداء يسترجع أنفاسه، أحيانًا وأنا تحت مفاجأة التّشابهات الكبيرة في التّاريخ السوسيو– ثقافي بين البوسنة والهرسك والجزائر
سعيد خطيبي

 سعيد خطيبي روائي وإعلامي جزائري، ولد في مدينة بوسعادة بالجزائر عام 1984، حصل على جائزة ابن بطوطة في أدب الرحلات عام 2014 عن كتابه «جنائن الشرق الملتهبة» كما فاز بجائزة كتارا في الرواية العربية عام 2017 عن روايته «أربعون عامًا في انتظار إيزابيل» التي تتحدث عن الرحالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت ورحلتها التي انتهت إلى صحراء الجزائر. وصلت روايته «حطب سراييفو» إلى القائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية 2020 .