فقه التشاؤم

العبث والتشاؤم والعدمية وما يقع في هذه الدائرة أو قريبًا منها مسميات لمعنى واحد: اللاجدوي؛ اللاجدوى من أي شيء كائن وقد يكون، وهي نظرة لم تفرضها ظروف اقتصادية مادية كما يرى الخارجون عن الدائرة، ولكنها موقف من الحياة ومن كل ما فيها.

انظر لهذا الجسد كيف تغزوه الأمراض فتحيله لجذع إنساني هش، ولهذا القلب كيف يعصف به الحزن والغم، وتلك الروح كيف تُعَذّب وتتألم، وهذا العقل كيف يشقى بالفكر والنظر.

انظر في تاريخ هذه الحياة، ألم تكن دائمًا عبئًا لا يحتمل، وانظر لتاريخ الإنسان، ألم تمضِ حياته كلها في صراع مستمر لا فوز فيه ولا هزيمة ولا انسحاب.

انظر للحروب التي خاضها من أجل مُثُل عليا كان يظنها مقدسة، وبعد خوض التجربة وثبوت الخداع ملأ الشك قلبه، ومع مضي الأيام واسترجاع الذكرى يتأكد الشك ثم ينزاح مفسحًا الطريق للعنة (لكل شيء) لتحل محله، ثم تتقد جمرة الألم التي يسير في ضوء لهبها في بحر أحزانه حتى يقضي نحبه ويمضي إلى النهاية المجهولة.

لقد أبدع جبران حينما اختصر هذا التاريخ الأليم ببضع كلمات قائلاً:

ومهما كان المتشائم في حال مادي متأزّم فإن ذلك لا يشغله بحال؛ إذ أنه ينظر للحياة من أعلى كصقر على قمم الجبال أو بين طيّات السحاب يرى الشجر العظيم أقزامًا خضراء لا قيمة لها، كذلك فلا معنى لأي ضائقة تعترضه في «ثباته» على موقفه، أو تدفعه لشيء إيجابي أو سلبي.

قد يراه البعض زاهدًا!، ربما؛ إن صح المسمى في بعض الجوانب على موقفه، ولكن الحياة لا تعنيه. وقد يصل الأمر إلى اللهو بالحياة، فيقدم المتشائم على الانتحار وهو مطمئن أنه لن يخسر الكثير، فليس في الحياة ما يُخْسَر سوى شهيق وزفير. وبالطبع فليست هذه حالة، ولا أيديولوجية فكرية، ولا منهجًا متبعًا أو مُقَلّدًا، بل موقف ثابت راسخ شكّلته المعرفة والخبرة والملاحظة الدقيقة.

لذلك تجد الكتاب والأدباء والمفكرين هم خاصة هذا الألم وأهله، لإدراكهم حقيقة الواقع وبؤس المستقبل. قال شاعر النيل في قصيدة «سعي بلا جدوى»:

وهذا الموقف لا يتغير بتغير الحال المعيشي أو الوظيفي لصاحبه، فقد يكون العابث من الأغنياء ذوي الثروة والنفوذ، وقد يكون قويًا لم يستذله المرض، وقد يكون عينًا بين الناس لم يؤلمه التجاهل.

فكيف نفسر إذن انتحار الأغنياء وتوافدهم على سويسرا طلبًا للموت الرحيم كما فعل لورنس سميدلي وهو من أغنى أغنياء بريطانيا، حتى وإن كان مريضًا فبماله يستطيع طلب العلاج لا الموت، ولك أن تنظر في عقل الرجل لبرهة وتتساءل: هل تساوى لديه المرض والشفاء، والموت والحياة، ولم تعد لأمواله سلطان على نفسه تدعوه للبقاء للتمتع بها؟

أيًا كان ما حدث فقد قرر أن ينتحر ومات، وبوسعك البحث على شبكة الإنترنت عن حوادث انتحار الأغنياء والتي تناولتها الصحف بكثرة وستتفاجأ بحق.

لذا فقد أخطأ ألبير كامي في كتابه «أسطورة سيزيف» عندما هاجم شوبنهاور واتهمه -ضمنيًا- بالنفاق؛ لأنه يدعو الناس للانتحار «بينما هو يجلس إلى مائدة بديعة».

ولكثرة الخبرة والملاحظة الممزوجتين بالألم يصبح العبث سمة لازمة للشخصية وطابعًا تُطبع به النفس، فيصل المتشائم إلى وضع اللا جدوى أو الهلامية أو الفناء بالتعبير الصوفي ولكنه لا يفنى في شيء، بل الوجود كله يفنى فيه هو، ويذوب ذوبان الجليد لحرارة الجحيم السرمدي.

فيتساوى الفرح بالحزن والموجود بالمفقود، ويذهب الحزن والفرح بغير رجعة، ويتساوى الماضي بالمستقبل، ويصبح الحاضر كابوسًا ثقيلاً على النفس لا مفر من مصاحبته جبرًا.

وذلك العابث على عينيه دائما نظارة «احتقار» ينظر بها لكل شيء حوله، فيستصغره ويقلل من شأنه وجدواه، ولا يجد فرقًا بين وجوده وعدمه، ثم إنه يُفرغ مكنونه النفسي المتأزّم في اللهو والعبث، فيسرف في المخدرات والخمور والجنس وتبديد الوقت والصحة بوقاحة، وما يريد من ذلك المتعة، بل السخرية، بل العقاب والانتقام، بل الفناء.

أما الأسباب فهي ليست اقتصادية ولا سياسية وإن كانت مترسبة في القاع البعيد، فالسبب الأكبر هو إدراك الحقائق، واتساع العين المبصرة والمدققة في التفاصيل، والخروج عن القطيع المتعلق بشراشب الحياة الفانية التي لا تساوي جناح بعوضة.

أدرك الرافعي هذه الحقيقة، فصاغها بأسلوبه قائلاً:

لكن ذلك لن يثني العابث عن موقفه، أو يضطره للقبول بحياة أدرك ما فيها من فراغ ممتد، ولن يصغّر عقله ويضيّق منافذ إدراكه للتمتع بها على أية حال.

ومعظم المتشائمين ليسوا أصحاب قضايا شخصية في الحياة، إذن لهان بلاؤهم، فهم أصحاب رؤية جادة للحياة وما بعدها، تكسّرت على صخرة الواقع الحمقاء. فشاعر كأمل دنقل الذي عاش حياته كلها مخلصًا لقضيته الوطنية، يكتب فيها المراثي ويستنهض الهمم، هو القائل: «لا تحلموا بعالم سعيد ..».

وهذه القصيدة (كلمات سبارتكوس الأخيرة) والتي وردت فيها تلك الشطرة على وجه الخصوص توضح كل ما سلف أن ذكرناه بملامح واضحة حادة:

1. إدراك الواقع:

ولو استعرضنا مواقف الكتاب والعلماء الذين أدركوا واقع الحياة ودقائق حقائقها لم ينته بنا المقال، فقد كثر هذا الموقف في حياة الكثيرين من أبناء العرب قديمًا وحديثًا، وأيضًا بين الغربيين بداية من فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، وقصص انتحار الأدباء مشهورة وأُلّف فيها بعض الكتب.

لكن الانتحار ليس حلاً، وإن كان من أسبابه عوامل اقتصادية وعاطفية واجتماعية، فلن يكون حلاً أبدًا.

وأخيرًا: أشير لأن الباعث المقدم على الانتحار يتميز بعدة علامات تُفصح عن نواياه، أهمها: العزلة التامة، وفقدان الثقة في أي أحد.