فقه الحرية بين الإكراه والرضا
تؤكدُ الاجتهاداتُ المذهبية بشأن «الإِكراه» على ما أشرنا إليه في مقالات سابقة، وهو: أن الرؤيةَ الإسلامية تنطلقُ من إزالة عوائق الحرية وموانعها، وتهتم بفتحِ ذرائع الوصول إليها أو استردادها إذا كانت مغصوبة. وهذا نظرٌ دقيق وبالغ العمق في استيعابه لجوانب الحرية في الممارسات العملية؛ باعتبار أن الحرية ليست بحاجة إلى تأسيس فلسفي؛ لأنها معطى فطري، ومسلَّمة ثابتة، وبديهية إنسانية إسلامية، بقدر ما هي بحاجة إلى تفعيلٍ عملي، ومواجهة الموانع التي تواجهها على أرض الواقع.
والإكراهُ في التناول الفقهي لا ينفكُّ عن مسألتين من كبريات المسائل التي تدخل في صميم مفهوم الحرية وهما: الاختيار، والرضا. ولكل من الاختيار والرضا مقدمات ومظاهر وعلامات ونتائج وتداعيات. فمسألة الاختيار ذات طابع مادي ظاهري، بينما مسألة الرضا ذات طابع معنوي باطني. وفي بحثهم مسألة الإكراه؛ يفرق الفقهاءُ بحسمٍ بين «الاختيار» و«الرضا»، ويُصِرُّون على بيان هذا الفرق في معرض اجتهاداتهم بشأن «حرية الإرادة»، وفي سياق ما أوردوه من شروط الأهلية وعوارضها وعيوبها.
ونلاحظ أن اهتمامَهم بالإكراه يفوقُ اهتمامهم بغيره من عيوب الإرادة. ويعتبر المذهبُ الحنفي أكثرَ المذاهب عناية بتقرير مسائل الإكراه – أي: بمعالجة موانع الحرية – وبسطها مسهبة مفصلة مع أمثلة شارحة وموضحة، ولا غرو في ذلك، والمذهب الحنفي أكثر المذاهب الفقهية عناية بالحرية ورعاية لها في استنباط الأحكام، ونوطها بمقاصدها.
يعرِّفُ الحنفيةُ الإكراهَ – كما عند السرَخسي وعند غيره من فقهائهم – أَنَّه عبارةٌ عن: «فعل يفعلُه الإنسان بغيرِه (أي: بضغطٍ من شخص آخر)، فينتفي به رضاه، أو يزول به اختياره»، أو هو: «حملُ الغيرِ على ما لا يرضاهُ، وهو يعدمُ الرِّضا ويفسدُ الاختيار، بأن يجعله مستندًا إلى اختيارِ آخرَ» [1]، من غير أن تنعدم به الأهليةُ في حق المُكرَه، أو يسقط عنه الخطابُ الشرعي؛ لأن المكرَهَ مبتلًى، والابتلاءُ يقررُ الخطابَ (التكليف) كما يقول علماءُ الأصول. ولذلك لا ينعدم أصلُ القصدِ والاختيار بالإكراه؛ وكيف ينعدم والمطلوب من المكرَه أن يختار أهونَ الأمرين عليه؟
سيتبينُ لنا من جملةِ الاجتهاداتِ المذهبية التي سنذكر نماذجَ منها في هذه المسألة أن العلةَ من تفريقهم بين «الاختيار» و«الرِّضا» هي: الاحترازُ من إساءة استعمال «دعوى الإكراه» في الجناية على حريات الآخرين، أو من أن تكون ذريعة إلى الانتقاص من تلك الحريات. وقد عرَّفوا الاختيار أنَّهُ: «القصدُ إلى مقدورٍ، مترددٍ بين الوجود والعدم، بترجيحِ أحد جانبيه على الآخر»، وأما الرِّضا فهو ارتياح قلبي وقبول نفسي لاختيار معين يختارُه الشخص بملءِ إرادته الحرة.
وإذا توافرت الشروط المعتبرة في الإكراه فإنه يَعدِمُ الرضا في جميع الأحوال، ولكن يبقي «الاختيارُ»، محلًّا للتقدير والمساءلةِ حسب الأحوال. وتتجلى أهمية هذا الاحتراز في ضوء المطلوب من المُكره في حالة وقوعه تحت ضغط الإكراه، وهو: أن يختارَ أخفَّ الضررين بالنسبة له، دون أن يكون راضيًا بأيهما، كما تتجلى أهميتُه في الاستثناءات التي لا يجوز قبول دعوى الإكراه فيها؛ كدعوى الإكراه على قتلِ شخص، أو تعذيب شخص آخر، أو الزنا. وسيتبين لنا كذلك من جملة الاجتهادات الفقهية أن إثباتَ القوةِ بالعتقِ (الحرية) يعني المنعةَ من الإكراه، أو أن يكون احتمال التعرض للإكراه بالمعنى السابق ذكره ضعيفًا، أو غير وارد أصلًا، والعكس صحيح.
ينفردُ المذهبُ الحنفي – من بين المذاهب الأخرى – بأنه يمتلكُ نظرية عامة ومجردة بخصوص الإكراه، ويمكن الوصول إليها في كتبهم بيسر وسهولة؛ حيث أفردوا للإكراه بابًا، أو كتابًا خاصًّا به. وهم في جملتهم لا يقصرونه على تصرفٍ بعينه، أو عقدٍ دون عقدٍ من عقودِ المعاملات، ولكنهم يطبِّقون اجتهاداتهم في الإكراهِ على جميع التصرفات القولية والعملية، ويطبقونَها كذلك على الوقائع المادية. وتندرجُ هذه النظرية بكاملها في مسألة الحرية بمذاقها الإسلامي ذي العمق الإنساني. وتسريحُ النظر فيما قالوه ممتعٌ ومقنعٌ ومشبعٌ.
يفرقُ الحنفيةُ بين مستويين للإكراه: الأول يسمونه «الإكراه المُلْجِئ»؛ وهو ما لا يسعُ المكرَه دفعه أو تجنبه. وهو أشد جسامة من «غير المُلْجِئ»، ويؤثرُ في التصرفات القولية والعملية؛ فيفسدُ القولية، ويصلُح عذرًا يعفي من المسئولية في التصرفات العملية. والثاني يسمونه «الإكراه غير المُلجِئ»، وهو يؤثر على صحة التصرفات القولية، ولا يصلحُ عذرًا عن التصرفات الفعلية. ويرى الإمام أبو حنيفة أن الإكراهَ لا يتحقق إلا من السلطانِ؛ «لأن المنعةَ له، والقدرة لا تتحقق بدون المنعة، ولو صدرَ الإكراهُ من غيرهِ أمكنَ أن يَفزعَ من وقعَ عليه الإكراهُ إلى السلطان لنجدته».[2]
وهذه الإشارة الحنفية تضع مسألة الإكراه في نصابها الصحيح؛ من حيث بيان مسئولية السلطة الحاكمة عن حماية الحريات العامة والخاصة، ومن حيث تقييد تلك السلطة ولجمها كي لا تنتهك هي الحريات العامة أو الخاصة.
ونطالعُ في مصادر الفقهِ الحنفي مطارحاتٍ مطولة حول مَنْ هو «المُكرِه»؟ أو: منْ ذا الذي ينتهكُ الحريات، ويكره الناس على ما لا يريدون، ويعدم رضاهم، ويكدِّرُ صفو معيشتهم؟ هل هو السلطان وحده (الخليفة، أو السلطان، أو الأمير، أو الرئيس … إلخ) كما قال إمامُ المذهب؟ أم يشمل كلَّ متغلبٍ وذي شوكةٍ قادرٍ على إيقاع ما توعَّد به سلطانًا كان أو لصًّا؟
كان أبو حنيفة – رضي الله عنه – يرى أن «المُكرِه» هو السلطانُ وحدُه، وكان اجتهاده هذا يضمر في طياته دعوة لمقاومة أشكال الإكراه الاجتماعي ومظاهر الاستضعاف الفئوي والطبقي؛ بأن يرفع كلُّ من يتعرضُ للإكراه شكوى للسلطان كي ينهضَ لإغاثته، وكان يقصد أيضًا أن يحمل السلطان مسئوليته في التصدي لصور الإكراه كلها، وأن يكف يده عن أن تبطش بحريات الناس فرادى وجماعات. ولكن صاحبيه اختلفا معه في الرأي، وذهبا إلى أن «كل متغلبٍ» يمكن أن يمارس الإكراه، ومن ثَمَّ تجب محاسبتُه، ويتعيَّن التصدي له.
نقرأُ في فتح القدير – على سبيل المثال – ما يفيد مخالفة أئمة الحنفية بدءًا من صاحبي إمام المذهب في هذه المسألة يقول: «قال قاضي خان في أول كتابِ الإكراه من فتاواه: الإكراهُ لا يتحققُ إلا من السلطانِ في قول أبي حنيفة، وفي قول صاحبيه يتحقق من كل متغلبٍ يقدرُ على تحقيقِ ما هدَّدَ به، وعليه الفتوى». (انتهى) [3]
وحصر مصدر الإكراه على هذا النحو في «السلطان» وحده لا يعني إضفاء الشرعية على إجراءاته الإكراهية بقدر ما يعني توعية عامة الناس بمصدر الإكراه من جهة، وتوعيتهم بمسئولية هذا السلطان وواجبه في حياتهم عن أي صورة من صور الإكراه، وعلى ذلك هي أن الإكراه ينتهك حرياتهم جزئيًّا أو كليًّا، وهذا وذاك مرفوض شرعًا.
المالكيةُ من جانبهم ذهبوا إلى أن التهديدَ بالسجنِ «إكراهٌ» يعتَّدُ به. وهذا الرأيُ يقترب من رأي الإمام أبي حنيفة؛ إذ السلطانُ وحده – أو من ينيبُه – له القدرةُ على تنفيذِ التهديد بالسجن. والسجنُ من أقسى التصرفات التي تنتهك الحريات وتؤذي الروح والنفس والبدن معًا؛ ولهذا لم يُجزه الفقهاء إلا في أضيق نطاق، وفي حالات استثنائية هدفها الزجر والرَّدع، وما ذلك إلا لحرص قدماء الفقهاء على صونِ الحريات الفردية والجماعية من الانتهاكات السلطوية.
ومن مناقشات مجتهدي المالكيةِ يتبينُ لنا أنَّهم، مثلُهم مثلُ الحنفيةِ، يميزونَ بين نوعين من الإكراه: الأول يسمونه «الجَبْرَ الحرامَ»؛ مثل إكراه شخصٍ على بيع بيتِه دون مسوغ، والثاني يسمونه «الجبرَ الشَّرْعي»، كجبرِ القاضي المديانَ (الشخص كثير الاستدانة) على البيعِ لوفاء الغُرماء … أو جبر من له أرضٌ تلاصقُ الطريق على بيعها لتوسعته … أو له رَبْعٌ (مبنى سكني) يلاصق المسجد، يُجبر على بيعه لمصلحة المسجد، «وإذا ثبتَ الجبرُ لم يلزم؛ سواءٌ علم به المشتري أم لا». [4]
ونقل ابن القاسم عن الإمام مالك – رضي الله عنه – أنه قال: «الذي يُضغطُ عليه في الخراجِ فيبيع بعضَ متاعه على وجه الضَّغط، أرى أن يُردَّ عليه بغيرِ ثمنٍ، إذا كان بيعُه إياهُ على عذابٍ أو بما أشبَه من الشِّدةِ، ولا أرى لمشتري ذلك أن يستحِلَّه، ولا يحبِسه». [5]
وتمييز المالكية بين «الجبر الحرام»، و«الجبر الشرعي»، يفيد الاحترازَ – كما أشرنا فيما سبق – من إساءة استخدام رخصة «دعوى الإكراه» في انتهاك حريات الذات، أو حريات الآخرين أو التعدي على خصوصياتهم، أو النيل من كرامتهم بحجة الوقوع تحت «الإكراه».
- ابن نجيم الحنفي، فتح الغفَّار بشرح المنار المعروف بمشكاة الأنوار في أصول المنار، وعليه حواشي عبد الرحمن البحراوي المصري، (القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1355هـ/1936م – الجزء الثالث المقرر تدريسه لطلبة السنة الرابعة بكلية الشريعة، جامعة الأزهر) ج3/133.
- عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة بالفقه الغربي الحديث، (القاهرة: طبعة معهد الدراسات العربية العالية، ط2، 1960م) ج/2 ص206.
- الكمال ابن الهمام الحنفي (ت861هـ)، شرح فتح القدير مع تكملته نتائج الأفكار، وبأعلى الصفحة كتاب الهداية للمرغيناني، (القاهرة: دار الفكر، ب. ت) ج9/ص250.
- محمد بن عبد الله الخرشي المالكي، شرح مختصر خليل، (بيروت: دار الفكر للطباعة، ب. ت) ج5/ص9.
- شمس الدين الحطاب الرُّعَيني المَالكي (ت 954هـ)، مواهبُ الجليل في شرح مختصر خليل، (بيروت: دار الفكر، 1412هـ/1992م) ج4/ ج4/ 253. ويُقصدُ بقوله «ولا أن يحبسه؛ أي لا يصح وقْفه، ولو كان وقفًا خيريًا بزعم التقرب إلى الله». والوقف معروف في بلاد المغرب الإسلامي باسم (الحَبسِ)، وجمعه (حُبوس).