فنلندا والسويد في الناتو: هل تربح تركيا وتخسر الدولتان؟
الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وصف السويد وفنلندا بأنهما حاضنتان للجماعة الإرهابية. ووجه خطابه لوزيري خارجيتهما يخبرهما ألا يكلفا نفسيهما عناء زيارة تركيا. كانت الزيارة متوقعة في أواخر مايو/ آيار 2022 لإقناع تركيا بالعدول عن معارضتها لانضمام الدولتين لحلف الناتو. فحق النقض، الفيتو، يسمح لتركيا برفض انضمام من لا توافق عليه للحلف الذي تتواجد فيه منذ عام 1952.
وبوضع التقارب التركي الروسي في الاعتبار، فإن الرفض التركي كان متوقعًا. فتركيا لا تريد أي ارتدادات سلبية تؤثر على العلاقة مع روسيا. كذلك فإن تركيا تخشى من انضمام الدولتين لأن ذلك سوف يربك حساباتها فيما يتعلق بتعاملها في مناطق القوقاز شرق أوروبا. الدولتان نظريًّا تتبعان سياسة عدم الانحياز، لكنهما في واقع الأمر لا يتوقفان عن انتقاد سياسة أردوغان. حتى إنهما في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 شاركتا في أزمة طرد السفراء الأتراك العشرة على خلفية حبس المعارض التركي عثمان كافالا.
رغم أن اسم البلدين لا يُذكر إلا معًا فيما يتعلق بالانضمام للناتو، لكن فنلندا قالت بأن تركيا تعترض على السويد تحديدًا. خصوصًا أن السويد لم توافق على طلبات تركيا طوال الخمس السنوات الماضية بإرسال 11 عضوًا من أعضاء حزب العمال الكردستاني لتتم محاكمتهم بتهمة الإرهاب في تركيا. كما يشعر الأتراك بالغضب كون مسئولي السويد، وفيهم وزير الدفاع السويدي شخصيًّا، قد أجرى محادثات مع شخصيات بارزة من الميليشيا الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني.
هذا الغضب الموجه للسويد قد لا يوجِد أمامها مساحة كافية للمناورة بخصوصه. فحكومة الحزب الاشتراكي الديموقراطي تواجه اختبارًا برلمانيًّا عسيرًا في سبتمبر/ أيلول 2022. والحكومة بالفعل قد أغضبت اليسار والشيوعيين حين طلبت الانضمام للناتو. فلا يمكنها المجازفة بإغضاب الجالية الكردية الكبيرة الموجودة على أراضيها، خاصةً أن هناك دعمًا شعبيًّا سويديًّا للأكراد ضد تركيا.
تركيا حصلت على ما تريد
لهذا كان الرهان أن تركيا لا تريد شيئًا من فنلندا ولا السويد بشكل مباشر، بل تضغط عليهما للضغط على الولايات المتحدة. فقد استخدمت تركيا تلك الورقة للضغط على إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للتراجع عن قرار إخراج تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة إف 35. بعد أن اشترت تركيا نظام إس 400 الصاروخي الروسي. وقد حدث بعض التراجع من بايدن في هذا الصدد، غير أنه شرط حصول تركيا على ما تريد بموافقة الكونجرس. ولا يوجد داعمون كثر لأردوغان في الكونجرس.
كان العالم يترقب السيناريو التركي فيما يتعلق بالدولتين، التصعيد أو التراجع. ويبدو أن تركيا اختارت حلًّا وسطًا، التراجع بعد الحصول على ضمانات. تلك الضمانات يمكنها أن تحقق مصالح اقتصادية واستراتيجية لتركيا، لكن الأهم أنه يمكن توظيفها باعتبارها انتصارًا تركيًّا على الغرب، ربما يقوي موقف أردوغان في انتخاباته المقبلة. ففي 2023 لن تحتفل تركيا بالذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية فحسب، بل ستجري انتخابات رئاسية وبرلمانية.
لم تقدم تركيا طلبًا رسميًّا بمطالب واضحة، أو تطلب ضمانات محددة من الدولتين أو الولايات المتحدة. لكن مذكرة التفاهم التي وقعتها تركيا مع الدولتين في 29 يونيو/ حزيران 2022، ووصفتها تركيا بأنها حصلت من خلالها على ما تريد، يمكن أن تكشف بصورة ما لماذا وقفت تركيا حجر عثرة أمام انضمام الدولتين سابقًا.
فبموجب تلك المذكرة تعهدت الدولتان برفع حظر الأسلحة المفروض على تركيا. وستعملان على دعم تركيا في محاربة حزب العمال الكردستاني، كما ستقومان بتعديل قوانينهما المتعلقة بالإرهاب. كذلك سيصبح لزامًا على الدولتين تسليم أي مشتبه بهم تطلبهم تركيا. ولم تنتظر تركيا طويلًا حتى تستفيد من تلك المذكرة، فقد صرَّح وزير العدل التركي أن بلاده تريد منهما تسليم 33 مشتبهًا به.
بوتين يوافق بحذر
طلب تسليم المشتبه بهم هو الاختبار الأول للبلدين. الاختبار يأتي من إدراك الجانب التركي أن تسليم المجرمين لن يكون سهلًا، فهناك العديد من العوائق القانونية يمكنها أن تمنع تلك الخطوة رغم التعهد المكتوب. أما تجميد جمع الأموال لحزب العمال الكردستاني، ومنع تجنيد مقاتلين له من السويد وفنلندا، فهى أمور تصبح سارية من لحظة توقيع الاتفاق. ويبدو أن الولايات المتحدة ستكون هي المشرف على تنفيذ تلك البنود.
لم يصرح الجانب التركي أنه حصل على أي تنازلات من جانب الولايات المتحدة. وصرَّح البيت الأبيض أن تركيا لم تطلب، ولم تحصل، على تنازلات من الجانب الأمريكي. ربما يكون ذلك صحيح رسميًّا، لكن الكواليس تثبت الدور الأمريكي في المذكرة التي وُقعت بين تركيا والدولتين. فقد جرى اتصال هاتفي بين جو بايدن وأردوغان قبل ساعات من إعلان توقيع مذكرة التفاهم.
انضمام فنلدا والسويد للناتو يشكِّل مكسبًا غربيًّا ضخمًا. إذ سيصبح للحلف حدودًا أطول مع روسيا، من 700 كيلومتر إلى 1900 كيلومتر. بالتالي قدرة أكبر للدفاع عن مصالحه ومصالح أعضائه. كما ستصبحان عمقًا جديدًا يساعد الحلف على الدفاع عن دول البلطيق، ويفتحان للحلف جبهة جديدة يمكن من خلالها إزعاج روسيا. كذلك فإن انضمامهما يعتبر انتصارًا معنويًّا ضخمًا، فقد غزت روسيا أوكرانيا كي تمنعها من الانضمام، لكن انتهى الأمر بانضمام دولتين اشتهرتا بعدم الانحياز طوال تاريخهما.
وتتعامل الدول الغربية بأريحية نوعًا ما مع انضمام فنلندا والسويد أكثر مما كان الأمر مع أوكرانيا. فرغم أن روسيا الغاضبة كانت عاملًا مشتركًا في الحالتين، فإن انشغال روسيا في أوكرانيا يجعل أي تهديد بتحرك عسكري أمرًا غير محتمل. خصوصًا أن بوتين صرَّح بأنه لا مشكلات لبلاده مع فنلندا والسويد، ولا يوجد تهديد مباشر لروسيا بانضمامهما للحلف، لكنَّه أكد أيضًا أن أي توسع للبنية التحتية العسكرية سيثير ردًّا روسيًّا بالتأكيد.
خطوة في الاتجاة الخاطئ
روسيا ترى أن الدول التي تنضم للحلف ليست سوى دول تتنازل عن دفاعاتها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. لكن رغم ذلك فمن المستبعد أن يكون لموافقة تركيا تبعات على علاقاتها مع روسيا. فقد قبلت روسيا من حيث المبدأ انضمام فنلندا والسويد. والأهم أن تركيا وروسيا يحتاج بعضهما إلى بعض حاليًّا، ولا يمكن المجازفة بخسارة أحدهما الآخر. وبالأحرى لن يخسر بعضهما بعضًا من أجل دولتين لم يكونا ضمن السيطرة السوفيتية السابقة التي يحلم بوتين بإعادتها دائمًا.
ورغم الحفاوة الدولية التي تُستقبل بها الدول الراغبة في الانضمام للناتو، فإنه في حالة فنلندا والسويد قد يكون الأمر خطوة ضخمة، لكن في الاتجاه الخاطئ. ففترة الحياد الطويلة التي امتازت بها فنلندا والسويد هي ما مكنتهما من تحقيق إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية، ووضعتهما في مقدمة المؤشرات العالمية فيما يتعلق بالتعليم والصحة. وبانضمامهما للناتو سوف تنتهي قرابة 200 عام من الحياد السويدي، وسوف ينتهي الحياد الفنلندي الذي بدأ بعد الهزيمة المدوية في الحرب العالمية الثانية.
لكن انضمامهما للحلف يعني تحولهما لمنطقة صراع جديدة بين معسكر روسيا ومعسكر الغرب. خصوصًا أنهما كانتا شبه متواجدتين في الحلف منذ سنوات، تشاركان في جميع المناورات التدريبية، وتتمتعان باتفاقيات قوية مع الولايات المتحدة وأوروبا. فقد كانتا تتمتعان بمزايا التواجد في الحلف دون التبعات الرسمية لذلك. لكنهما بتلك الخطوة ستدفعان فاتورة الانضمام الرسمي، وستصبحان حلقة في سلسلة الصراع الطويلة.
سلسلة الصراع التي لا يتوقع أن تنتهي يومًا، فشهية الولايات المتحدة والناتو لضم الدول لا تتوقف. ويبدو أن الحرب الروسية الأوكرانية قد شجعت دول العالم على التكتل فيما بينها، لذا فمن المتوقع أن تطلب دول جديدة الانضمام للحلف. فالجانب الغربي لن يرضى بأقل من محاصرة روسيا تمامًا. وهو بالتأكيد ما سيثير الحفيظة الروسية لمقاومة هذا الحصار بكل ما تملك، ما يضع العالم على شفا مرحلة جديدة، إما أن تنهار فيها القوى الروسية للأبد، أو يدخل العالم في حرب جماعية تهدد الأمن العالمي بالكامل.