أين نجد الحب في القاهرة؟
عزيزتي نجوى،
تحية طيبة وبعد.
نبحث في القاهرة عن شتى الأشياء لا سيما الحب على أول القائمة.
أكتب لكِ بعد أن وجدت الحب في فبراير ٢٠٢٣ بسينما زاوية في وسط البلد. قابلت حبيبي صدفةً في مهرجان أفلام نجيب محفوظ، تقابلنا تحديدًا في فيلم «بداية ونهاية» بالسابع عشر من فبراير. أكتب لكِ بعد رؤيتك في القاعة الكبيرة في سينما زاوية أمس؛ لكي أخبرك أني أبحث عن النسخة القاهرية التي عاصرتِها في ٢٠٠٧. لا أتذكر تكلفة تذكرة السينما حين عُرض الفيلم لأول مرة، لكنها لا تقل عن مائة جنيهٍ الآن.
ترتدين فساتين فوق الركبة وتستقلين الأتوبيس دون خوف. تكلفك التذكرة حتى مصر الجديدة جنيهًا واحدًا نجحتِ في التهرب من دفعها. لا أتفاجأ من جرأتك وعفويتك الداهية. فتيات الصعيد جريئات حتى حين يتوردن خجلًا أو يهربن إلى الحمام عندما يخبرهن أحد أنهن جميلات.
تعتقدين أن استعراض القوة وسرعة البديهة هما مفتاحا الحب، أو قادران على إلقاء تعويذة الحب ليفتن بها الرجال، وفي المقابل تشككين بنفسك، وتظنين أنك خالية من الوسامة والذكاء والقوة في المنيا، إلا أنك خطوتِ القاهرة قوية، فطنة وأنثوية. ليس كل القوة صلابة، أو خشونة. تكمن قوتنا في بعض الأحيان في جرأتنا على التساؤل والاستكشاف وتصديق حدسنا.
ينمو الأفراد من طريقين لا ثالث لهما: إما المعاناة، أو الحب. نتحمل المعاناة لأننا ننحاز إلى تحمل السلبيات بشكل عام، فلا نرى سبيلًا للنمو دون الانغماس بالطين والدم.
هكذا يعتاد جهازنا العصبي المعاناة، بل يمكن أن يُدمنها، فلا ينمو إلا من خلال الخبرات الشاقة. أتفاجأ أنكِ على وعي بهذه النقطة جيدًا. يخبرك حدسكِ أن هذه ليست الطريقة الوحيدة. فتتشوقين إلى تجربة الحب لأنك تريدين أن تنمي من خلاله.
لم تبحثي عن الحب وحده بالقاهرة، بل بحثتِ عن أجوبة تساؤلات تؤرق خاطرك لعقود عن الحب والصداقة والأنوثة. تبحثين عن الصديقة التي كانت لكِ منارة لسفنك مثلما البحار الذي يرتبك حين تختفي منارته. قلب المؤمن دليله، هكذا كنتِ على يقين أن تهاني لم تمت.
من الجميل أن نرى الحب دون حسابات رياضية مفرطة. لا أعلم ما السبب في بساطته بين يحيى ونجوى. هل هي الأدوات البسيطة مثل الجوابات وموبايلات النوكيا؟ هل هي سذاجة نجوى التي قابلها يحيى بشهامة؟
لا أرى يحيى شهمًا طوال الفيلم، لكنه يسلم إلى الشهامة والعطف حين يرى نجوى. ألاحظ أننا مستعدون للتغير حول أناس معينين دونًا عن غيرهم. لم يكن يحيى مستعدًا للتغيير من أجل «داليا» بالرغم من حميمية علاقتهما القائمة بالفعل، ربما لأنها تفوقه ذكاءً وخبرةً، ولا زال يحيى رجلًا لا يحبذ تفوق حبيبته عليه، وربما لأنها علاقة كاجوال منذ البداية قامت على غريزة مشتركة ليس إلا.
على الجانب الآخر تأتي نجوى لأجل هدف سامٍ يُوشي بها في ورطة تلو الأخرى، تحمل قلبها بين يديها، هائمة في مدينة غريبة تبحث عن الحب. أعتقد أن ما يُحرك يحيى نحوها هو الشعور بالمسؤولية تجاه سذاجتها والرغبة في حماية براءتها. هكذا تبدأ معظم القصص الرومانسية في الأفلام -وبعض منها في الواقع- حين ينجذب طرفان متناقضان كالدائرة والمثلث إلى بعضهما.
يقول المعالج النفسي «كين بايج» أن الطريقة التي نبحث بها عن الحب عادة ما تحدد نوع الحب الذي نجده. أتصور أنها تلقى تلك الحدوتة الرومانسية مع يحيى لأن ذلك تحديدًا نوع الحب الذي تبحث عنه، في حين تلقى صديقاتها عرسانًا يبدلن بهم أقفاص أهلهن بأقفاص زاهية قليلًا مع الشربات والمباركات كما تخيلن تمامًا.
***
عزيزتي نوجا،
لا أختلف عنكِ كثيرًا.
أكتب لكِ من بين مصر الجديدة ورمسيس: العباسية. مازلت أكتب الجوابات، وأهتدي إلى منارات أصدقائي وألبس فساتين تغطي ركبتاي. وجدت فستانًا أحمر نُقشت عليه الزهور البيضاء يبدو مثل فستانك إلى حد كبير. اقتنيته من وكالة البلح منذ عام لكن لم أرتده بعد.
أحاول أن أنمو من خلال الحب، وألا أعتاد الألم والحرب، وأتجول في روكسي وميادين مصر الجديدة. تكلفني تذكرة الأتوبيس ١٢ جنيهًا إلى مصر الجديدة، وتذكرة المترو إلى رمسيس تصل إلى ٨ جنيهات.
أخاف ركوب الأسانسير؛ لأن التيار يقطع فجأة دون مواعيد مُعلنة سلفًا ويعود بعد ساعات طويلة بفولت عالٍ كاد يحرق الثلاجات -علمًا أن عمارتي ليست مسكونة بالعفاريت-. أنسى حالي وأفقد الإحساس بالزمن قصاد النيل أيضًا، وأتصبب عرقًا من الرطوبة دون شجر أو مقاعد مجانية، بل أني دفعت ٢٠ جنيهًا على بوابة الممشى. تنطفئ أضواء المدينة بحلول العاشرة مساءً.
أشتاق إلى قاهرة ٢٠٠٧ حيث لا تغلق المحلات أبوابها إلا في الثانية بعد منتصف الليل، أو لا تُغلق أبدًا.. أشتاق إلى مدينتي ذات الدكك الخشبية المجانية التي تطل مباشرة على النيل، ويتجول البائعون بالحمص والترمس والحاجة الساقعة.
يخبرني صديقي الميلينيال، أن القاهرة في ٢٠٠٧ كادت تصل إلى ذروة بطشها من تبعات مشكلات اقتصادية واجتماعية، وهذا بدوره وُجَّه كنقد لمخرج الفيلم. كيف تخلق حُلمًا رقيقًا من مدينة بهذه القسوة؟
أخبر صديقي أن حُلم محمد خان يتماشى تمامًا مع انتمائي لأبناء «جيل z». قضيت طفولة دافئة ومتماسكة قليلًا ما قبل تشكيل أي وعي سياسي عن قاهرتنا. نهرب إلى طفولتنا في أحلامنا، أو تطلعاتنا في المستقبل، ومن وجهة نظري، لابد أن نكون حالمين، أو متفائلين بشكل خرافي يقرَّب إلى السذاجة، حتى نستطيع العيش في القاهرة.
أتيتُ من الصعيد أيضًا، لكني وُلدت ونشأت بالقاهرة. أفقد الإحساس بالزمن حين أغيب عنها كأن الأيام بعيدًا لا تُضاف لعمري. أقارن كل المدن بها، أتذمر من زحمتها، أسخر منها مع أصحابي الوافدين من الأقاليم. مع ذلك، أحب ضجيجها، كل أحيائها الشعبية وتاريخها، ليلها الطويل… إلخ. أحبها لأنها ببساطة مدينتي.
***
تأسر النهاية المفتوحة لخان جمهوره، فلا نتوقف عن رسم نهايتنا الخاصة للفيلم في كل مرحلة حياتية لنا. لم أتخيل في طفولتي خاتمة لقصتهم بعد مشهد القطار النهائي. نَمَت هذه التساؤلات معي، فأتساءل الآن، كيف تتحقق العلاقة بين مثلث ودائرة؟
يشير علماء نفس آخرون مثل «جوتمان» و«ستيرنبرج» إلى بعض الضلوع الأساسية لعلاقة تشبع رغباتنا وتدفعنا لنكون من نريد أن نكون. بالإضافة إلى الالتزام بين الزوجين نحو أحدهما الآخر والتطلع نحو خلق حياة سعيدة، الونس في صداقتنا والمشاركة في الرؤية العامة للزواج وأكبر قدر من القيم الحياتية والمبادئ التي نمتثلها.
قد يصبحان أصدقاء ويلتزمان تجاه بعضهما بدافع الاستقرار، لكن هل سينمو بينهما جوهر مشترك مع الوقت؟ هل تستطيع نوجا تزوج يحيى؟ هل يقدر يحيى على حُب كل ما نجوى عليه؟ هل يعلمون قشور الأشياء عن أنفسهم لكي يقابلون بعضًا في نقطة رمادية بالوسط؟
يقول «كين بايج» في كتابه [Deeper Dating] عن المواعدة وإيجاد شريك للحياة، “دون التعرف على مواهبنا الداخلية ندخل في سلسلة من العلاقات التي ننجذب لها بدافع الحرمان (Attraction out of deprivation)، في حين العلاقات التي نطمح لها جاذبية نابعة من الإلهام (Attraction out of inspiration). في السياق الأول ننجذب إلى الأشخاص لأنهم يملكون ما نحلم به دون أي استعداد واضح عن تقديمه لنا. مع ذلك، نُفتن بما ينقصنا ونهرول نحوه”.
مواهبنا الداخلية (Core Gifts) هي القدرات والخصال الفطرية التي نرِثها ونُقبل عليها بسلاسة. تتجذر بعمق في شخصياتنا وقيمنا وتبث بنا شعورًا بالسعادة والفخر والإنجاز لمن نكون.
لا تزال العلاقات بين الدوائر والمثلثات في الأفلام لها جمهورها الخاص، لكن هل انجذب يحيى ونجوى لبعضهما بدافع الإلهام، أم الحرمان؟ هل يوجد مساحة لخلق هذا الإلهام بأي شكل؟
***
في العقد الثالث بعد الألفية الجديدة، أحاول أنا وغيري من النساء استكشاف ذواتنا بعيدًا عن مفاهيم الذكورة والأنوثة والتابوهات الأخرى التي تُفرض علينا كنساء. نحاول أن نكون أنفسنا.
مثل هذه الأمور لا تُدرس بالمدرسة أو غيرها من مؤسسات تربوية، لكن يمكن الاستدلال عليها من خلال بعض التأملات في حياتنا حول اهتماماتنا وهواياتنا، ومهاراتنا ونقاط قوتنا، وعفويتنا وميلنا نحو أشياء معينة دون غيرها وآراء الآخرين فينا مع الأخذ في الاعتبار مدى أهمية المقبولية الاجتماعية.
ما الذي يثير غضبك؟
ما الذي يلهمك في الحياة؟
ما هي اللحظات المؤثرة بحياتك؟
ما هي أكثر الأمور التي تفتخر بها؟
ما هي اللحظات التي جعلتك تشعر بعدم الرضا عن نفسك؟
ماذا تتخيل حين تغمض عينيك لترسم بيتًا مثاليًا أو أي منظر طبيعي مفضل لك؟
تستطيع من خلال التأمل في هذه الأسئلة وصف قائمة ممتدة من القيم الحياتية أو من خلال الأنشطة التدريبية، ويفضل مناقشتها مع معالج نفسي لكي تستطيع التعرف على حالك وترتيب هذه القائمة في سياق آمن وداعم. تستطيع تبادل الأفكار مع الأصدقاء المقربين أيضًا، فأحيانًا يرى الناس أبرز خصالنا بوضوح عنا.
أفضل ما في الأمر أنه حين نعرف تلك الأمور عن أنفسنا نستطيع الوثوق في صوتنا الداخلي، وبالتالي يختلف نوعية الناس الذين ننجذب لهم ونتفاعل معهم. بالرغم من أن احتمالية مقابلة شريك حياتك تزيد حين تتوقف عن البحث عنه، والبحث عن نفسك.
هذه ليست دعوة للتوقف عن البحث عن الحب، بالعكس، هذه دعوة للبحث عن حب أصيل يسمح لنا أن نكون من نريد ونشارك أنفسنا مع شخص يُقدرنا ويجدنا مصدر إلهام له. حاول ألا تنجرف قدماك وراء هوس الفردانية.
وبالمرة التالية التي يدلك قلبك على أحدهم، سوف تستطيع رؤيته على حقيقته دون البحث عما يستطيع تقديمه لك؛ لأنك لا تبحث عن إشباع نواقصك، فتنظر كيف يمكن أن نحيا سويًا.
ويمكن أن نسأل أنفسنا سلسلة من الأسئلة الأخرى، مثل ماذا تريد في شريك حياتك؟ ماذا تريد في علاقتك الحالية أو المستقبلية؟ ما الأشياء التي لا تريدها مطلقًا؟ ما هي طموحاتنا بهذه العلاقة، ولأي مدى نريد أن نحارب لأجلها؟
***
عزيزتي نوجا،
أكتب لكِ هذا الجواب على مدار أسبوعين ولا أنتهي منه. لقد تغير الكثير في هذه الفترة القصيرة.. يبدو أنني على أعتاب الفقدان من جديد.. لم ينبهني أحدهم بحجم المفارقة بين الدوائر والمثلثات، فتوجب عليَّ اختباره بنفسي.
أتمنى أن تراسليني.
أريد أن أسمع عن رحلتك أكثر. لعلها تواسيني، أو تؤنسني.
مودتي،
فريال