منذ سنوات بعيدة رُسمت الحدود بين السينما والمسرح، السينما تحكمها الصورة والمسرح يحكمه الكلمة. ولكن الطرفين قبلا بتبادل الأدوار في بعض الأحيان نزولاً على ظروف محددة وتحت ضغط إبداعات استثنائية. والأكيد أن مسرحية «أوجست ويلسون» التي وضعت حياة الأمريكيين السود في دائرة الضوء هي واحدة من تلك الإبداعات الاستثنائية التي استحقت أن تتغاضى السينما لها عن قواعدها البصرية لصالح الكلمة.

ولأن «دينزل واشنطن» يدرك أهمية المسئولية الملقاة على عاتقه، فقد قرر أن يجعلنا نشاهد المسرحية الأصلية مصورة سينمائيًا بدلاً من أن يقدم معالجة جديدة بشكل جديد، وشاهدنا أخيرًا نص أوجست ويلسون الذي قدمه دينزل ورفاقه طوال 144 يومًا على خشبة «Broadway»، والذي انتظر أكثر من 33 عامًا منذ قدمه أوجست ويلسون لأول مرة ليُعرض أخيرًا على الشاشة الكبيرة بعد محاولات بدأت منذ عام 1987 لتحويله لفيلم سينمائي.


عن ما وراء الأسوار

تدور أحداث «Fences» حول أسرة أمريكية سوداء في خمسينيات القرن الماضي، يعمل الأب «روي» الذى جاوز الخمسين من عمره كعامل في جمع القمامة وتعتني زوجته «روز» بشئون المنزل. الابن الأكبر «ليون» تجاوز الثلاثين من عمره ولكنه لا يزال يتردد على منزل أبويه لاستعارة المال من وقت لآخر في ظل محاولاته للعمل كموسيقي متجول. الابن الأصغر «كوري» لا يزال طالبًا في المدرسة الثانوية ولكنه يريد الانضمام لفرق كرة القدم الأمريكية وفي سبيل ذلك يرغب في التوقف عن العمل كبائع في أحد محلات الحاجيات المنزلية.

الحكاية لا تهتم بذكر الأحداث الكبيرة التي تقع في المجتمع الأمريكي في هذا الزمان بشكل مباشر، ولكنها تروي كل شيء من خلال قصة هذه الأسرة. فنرى توابع حرب فيتنام من خلال شخصية «جابريال» الأخ الأكبر لـ«روي» الذي عاد من الحرب بإصابة تركته مشوش الذهن، يظهر وهو يغني ويحكي عن الجنة ثم يختفي.

كما نرى العنصرية ضد السود من خلال حلم روي في الانتقال من العمل كجامع للقمامة إلى العمل كسائق لعربة القمامة، وهو المنصب الذي يظهر لنا كحكر على أصحاب البشرة البيضاء. كما نرى روي وهو يتحدث عن ماضيه كلاعب بيسبول الذي تخلى عنه بسبب العنصرية ضد اللاعبين السود وعدم قدرتهم على اللعب في دوري البيسبول العادي والمخصص فقط للبيض.

خلف كل هذا نرى حكاية إنسانية أسرية من الممكن أن تحدث في أي مكان وزمان، عن الضغوط التي تفرضها الحياة علينا وكيف نتخلى عن أحلامنا ثم نتحول لنموذج مُعادٍ من كل شيء كرهناه قديمًا.


درس تمثيلي مفتوح في مساحات مغلقة

حافظ «دينزل واشنطن» في تجربته الإخراجية الثالثة بعد «Antwone Fisher» في 2002 و«The great debaters» في 2007، على الشكل المسرحي لنص أوجست ويلسون، فرأينا فيلمًا يتكون من مجموعة من الحوارات الطويلة بين الشخصيات فى ثلاثة أو أربعة أماكن. هذا الشكل كان من الطبيعي أن يقلل من قيمة النص نظراً لأنه يستخدم وسيطًا مختلفًا عن المسرح الذي يتفاعل فيه الجمهور مع الحوارات الطويلة. حدث ذلك كما كان متوقعًا ولكن الفيلم تم إنقاذه ويرجع الفضل في ذلك بشكل كبير إلى الأداءات التمثيلية المتميزة جدًا من الممثلين في كافة الأدوار تقريبًا.

نتابع إذًا مباراة تمثيلية خاطفة للأنفاس بين عملاقي التمثيل دينزل واشنطن وفيولا دافيس. دينزل في دور «تروي»، الزوج الذي نبدأ الفيلم ونحن في حالة تعاطف معه ومع كفاحه من أجل إعالة أسرته في ظل ظروف صعبة، ثم يزداد قربه منا بروحه المرحة وقدرته على سرد الحكايات التي يشاركه فيها صديقه طيب المعشر «جيم بونو»، الذي قام بدوره الممثل المسرحي ستيفن هيندرسون.

وفيولا في دور «روز»، الزوجة المكافحة الجميلة التي تبدأ الفيلم بشكل هادئ كحجر الزاوية الذي يضمن هدوء المنزل وسعادة «تروي» وأبنائه. مع تطور الأحداث شيئًا فشيئًا تتبدل الأدوار ويبدأ «تروي» في ارتكاب الأخطاء وفقد تعاطفنا معه، في حين تغير «روز» مكانها لتحتل منتصف الأحداث وتتولى القيادة ولكن مرة أخرى من أجل إنقاذ المنزل والأسرة. بين هذا وذاك يظهر «كوري» الابن الأصغر كنموذج مصغر من أحلام والده القديمة التي أصبح يكرهها ويحاول قمعها الآن.

نصل للحظة الذروة في مشهدين تتجلى فيهما المواجهة بين تروي وروز من جانب، وتروي وابنه كوري من جانب آخر. يبدأ تروي في المشهد الأول في التذمر من المسئوليات التي تثقل عاتقه منذ 18 عامًا مبررًا بذلك خطأه في التورط في علاقة بامرأة أخرى، وهنا تنفجر روز وتظهر لحظة تمردها الأولى في لحظة عاطفية خالدة لفيولا دافيس. في المشهد الثاني يبدي كوري تذمره من رفض والده لرغبته في الالتحاق بفريق كرة القدم متهمًا والده بأنه لا يحبه، وهنا ينفجر تروي ليكشف عن ماضيه القاسي وطفولته التي عانى فيها من تعامل والده، كما يؤكد لابنه أن العالم لن يعطيك شيئًا لأنه يحبك لذا فقم بمسئولياتك؛ لأنه لا يعيله لأنه يحبه ولكن لأنه مسئول عن ذلك في واحدة من لحظات دينزل التمثيلية الخالدة فى الفيلم. المؤكد أن هذين المشهدين هما ضمن أفضل المشاهد التمثيلية التي شاهدناها خلال العام الفائت.


لأن السود يستطيعون سرد حكاياتهم بأنفسهم

يبني بعض الناس أسوارًا لكي يبقوا الآخرين خارجها، آخرون يبنونها لإبقاء الناس داخلها.
في عام 1990 صرح الكاتب أوجست ويسلون بتلك الكلمات :
حتى يأتي زمن يصبح فيه المجتمع السينمائي جاهزًا لتعيين مخرج أسود في فيلم من بطول دينيرو أو ريدفود، فعلى الأقل يجب أن يُمنح السود الفرصة لإخراج قصصهم وتجاربهم الشخصية.

منذ الظهور الأول لمسرحية Fences للكاتب أوجست ويلسون في أوائل الثمانينات وهي مثار إعجاب وحديث كافة المهتمين بالمسرح في أمريكا والعالم. تُرجم هذا الاهتمام بمحاولات متتابعة لتحويل المسرحية لفيلم سينمائي. بدأت هذه المحاولات في عام 1987 حينما عرضت شركة Paramount تحويل المسرحية لفيلم من بطولة «إيدي ميرفي» ومن إخراج الأمريكي المخضرم «نورمان جويسون».

ولكن ويلسون رفض هذا العرض معللاً ذلك بأنه لن يقبل تحويل المسرحية لفيلم سينمائي إلا إذا قام بإخراجه مخرج أمريكي أسود. توقف المشروع واحترم الجميع رغبة ويلسون. تكرر عرض المسرحية لسنوات وسنوات، حتى عرضها مؤخرًا دينزل واشنطن وفيولا دافيس على خشبة برودواي في عام 2010 وحينها فازا بجائزتي التمثيل في حفل Tony awards.

فارق أوجست ويلسون الدنيا في عام 2005 لتتحقق أمنيته أخيرًا في عام 2016 حينما حول دينزل المسرحية أخيرًا لفيلم من إخراجه ومن بطولة فيولا دافيس ونفس فريق العمل الذي شاركه العمل في برودواي. ضمن Fences أربعة ترشيحات لجائزة الأوسكار، حيث قدم دينزل وفيولا درسًا متكاملاً في فنون التمثيل كما ذكرنا مسبقًا واستحقا من خلاله ترشيحين في جائزتي التمثيل، لتحصد فيولا في النهاية جائزة أوسكار مستحقة انتظرتها طويلاً، ويحصد دينزل احترام الجميع رغم عدم حصوله على الجائزة لصالح كايسي أفليك الذي بدأ خطاب تسلمه بالتعبير عن امتنانه لمقابلة دينزل الذي تعلم التمثيل منه.

ترشح الفيلم لجائزة فيلم العام وترشح الراحل «أوجست ويلسون» لجائزة أفضل نص مقتبس. لهذا كله ولكل ما سبق أعتقد أن ويلسون سعيد في مكانه حاليًا بما قدمه Fences لنا داخل صالات السينما وخارجها، فقد أثبت وجهة نظره بأن السود يستطيعون سرد حكاياتهم وتحويلها لأفلام، بأنفسهم.