حذاء فيلليني: التحايل على القمع بالألاعيب السردية
ذكرتني العودة للكتابة عن القمع في الرواية بكتابٍ هام للناقد اللبناني «شاكر النابلسي» أسماه اسمًا مفارقًا هو «مباهج الحرية في الرواية العربية» يستعرض فيه عددًا من الروايات التي تناولت وتحدثت عن كل ما هو ضد الحرية والبهجة من قهر وقمع وظلم وقسوة في عددٍ من الروايات العربية، وهي الظاهرة التي كانت آخذة في التراجع حتى استعادتها -فيما أعتقد- ثورات الربيع العربي ليعود الكتَّاب والروائيين مرة أخرى لوصف ما كان عليه الحال قبيل تلك الثورات من ظلمٍ وقهر للإنسان في كل مكان!
وإذا كان كتاب شاكر النابلسي قد تناول حين صدوره عددًا من الكتابات والأقلام العربية (منذ أميل حبيبي وعبد الرحمن منيف وصولاً إلى يوسف إدريس ويوسف القعيد) التي دارت في فلك الحرية باحثة عنها وسط أغلال الظلم والقهر الذي تعانيه، فلاشك أننا بحاجة اليوم بعد أن دار بنا الزمان دورة مختلفة إلى رصد أعمالٍ أخرى أخذت على عاتقها بيان وفضح العديد من الأنظمة الديكتاتورية سواء التي بدا لنا أنها سقطت أو التي هي في طريقها إلى السقوطـ!
حذاء فيلليني: الفيل ذو الذيل القصير
في روايته الصادرة مؤخرًا عن دار «المتوسط» يتناول الروائي المصري «وحيد الطويلة» موضوع «القمع والقهر» وتغوُّل سلطة رجال الشرطة بطريقة مختلفة تمامًا، ويتحايل على عرض المشكلة بعددٍ من الألاعيب السردية الذكية.
تبدأ الرواية بالعنوان المفارق والمختلف «حذاء فيلليني» والمعروف أن «فيلليني» رسام ومخرج إيطالي شهير، ولكن الرواية تستخدم «اسمه» فقط للإشارة إلى «سجين» أحب رسومات فيلليني لدرجة أن السارد يسميه «مجنون فيليني» وهو ما سنعرف دلالته وتفاصيله داخل الرواية، ثم تأتِ العتبة الثانية للنص والدالة جدًا في الاستهلال بإحدى مقولات «فيلليني» نفسه (اسحب ذيلاً قصيرًا فقد تجد في نهايته فيلاً) وهي العبارة التي تشير إلى أن ثمة تفاصيل كبيرة غائبة ومهمة قد يحجبها شيء بسيط وقصير مثل «ذيل»، ومثل خطأ في القبض على إنسانٍ لا شأن له بما يجري، وهي الكارثة التي لا تمل التكرار في بلداننا العربية للإيقاع بالكثير من المظلومين في طريق الظلم وجبروت أصحاب النفوذ والكلمة العليا!
ثم يأتي بعد ذلك الإهداء إلى «الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد.. إلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا»
لتبدأ الرواية بعدها بمشهدين يضع لهما عنوان (مشهد ما كان فيلليني ليحبه) و (مشهد كان فيلليني ليحبه) وجود المعالج النفسي «مُطاع» مع آخرين في حضور أحد أعضاء «الحزب الحاكم» في مهمة لا يعلم عنها شيئًا.
ليكتشف القارئ شيئًا فشيئًا تفاصيل الحدث الرئيسي الذي يبدأ بلحظة دخول زوجة الضابط المتخصص في التعذيب على المعالج النفسي عيادته، وفيما هو يسمع حكايته منها ويسمع صوته يكتشف أن هذا الضابط هو الذي كان قد عذبه قبل عشر سنوات، ويبدأ في استرجاع أحداث الماضي ولحظات التعذيب القاسية الأليمة التي مر بها ولم ينساها، لكي تحين بعد ذلك وفي ذلك الظرف الاستثنائي لحظة الانتقام.
لا بد من قتله.
هكذا يتحوَّل الضحية أخيرًا إلى جلاد، وهكذا يجد الفرصة أمامه أخيرًا للتشفي ورد الصاع صاعين، هكذا يستنفر الكاتب أيضًا توحش الإنسان حينما تمتهن كرامته وتداس إنسانيته، ثم يجد الباب مفتوحًا لرد اعتباره لنفسه، وبطريقة لم يكن ليحلم بها، ويبدو السارد/الرواي واعيًا لعملية السرد وطريقة الحكاية موجهًا خطابه في مراتٍ عديدة للقارئ، وكأنه يكسر هنا إيهام الرواية ويحوِّل الأمر إلى تقريرٍ عن حالة تدور بيننا باستمرار وبشكل مخزٍ وفاضح في أحيانٍ كثيرة.
تعود الحكاية إلى بدايتها، فيبدأ السارد بحكاية قصته مع جارته التي أحبها، تلك التي أوقعته في حبائلها واستدرجها ضابط كبير فلقي مصيره الأسود ذلك. كان قد نسي كل هذا حتى أعادت الحكاية إليه -وللمصادفة- زوجة الضابط المخلوع الذي أحيل على المعاش ويجلس الآن أمامه مهزومًا مخذولاً !
تكشف الزوجة المسكينة للطبيب المعالج حقيقة تفاصيل حياتها القاسية مع ذلك الضابط منذ اكتشفت حقيقته وما يفعله في المسجونين، وما كان يفعله معها، وما عرفته عن خياناته المتعدد ، ولعل الحديث عن ذلك النوع من الضباط ووسائل تعذيبهم غدا أمرًا معتادًا متواترًا اعتادت الروايات عليه، لاسيما تلك الروايات التي تتناول قضية القمع والظلم والاستبداد فتعرض الوجه الأسود لذلك المستبد/الظالم والذي كثيرًا ما يتمثل في ضابط شرطة أو من يمثله، ولكن هذه المرة تجد نفسك متورطًا في التعاطف مع هذا الضابط ذلك أنه لا يحضر هنا ليكون معبِّرا عن السلطة الغاشمة وتجبُّرها، بل يبدو مجرد أداة من أدواتها وفردًا مسحوقًا تحت هيمنة تلك السلطة منفذًا للأوامر متناسيًا آدميته وطبيعته جاعلاً من توحشه وتغوله وسيلة لإثبات ذاته أمام هؤلاء المساجين المساكين أيضًا!!
هكذا تلتقي المصالح، ويتحد -بالمصادفة البحتة- الطبيب المعالج (الذي كان أحد الضحايا في يوم من الأيام) مع تلك الزوجة المكلومة التي ذاقت من العذاب ماديًا ومعنويًا الشيء الكثير، وآن لها الآن أن تنتقم هي الأخرى!
يحضر صوت الضابط بعد ذلك متحدثًا حديث الطغاة في كل زمان ومكان، صوتٌ يذكرنا بـ«الأخ الكبير» في رواية جورج أورويل 1984:
الألاعيب السردية
لا تعبأ الرواية كثيرًا بتقاليد السرد المعتادة، بل إن أجمل ما تفعله أنها تخلخل تلك التقاليد، فليس ثمة تحديد لزمان حدثٍ ولا مكانه، وإن كان واضحًا أننا في بلدٍ عربي (لايهم تحديده)، وأنها في عصرنا الحاضر حيث يأتي ذكر «بن لادن» و«القذافي» و«صدام حسين» وغيرهم جنبًا إلى جنب مع «فيروز» و«الرحباني» وغيرهم ، كما أنه ليس ثمة أحداث رئيسية، بل حدثٌ واحد تتداعى كل الأحداث حوله وتلتف، بل حتى الشخصيات تأتي في كل فصلٍ لتتحدث كما يتراءى لها، لا لكي تكمل صورة ناقصة أو حكاية سابقة، هي قطع «الفسيفساء» التي يحترف «الطويلة» رصها أمام القارئ حتى يجمعها ويشكل الصورة كاملةً بإتقان.
تنتهي الرواية، ولا تنتهي الحكايات، يبدو مسلسل القمع مستمرًا وتبدو -على الدوام- محاولات مقاومته والتحايل عليه بالفن والكتابة وبمواصلة الحياة والكشف عن الحقيقة وسائل أساسية حتى لو كانت أضعف الإيمان في مواجهة هذا الطوفان!
تجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية هي الرابعة في مسيرة «وحيد الطويلة» الأدبية، وهو روائي مصري حصلت روايته «باب الليل» على جائزة ساويرس في الأدب عام 2015، ودفعت دار «المتوسط» بهذه الرواية إلى «البوكر» القادمة.