فيلم «ثمانية ونصف» لفيليني: استدعاء الساحر الإيطالي في زمن سينما المحتوى
يحكي فيليني في الوثائقي المعنون «Fellini: I’m a Born Liar» أنه لم يشاهد أبداً أياً من أفلامه لمرة ثانية، لذلك حين يطالع لقطة لأحد أفلامه في مجلة أو يشاهد مقطعاً منها على التلفاز كان يتساءل للوهلة الأولى من صانع هذه الأفلام؟ يحكي أيضاً أنه مذ أصبح مخرجاً سينمائياً ولديه هذا الإحساس الغامر بأن شخصاً ما بداخله، شخصاً آخر استولى على حياته وهو من يدير العرض كله وأنه فقط يضع صوته وأفكاره تحت تصرفه.
كان فيليني معلم السينما الكبير وأحد أكبر حالميها منفتحاً دائماً على مملكة الداخل بسحرها وغموضها وفوضاها، كانت سينماه عطية الحدس والحلم والمخيلة. رمى نرد خياله ذات مرة على رقعة من ظلمة روحه فخلق زامبانو بطل فيلمه (La Strada- الطريق) لكنه حين تجسد أمام كاميراه صعق.
عانى فيليني من اكتئاب عميق قرب نهاية تصوير «الطريق» إذ بدأ يرى نفسه في شخصية زامبانو التي أداها أنتوني كوين. كان هذا الإدراك المباغت أن هذه الشخصية القاسية، شخصية فنان الشارع المستبد، ذي الطبيعة الحيوانية ومالك جيلوسمينا انبثقت فجأة من أعماق لاوعيه مبعث اكتئابه؛ إنها جزء منه تجاهلته ذاته الواعية وكشفه فنه. مزقه هذا الكشف وألقى به في أعماق يأس مطبق، فذهب لزيارة معالج نفسي فرويدي لكنه وجد التجربة كلها خانقة، لم يستطع التواؤم مع هذه الطريقة من العلاج التي ترفض الغموض و تنكر ما هو روحي.
كان La Strada الذي ظهر للنور عام 1954 تحفته الأولى والفيلم الأول الذي يمنح أوسكار أفضل فيلم أجنبي. يردد فيليني دائماً أن هذا الفيلم يحمل خريطة عالمه الداخلي وشيفرة أعماقه لكن هذه حكاية أخرى. كانت أزمة فيليني هنا تكمن في رفضه أن يواجه ظلامه وأن يعترف بوجود هذا الظلام بداخله.
نحن الآن عام 1962 كان فيليني يعيش تبعات فيلمه «La Dolce Vita» المزلزلة. بعد النجاح الهائل الذي حققه الفيلم نقدياً وجماهيرياً، كان العالم كله يتحدث عن فيليني. كان المايسترو على قمة العالم وكان الجميع يترقب خطوته القادمة، لكن فيليني ذهب إلى حيث لم يتوقع أحد، أدار الكاميرا نحو ذاته وذهب بعيداً نحو أعماقه، ليصنع من هذه المغامرة الإبداعية أكثر أفلامه ذاتية.
فيليني يريق ذاته على الشاشة
كرر فيليني في عدد من حواراته أن فيلمه «ثمانية ونصف» ولد من رحم الهجر. في الفترة التي سبقت صنع تحفته الأهم كان فيليني يعيش حالة من التشوش والحيرة، اختفت تلك الشخصية التي تدير سيرك إبداعه الفني، كأنما الساحر الذي فيه، قد غادرته لمسة السحر. كان كل ما يغويه في السينما يهجره شيئاً فشيئاً، كانت حياته تتحول إلى سرنمة تخلو من الروح.
يحكى أنه قبل ليلة واحدة من بدء التصوير جلس في مكتبه بالأستوديو تحت تأثير يأسه يكتب لمنتجه اعتذاراً عن عدم القيام بمهمة إخراج هذا العمل. كانت تصله أثناء كتابة الرسالة أصوات مطارق النجارين وهم يعملون في تركيب الديكورات وقبل أن يتم رسالته دعاه رئيس عمال الأستوديو ليشاركهم احتفالاً بسيطاً بعيد ميلاد واحد منهم. حيّاه العامل بكأس من شراب، «سيكون فيلماً عظيماً، عاش فيلمنا ثمانية ونصف». كان الجميع يملؤهم الحماس ما عدا فيليني الذي انزوى وحده غير بعيد منهم شاعراً بالضآلة. كان عقله غارقاً في فوضاه و فجأة سطعت بداخله هذه الفكرة «سوف أروي كل ما حدث لي حتى هذه اللحظة سيكون فيلمي عن قصة مخرج لم يعد يعرف أي فيلم يريد أن يصنع».
يصنع فيليني فيلماً عن مخرج سينمائي يدعى جويدو لم يعد يتذكر حكاية الفيلم التي أراد أن يحكيها أو ما علاقة منصة الصواريخ العملاقة التي شيدت كديكور لفيلمه بما يلح على رأسه من أحلام وخيالات وذكريات.
وجد فيليني ذلك محرراً لحد بعيد، يمكنه الآن أن يريق ذاته بكل هواجسها على الشاشة، وأن يسمح لتقلبات مزاجه أن تصل إلى فيلمه. من حبسته الإبداعية المعذبة ، وُلد فيلم أصيل ومثير وذاتي. ما بين «الطريق» و«ثمانية ونصف» كان هناك لقاء أثر بعمق في نظرة فيليني لحياته الداخلية؟
هذا فيلم يشبه جلسة تحليل نفسي!
ساعده برنهارد على إدراك أهمية أحلامه وأهمية احتضان سرها المعبر عنه بالرموز. إن لغة الأحلام أكثر أصالة بكثير من لغة المفاهيم وهي بمثابة كنز لفنان صاحب رؤية مثله. ساعده على عدم الخوف من ظلامه وعلى الانفتاح على كل الأبعاد داخله، على كل الأوهام والأحلام.
في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، حيث الذكرى المستعادة من طفولة جويدو، تخبر طفولة جويدو أنه عليه ألا يغمض عينيه هذه الليلة، لأنها الليلة التي ستتحرك فيها العيون في الصورة المعلقة على الحائط وحينها عليهما أن يرددا تلك التعويذة الغامضة «آسا نيسي ماسا» كي يعثرا على الكنز في أحد أركان الغرفة. على نحو ما هذه هي حكاية لقاء فيليني مع برنهارد لقد علمه الرجل كيف يجد الكنز في أعماقه.
يقول الناقد ماوريتسيو بورو، في فيلم «Fellini degli Spiriti»: إن فيلم 8 ½ لم يكن ليوجد لولا برنهارد، لأن الفيلم يسير كما لو كان جلسة تحليل نفسي.
فيليني هنا في أكثر لحظاته حرية وانفتاحاً على ذاته، وفيلمه هو صدى هذه اللحظة. يتخلى في «ثمانية ونصف» عن أي قيد سردي أو شكلي سوى رغبته في التحدث عن نفسه. يتخلى فيليني تماماً عن السيناريو الكلاسيكي المكون من ثلاثة فصول مطلقاً العنان لمخيلته حيث تتدفق الصور عبر تتابعات يحكمها منطق خاص بها. وجد الكثير من المشاهدين صعوبة في فهم أين يبدأ الواقع وأين ينتهي داخل المشهد. يبدو الفيلم مثل رقصة مدوخة بين الواقع والخيال وليس عليك سوى أن تستسلم لهذا التشوش الجميل. كان فيليني يحلم أن يشاركه مشاهده نفس التحرر الذي شعر به وهو يصنع فيلمه.
تتابع الصور مثل مونولوج داخلي يخضع لما أسماه النقد تيار الوعي أو ما أسماه فرويد التداعي الحر حيث تتكشف عبر هذا الدفق محتويات اللاوعي دون رقابة من الوعي. يمكن فهم تتابع السرد في فيلم فيليني حسب منطق نفسي واضح. يرى يونج أن الأشخاص الانبساطيين- مثل فيليني ونظيره جويدو- ينكصون نحو الفانتازيا في أوقات التوتر والقلق الشديدين. تمنح ذكريات الطفولة وأحلام اليقظة لجويدو وضوحاً نادراً مقابل تعقد وتشوش اللحظة الحاضرة. حين تصير اللحظة أصعب مما يحتمل جويدو يهرب نحو الذكرى أو الفانتازيا.
لا يقلق جويدو فقط تخلى إلهامه عنه بل اضطراب علاقاته وفوضى علاقاته العاطفية. هذا المشهد يوضح إلى حد بعيد منطق السرد الحاكم، حيث يجتمع جويدو وزوجته وعشيقته في مشهد واحد يدور في حديقة الفندق الذي يقيم فيه ورغم إنكار جويدو لزوجته أنه لا يعرف من تكون هذه المرأة تدرك زوجته تماماً أنها عشيقته وتبدأ في إظهار عدوانيتها تجاه جويدو وعشيقته. يرتدي جويدو نظارته الشمسية و يغوص في كرسيه ليبدأ في تخيل فانتازي لزوجته وعشيقته في انسجام هائل ثم يمعن الخيال في الفانتازيا أكثر فيتخيل فيليني كل نساء حياته يعشن في مكان واحد. يجتمعون معاً لخدمة احتياجاته، وتحقيق كل رغباته، والقيام بكل ما يريد. لكن قلق اللحظة الحاضرة دائماً ما يتسلل إلى خيالاته فيفسد طابعها الهروبي ويعيده مجدداً لواقعه.
كيف تغزل الذكريات والأحلام «بورتريه» ذاتياً لفيليني؟
يفتتح فيليني فيلمه بتتابع حلمي يكاد يجسد جوهر فيلمه حيث جويدو حبيس سيارته في قلب شلل مروري كلي بوجوه جروتسكية وكئيبة، يحاول الخروج من سيارته دون جدوى، ثم يتسلق سقف سيارته ويحلق عبر السحاب حراً في السماء حتى يلاحظ حبلاً ملفوفاً حول كعبه يجره نحو الأرض. حينئذ يستيقظ جويدو في غرفة نومه في منتجع صحي محاطاً بالأطباء الذين يفحصون جسده. يجسد هذا الحلم حالة الحصار التي يعيشها جويدو/ فيليني هذه اللحظة ورغبته في التحرر منها. هذه الدراما الحلمية التي يتعاقب فيها التحليق الحر نحو الخيال والسقوط مجددا في الواقع تجسد دينامية السرد. تطفو كاميرا فيليني بين جغرافيا الخارج والداخل بحرية وهارمونية.
يشكل الخيال لجويدو ملجأً من القلق والضغوط في حياته الحقيقية لكنه يزودنا أيضاً بمعلومات حول هويته. فأحلامه وذكرياته عن أبيه وأمه تكشف دائماً إحساساً مزمناً بأنه كان خيبة أمل بالنسبة لهما. يكشف واقع جويدو مثلما تكشف أيضاً أغلب تجسدات خياله عن تصور مشوه للمرأة والحب والرومانسية. يمكن الرجوع لأصل هذا التصور المشوه إلى تتابع ذكريات ساراحينا. كانت ساراحينا هي أول باب للطفل جويدو على عالم الرغبة والجنس، لكن مجرد زيارته لها طفلاً أدت إلى عقاب مهين له من قبل الكهنة في مدرسته الكاثوليكية. يخبره قس اعترافه ألا تعلم أن ساراجينا هي الشيطان.
منذ هذه اللحظة المبكرة في طفولته يزرع بداخله هذا الإحساس الرهيب بالذنب تجاه الجنس. هذه الطهرانية الكاثوليكية المتطرفة التي تطبع كل متعة بخاتم الخطيئة تخلق بداخله هذا الانقسام الذي يسميه فرويد عقدة المادونا العاهرة، حيث النساء إما مادونا بريئة ومحبوبة لكنها غير مرغوبة لأن الرغبة تدنسها، أو عاهرة مرغوبة لكنها لا تستحق المحبة. كان فرويد يفسر هذه العقدة بأن هؤلاء الرجال يربطون على نحو غير واعٍ بين موضوع حبهم والأم وهو ما يخلق فيهم هذا العجز النفسي عن الرغبة. في واحد من تتابعات أحلام جويدو تقبله الأم بشغف قبل أن تتحول لتصير زوجته لويزا. كان فيليني شجاعاً جداً في تعرية هذا الجانب المشوه داخله في فيلم بهذا القدر من الذاتية. هذا النمط من العلاقات ستجده حاضراً بقوة في سينما كاثوليكي آخر ومن أصول إيطالية وهو مارتن سكورسيزي لكن هذه أيضاً حكاية أخرى.
نوع فيلمي جديد بتوقيع فيليني
تكتب مارلين فيب في كتابها «أفلام مشاهدة بدقة» أنها حين شاهدت ثمانية ونصف لأول مرة تملكتها الحيرة، فلم يكن هناك فيلم حتى تاريخه قد أعدها لاستقبال مثل هذا العمل.
يبدو الفيلم كجونرا جديدة، نوع فيلمي مستقل بذاته. عمل متعدد الطبقات وغير مسبوق من ناحية الانغماس في الذات بحيث يتضح أن التيمة الرئيسية للفيلم هنا هي الذات بكامل عمقها وتعقيدها ومحاولة فهمها وتقبلها. المشاهد للفيلم على موعد مع زمن داخلي مع عقل جويدو ومداره الروحي أكثر مما يحدث في حياته الواقعية.
يمسك فيليني هنا بناصية السرد السينمائي مطوعاً مادته على نبض مخيلته وإيقاعها السائل بين الزمان والمكان. حين تفكر في كل هذه الجونرا، ستاردست ميموريز لوودي آلن، حدوتة مصرية ليوسف شاهين، وصولاً إلى أعمال تشارلي كوفمان المتاهية فإننا هنا ندور في جونرا ثمانية ونصف. ترك فيليني أثره على مخرجين كبار مثل تيري جيليام ، أمير كوستوريتسا وإيناريتو. مخرجون بشخصيات مثل فيليني هو ما تحتاجه السينما اليوم.
في مقاله عن السينما في مئوية فيليني يتحدث سكورسيزي عن إحباطه من الوضع العام للسينما اليوم واختزالها في أقل عناصرها خصوصية وهو المحتوى. يحن إلى الزمن الذي تشكل خلاله وعيه السينمائي، زمن جودار، برجمان، أنطونيوني، فايدا ايمامورا، كوبريك و كازافيتيس حيث مع كل فيلم لهؤلاء المعلمين يعاد اكتشاف السينما مجدداً.
ما يغبطه سكورسيزي في فيلم فيليني «ثمانية ونصف» مثلاً هو هذا النقاء السينمائي الذي حققه فيليني في فيلمه. هذا عمل لا يمكن إنجازه إلا عن طريق السينما والسينما وحدها.
ينهي فيليني فيلمه برقصة تقبل للذات بعد أن عرى عبر سرده خداعها وأوهامها. كان فيليني يعلق أسفل عدسة كاميراه ملاحظة «لا تنس ، هذه كوميديا» ليحافظ على إيقاع فيلمه كما تخيله، فرغم أن الفيلم مليء بالأزمات الوجودية والأسئلة الجادة إلا أنه يمتلك إيقاعاً خفيفاً وصاخباً مثل سيرك أو كرنفال .هنا تعمل كوميديا فيليني – مثل الكثير من الكوميديات العظيمة – على كسر قلوبنا قبل أن تجدد قدرتنا على الأمل.