فيلم «ريش»: بين البحث عن الفن والبحث مع الشرطة
هل تذكر لعبة «ابحث مع الشرطة»؟
هي لعبة انتشرت قديمًا في مجلات الأطفال حيث يتم تقديم مجموعة من الصور الكاريكاتيرية لبعض المجرمين وعدد من الإرشادات الخاصة بملامح المجرم المطلوب ضبطه كأن يكون ذا شارب، أو أصلع، أو ذا عينين واسعتين. أما أكثر هذه الإرشادات إثارة هي التي تقول بأن المجرم ذو وجه مثلث، أو مربع، أو دائري. كنت أتعجب كثيرًا في صغري من تلك الوجوه المرسومة بخطوط مستقيمة فتظهر فيها الأشكال الهندسية بوضوح، وظللت لسنوات معتقدًا أن مثل هذه الوجوه ليس لها وجود في الحياة الواقعية، إلى أن صادفت أحدهم بالفعل.
في إنجاز غير مسبوق في تاريخ السينما المصرية، فاز الفيلم المصري «ريش» من إخراج عمر الزهيري بجائزة مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي الدولي، إضافة إلى جائزة الفيبريسي (الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية) بالمسابقة نفسها، ورشح لجائزة ثالثة هي الكاميرا الذهبية.
قبل أيام عرض الفيلم محليًا للمرة الأولى ضمن فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان الجونة السينمائي التي يشارك الفيلم في مسابقتها للأفلام الروائية الطويلة. لم تمر سوى ساعات قليلة قبل أن تعج وسائل الإعلام بأخبار الفيلم التي تصدرها خبر خروج كل من شريف منير وأشرف عبد الباقي وأحمد رزق أثناء عرض الفيلم اعتراضًا على ما وصفته وسائل الإعلام نقلاً عنهم أن «الفيلم يسيء إلى سمعة مصر»، وذلك قبل أن يصدر الفنان أشرف عبد الباقي بيانًا ينفي فيه ما نقل على لسانه، ويؤكد أنه خرج فقط لأنه «لم يتحمل قسوة الفيلم».
فيلم مصري
تدور أحداث الفيلم في أجواء فانتازية عن أسرة فقيرة مكونة من الأب، عامل في مصنع، والأم، ربة منزل، وثلاثة من الأبناء. يستقدم الأب ساحرًا شعبيًا لتقديم بعض الفقرات في حفل أقامته الأسرة للاحتفال بعيد ميلاد الابن الأكبر. أثناء إحدى الفقرات السحرية طلب الساحر من الأب أن يدخل إلى صندوق خشبي فارغ، وبعد إعادة فتح الصندوق اختفى الأب وظهرت دجاجة داخل الصندوق. صفق الحاضرون إعجابًا بمهارة الساحر، الذي أعاد إغلاق الصندوق لاستعادة الأب ولكنه فشل في استرجاعه. ووسط ذهول الجميع، اختفى الأب وبقيت الدجاجة.
يتابع الفيلم محاولات الزوجة لاستعادة زوجها بشتى الطرق، كالبحث عن الساحر الذي هرب فور فشل كل مساعيه لاستعادة الأب، أو اللجوء لأحد الدجالين الذي نصح برعاية الدجاجة وإسقائها سائلاً خاصًا. عندما يرفض المصنع صرف أي مستحقات للزوج المتغيب عن العمل بدون سبب، تبدأ في البحث عن عمل والاضطلاع بمهام الزوج الغائب.
تجربة فانتازية جديدة ومختلفة كل الاختلاف عن السينما المصرية السائدة، وضع فكرتها المخرج الشاب عمر الزهيري وشاركه كتابة السيناريو الكاتب أحمد عامر. لا يتوقف اختلاف هذه التجربة عند النوع الفيلمي الغائب منذ سنوات طويلة عن السينما المصرية، وربما لم يطرق هذا النوع من قبل سوى المخرج الكبير رأفت الميهي في عدد من أفلامه، ولكن المثير أيضًا في تجربة الزهيري هو المعالجة الذكية والتنفيذ المتقن لكل العناصر الفنية بما لا يخل بمفردات النوع الفيلمي أو الخروج على قواعد عوالمه الغرائبية في أي لحظة من الفيلم.
على المستوى البصري، يقدم الزهيري تجربة أولى شديدة النضوج، استطاع من خلالها أن يخلق عالم الفيلم الخاص والفريد من نوعه بمفردات سينمائية خالصة، إلى الحد الذي يجعله لا يشبه أي عالم آخر في الواقع، سيما الواقع المصري، وإن بدا تأثره الشديد بأسلوب المخرج والكاتب السينمائي السويدي الشهير روي أندرسون في عدد غير قليل من العناصر مثل تصميم المناظر والديكور الذي تغلب عليه الألوان الشاحبة، وتكوين المشاهد ذات الكادرات العميقة، والكاميرا الثابتة، وصولاً إلى الأداء التمثيلي الجاف الذي تغلب عليه الملامح المحايدة والإيقاع الجسدي البطيء.
يشارك الزهيري الفضل في هذا الإسهام الفني، اثنان من الأسماء المصرية الشابة هما مدير التصوير كمال سامي، والمشرف الفني ومصمم الديكور عصام علي، في أولى تجاربهما السينمائية على الإطلاق والتي تنم عن نضج وموهبة كبيرة ننتظر منها الكثير في المستقبل.
يتنقل الفيلم بين عدد من المواقع غير المألوفة والتي منحت الصورة طزاجة وخصوصية تليق بعالمه الفانتازي، فضلاً عن عدد كبير من المناظر المصممة بجودة فنية عالية وتنسجم في عالم الفيلم كما لو كانت مواقع حقيقية، بدءًا من منزل الأسرة الذي يمثل مركز الأحداث، بغرفه الشاحبة والضيقة، مرورًا بقسم الشرطة والمستشفى البيطري والمصنع. في كل هذه المواقع والمناظر تلعب الإضاءة دورًا محوريًا في التأسيس للطابع البصري، سواء بالاعتماد على مصادر متعددة أو منفردة للضوء، أو في المزج بين الأضواء الطبيعية والصناعية الذي لا يفتقد إلى الجمالية ويحافظ في الوقت نفسه على التأثير النفسي لهذا العالم الغرائبي الشاحب.
تمتد يد الإتقان والجودة الفنية إلى كل عناصر الفيلم والذي يضم فريق عمله في غالبيته فنانين مصريين، فبالإضافة إلى التصوير السينمائي وتصميم الديكور، قام بأعمال المونتاج هشام صقر، وتصميم الصوت أحمد عدنان، وتصميم الأزياء هبة حسني، والماكياج والخدع البصرية إسلام أليكس ودنيا صدقي، مجموعة من الفنانين الذين يستحقون الاحتفاء وليس والاتهامات المزيفة.
جمال الواقع وجمال الفن
هذه الأسلوبية المحكمة والمسيطرة على الفيلم في كل عناصره هي أول الأبواب التي ولجت منها الأصوات الرافضة، وفي الوقت نفسه، وللغرابة الشديدة، هي ذات العناصر التي منحت الفيلم قيمته الفنية وتوجته بهذه الجوائز الرفيعة من أحد أكثر المحافل السينمائية المرموقة على مستوى العالم.
قامت الاتهامات الموجهة للفيلم بالإساءة لمصر على أساس أن الفيلم يصور الفقر في المجتمع المصري بشكل فج ومنافٍ للواقع، وبالغت في تصويرها لهذه التهمة باستحضار نظرية المؤامرة والقول بأن هذه الإساءة هي السبب الوحيد لفوز الفيلم بمثل تلك الجوائز المرموقة.
على خلاف ما قد يبدو من العنوان، لا نية لكاتب هذا المقال في مناقشة تلك الاتهامات أو الدخول في جدل لا طائل من ورائه، ولكن ما يشغلني حقًا هو التفاوت في تلقي هذا العملي، سيما وأن تلك الأصوات الرافضة بدأها فنانون هم بحكم التعريف أكثر فهمًا لجوهر الفن الذي ينتمون إليه.
بالتأكيد ليس هناك أي إساءة في تصوير الفقر، وفيلم «ريش» بالتأكيد ليس الأول من نوعه الذي يتناول موضوع الفقر في السينما المصرية، ودعني أزيدك من الشعر بيتًا وأقول إن الفقر ليس بموضوع الفيلم، أو على أقل تقدير لا يمثل مركزية لأحداثه، وإنما تدور المعالجة الدرامية حول شخصية الزوجة التي تغيب عنها زوجها -بصرف النظر عن السبب- وكان عليها أن تواجه الحياة وحدها بعد أن كان مستقرها المنزل ولا تعرف في الحياة سوى خدمة زوجها وأبنائها. الزوجة التي تأخر حوارها بالفيلم لمدة ليست بالقليلة وكانت أولى كلماتها: «ماشي، حاضر».
ما يجعل من «ريش» فيلمًا غير اعتيادي هو تلك الأسلوبية المسيطرة على عناصره سيما البصرية، هو ذلك العالم الغرائبي الذي لا ينتمي إلى الواقع، وتلك الألوان الشاحبة التي تعبر عن رؤية صناعه وتنسجم في الوقت نفسه مع حياة البطلة التي لا تعرف الألوان الصريحة، والتي يغشى الدخان منزلها بصفة يومية ولا تغيب مداخن المصانع عن خلفية حياتها.
الاختيارات الفنية بفيلم ريش كانت أشبه بالخطوط المستقيمة في وجوه المجرمين في لعبة «ابحث مع الشرطة»، كانت اختيارًا فنيًا أصيلاً أجاد من خلاله صانع الفيلم التعبير عن نفسه ورؤيته الخاصة للعالم. بالتأكيد لا تبدو الحياة في الواقع بمثل هذا الشحوب المادي، وإن كانت على نفس القدر من الشحوب المعنوي، وهنا تحديدًا يكمن إسهام الفيلم الفني الذي استحق عليه تلك الجوائز المرموقة.
فيلم «ريش» هو بحق أحد العلامات المضيئة في تاريخ السينما المصرية التي تعيش في حالة من الركود الفني منذ سنوات طويلة. وبعد حين، ستنقشع تلك السحابة الكثيفة، وتتبدد كل تلك الاتهامات وما صاحبها من جدل سيصب في مصلحة الفيلم بكل تأكيد وسيدفع الكثيرون للبحث عنه ومشاهدته، وسيبقى الفيلم وإنجازه التاريخي، وسيبقى أيضًا السؤال: ما هو مفهوم فناني هذه الحقبة الرديئة من تاريخ السينما عن الفن الحقيقي؟