مخاوف من حرب باردة جديدة: ماذا تعرف عن القديمة؟
تريد أن يعتبرك الجميع قوة عظمي؟ ولكن ليس لدي بلادك المقومات الاقتصادية أو السكانية أو الثقافية الملائمة لتصبح كذلك.. الحل بسيط إذن: فقط تصرف كقوة عظمى.
يعد الرئيس الروسي «فلايديمير بوتين» أفضل من يطبق النصيحة السابقة هذه الأيام، لا تمتلك موسكو مقومات الاتحاد السوفيتي الذي يجعلها قوة عالمية قادرة على منافسة الغرب، لديها اقتصاد أضعف، عدد سكان أقل، وذاكرة حاضرة لهزيمة المشروع الشيوعي عالميًا، أي أنها ليس لديها مشروع ثقافي متمايز يمكن تسويقه في وجه الرأسمالية الغربية، ومع ذلك فإن بوتين لديه نقطتا تفوق واضحتان للغاية :جرأته، وتردد منافسيه الغربيين.
دفعت جرأة بوتين تلك الروس إلى التدخل في القرم،و سوريا، وجعلت موسكو كعبة للسياسيين الذين يبحثون عن حليف يمكن الوثوق به، ربما لهذا تتصاعد اليوم الأحاديث عن حرب باردة جديدة، وبدأت أجواء الحرب الباردة الأولى في تكرار نفسها، على الصعيد الإعلامي على الأقل.
يقدم كتاب «الحرب الباردة»،لمؤلفه روبرت جيه ماكمان صورة مجملة عن أهم تفاعلات الحرب الباردة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، حتى نهاية المواجهة الأمريكية السوفييتية في عام ١٩٩٠. كما يلقي الضوء على الأحداث والنزعات والقضايا الأساسية للحرب الباردة، معتمدًا في ذلك على بعضٍ من أهم وأحدث الدراسات عن الحرب الباردة، وستساعدنا قراءته على التعرف على مواطن الاتفاق والاختلاف بين اليوم والأمس، وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع حال تدهورها بين القوى العالمية تأثيرا.
لكن العامل الأهم الذي قد يدفعنا إلي إعادة قراءة الحرب الباردة هذه الأيام، هو أن أغلب ترتيبات الحرب وما بعدها ظلت تلقي بظلالها على المشهد السياسي والاقتصادي إلى اليوم، ومن شأن اندلاع حرب باردة جديدة أن يحدث تغيرات عديدة في ذلك المشهد، بما يعنيه ذلك من إعادة رسم خريطة نفوذ القوى العالمية ككل، بمعنى آخر، لو كان ثمة نزاع بارد جديد، فلن يكون إلا استكمالا للقديم، بعد «وقت مستقطع» طلبه الروس للتخلص من آثار الهزيمة في الجولة الأولى.
البداية، من التحالف إلى الفراق
من بين مئات المدن المدمرة،ونحو 60 مليون قتيل ثلثهم من المدنيين خلفتهم الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة أقل الأطراف تضررا، حتي إن الاقتصاد الأمريكي قد تحسن بشكل كبير خلال الحرب مع الركود الكبير الذي أصاب اقتصادات الدول الأخري التي كانت في وجه المدافع الهادرة ، ومع ذلك فإن الهجوم الياباني على ميناء هارل بيرل خلال الحرب قد حطم وهم الحصون المائية الطبيعية – ممثلا في المحيطين – الذي تمتع به الأمركيون منذ الحروب النابوليونية، أدرك الأمريكيون أن التكنولوجيا قلصت الكرة الأرضية بما يجعل من الضروري أن تبدأ خطوط الدفاع بعيدا عن السواحل الأمريكية، كما خرج الأمريكيون وقد قرروا أنهم لن يسمحوا مستقبلا لأي دولة معادية الدول أي تسيطر علي منطقة أوراسيا «أوروبا وشرق آسيا» فهي بما فيها من بنية تحتية وموارد وطبيعية وبشرية تمكن من يسيطر عليها من السيطرة علي العالم.
كان الاتحاد السوفيتي قد خرج من الحرب أكثر انهاكا، قتل نحو 25 مليونا، وتعرضت مساحات شاسعة من الأراضي السوفيتية للاحتلال، كانت هذه هي المرة الثانية خلال ربع قرن التي يحتل فيها الألمان الأراضي السوفيتية مرورا ببولندا الشرق أوروبية، ومن هنا فقد كان هاجس «الأمن الداخلي» كذلك هو المسيطر علي عقل ستالين عقب الحرب.
الحلفاء يريدون ألمانيا قوية اقتصاديا … ضعيفة عسكريا
كان التحالف بين الاتحاد السوفيتي الممثل العالمي للشيوعية، وبين الرأسمالية في وجهها الأمريكي والأوروبي أشبه بـزواج المصلحة، وما إن اطمأن الجميع إلى زوال الخطر الألماني حتى عاد التشكك المتبادل بين المعسكرين المتنافرين أيديولجيا وسياسيا، صحيح أن الولايات المتحدة كانت تدرك أنه ليس بمقدور الجيش الأحمر أن يشكل خطرا عسكريا مباشرا على الأمة الأمريكية، أو على الحلفاء الأوروبيين،على الأقل في المدي المنظور، إلا أن التخوف الأكبر كان من أن تشكل الحالة الشيوعية السوفيتية دعما – ماديا أو معنويا أو حتى بمجرد إلهام النموذج- للحركات اليسارية والعمالية التي كانت تموج بها البلدان الغربية، خاصة مع الهزات الاقتصادية والاجتماعية التي أصيبت بها المجتمعات الأوروبية جراء الحرب.
في حين سعى ستالين إلى الانتقام من ألمانيا، بتحميلها فاتورة مضاعفة ، وإلزامها بتعريضات ضخمة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وتفكيك منظومتها الصناعية لمنعها من التحول مجددا إلى قوة مهددة، كان لدى الأمريكيين نظرة أخرى تتمثل في أن أمريكا مستقرة اقتصاديا تتطلب أن تكون أوروبا مستقرة اقتصاديا، ولا تتعافى أوروبا إلا بتعافي الاقتصاد الألماني، وبعكس اليابان التي تولت الولايات المتحدة مسؤولية إعادة تأهيلها – جردتها من قوتها العسكرية وأقامت فيها ديمقراطية ليبرالية نيابية واقتصاد منفتح على الطراز الأمريكي- فقد كان من الصعب الوصول إلى حل وسط في الحالة الألمانية، وهو ما انتهى إلى تقسيم ألمانيا إلى شرقية وغربية.
لقد كانت ألمانيا رمزا واضحا للتقسيم الذي طبع أوروبا كلها، ففي حين أسس الحلفاء الغربيون جمهورية ألمانيا الاتحادية في القسم الغربي، فقد أسس السوفييت جمهورية ألمانيا الديمقراطية في المناطق الخاضعة، تمثل الحالة الألمانية صورة مصغرة لواقع النفوذ إبان الحرب الباردة، وقد أسس السوفييت جدارا للفصل بين الألمانيتين لوقف تدفق المهاجرين من الشق الخاضع لهم إلى ألمانيا الغربية نتيجة الضغوطات الاقتصادية والقمع السياسي، وكما كان هذا الجدار رمزا للفصل ومحددا لمناطق النفوذ، سيصير انهياره رمزا لانتهاء الحرب الباردة، وسقوط المشروع الشيوعي السوفييتي في عام 1990.
المسرح الأول للحرب : أوروبا
كانت أوروبا هي المسرح الأول للحرب الباردة بين الولايات المتحدة ومن ورائها حلفائها في أوروبا الغربية من جهة ، وبين الاتحاد السوفييتي الذي أوجد لنفسه دائرة نفوذ في أوروبا الشرقية، ففرض حكومات موالية له في بولندا ورومانيا وبلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا والمجر وألمانيا الشرقية، لم يتسامح السوفييت مع أي محاولة في تلك البلدان للتحرر من القبضة الشيوعية، فأخمد الجيش الأحمر المنازعات العمالية في بولندا، وقام مائتا ألف من القوات السوفيتية بقمع احتجاجات الطلاب في المجر بعد قرار حكومة الأخيرة الانسحاب من حلف وارسو الذي شكل الكتلة الشرقية.
كان هذا تعبيرا عن الحقيقة البسيطة أن النفوذ السوفيتي في أوروبا الشرقية يعتمد على القوة الكاسحة، وعلى الاستعداد لاستخدامها تبلور التحالف الأول في تأسيس حلف شمال الأطلسي «الناتو» عام 1949 كمظلة أمنية جامعة جامعة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، في حين أسس السوفييت حلف «وارسو» الذي ضم موسكو وحلفائها من الكتلة الشرقية، كانت هذه هي المرة الأولي منذ القرن الثامن عشر التي تدخل فيها الولايات المتحدة في حلف أمني ملزم أو تدمج احتياجاتها الأمنية مع احتياجات دول أخرى.
كانت الحرب الباردة صراعا بين مشروعين، رأسمالي واشتراكي، كانت حربا أيديولجية بقدر ما كانت صراعا جيوستراتيجي، ومن هذا المنطلق يمكن فهم الصراعات التي دارت في مناطق مختلفة من العالم بتأثير منها، بعض هذه الصراعات كان يجري في بلدان ليست ذات أهمية استراتيجية للبلدين، كبعض مناطق إفريقيا وآسيا، إلا أن الطبيعة الأممية التي كان كلا البلدين يطرح مشروعه من خلالها، يمكنها تفسير الاهتمام البالغ من قبل كل طرف بعدم خسارة أي بقعة من الأرض لصالح الطرف الآخر، سعت الولايات المتحدة إلى «احتواء» الاتحاد السوفييتي، سياسيا وعسكريا، ولو تطلب الأمر تنفيذ انقلابات عسكرية على الحكومات الموالية لموسكو بالإضافة إلى تقليل القبول الذي تحظي به الشيوعية في الوقت ذاته، عبر التركيز علي انتهاكات الحقوق الفردية بحق السوفييت، وتنفيذ برامج اجتماعية داخلية، وتخصيص مساعدات اقتصادية للدول الحليفة تمكنها من تجاوز أزماتها الاقتصادية بما لا يجعل من الخطاب الاشتراكي خطابا ذا جاذبية، فمثلا قدمت الولايات المتحدة باسم «مشروع مارشال» نحو 13 مليار دولار لمساعدة أوروبا الغربية.
مع بداية عقد السبعينات دخل مصطلح جديد إلى معجم العلاقة بين القوتين العظميين وهو مصطلح «الوفاق»، بما يعني إدارة الحرب الباردة بطريقة أكثر أمنا، وبما يمنع انزلاق الأمور إلى الهلاك المحقق للجميع، ساعد على ذلك الاستنزاف المستمر للقوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية في فيتنام، فلم يعد بمقدور الأمريكيين أن يواصلوا سياسة التفوق التي تعاملوا بها مع الاتحاد السوفيتي منذ سنوات الأربعينات، وفي المقابل فقد كان للتواترات المتزايدة داخل المعسكر الشيوعي، بين الاتحاد السوفييتي والصين أثره في دفع الأول إلي محاولة تقليل الضغط الأمريكي.
وقع الطرفان في مايو/أيار 1972علي معاهدة أولي للحد من الأسلحة الاستراتيجية ، ومع أن مرحلة الوفاق هذه قد تخللتها صعاب عدة، وشهد عقد الثمانينات عودة خطابات الحشد العدائية من الطرفين، إلي أنها قد مهدت فيما بعد للمرحلة الأخيرة من الحرب.
حين سئل الرئيس الأمريكي ريجان ذات مرة عن الحرب النووية، أجاب بأن:
كان ريجان يشير إلى أن القصف المتبادل قد يكون على مناطق نفوذ كلا من العظميين في أوروبا، التي ستكون ميدان المعركة.
شهد عقد الثمانينات حراكا جماهيريا دفع باتجاه إيجاد تسوية سلمية للخلافات بين القوتين، تظاهر ملايين الأشخاص في عدة مدن أوروبية، وامتدت الحركة الداعية للسلام هذه إلى الداخل الأمريكي، وشاركت فيها الكنائس والقامات العلمية والطبية الذين اندفعوا يحذرون من الأضرار المتوقعة لأي صراع نووي.
جورباتشوف يرسم مشهد النهاية .. مؤقتا
كانت العامل المفصلي لنهاية الحرب الباردة هو وصول «ميخائيل جورباتشوف» إلي السلطة في عام 1985، جاء جورباتشوف -الذي كان صغير السن نسبيا 54 مقارنة بسابقيه الطاعنين في السن – بنشاط، حمل جورباتشوف ووزير خارجيته إدوارد شيفرنادزه،أفكارا جديدة ثورية فيما يتعلق بالأمن والأسلحة النووية، وأولى أهمية قصوى لقضايا الإصلاح الداخلي وإعادة تجديد الاشتراكية، رأى قادة الكريملين الجدد أن سباق التسلح يعود على بلديهما بالضرر، ولا يضيف شيئا بل يثقلهما بالأعباء فقد كانا على قناعة بأنه لن يستخدم أي شخص عاقل أو دولة عاقلة الأسلحة النووية، قدم السوفييت تنازلات كبيرة أدت إلى توقيع معاهدة أخرى عام 1987 لتدمير مئات الأسلحة النووية لدى الطرفين، وللمرة الأولى في التاريخ، لم يتم نقليص الأسلحة النووية فحسب، بل تم تدميرها أيضا.
تراخت القبضة السوفيتية على أوروبا الشرقية، فاندلعت منذ عام 1989م عدة ثورات شعبية ديمقراطية في بلدان حلف وارسو أدت إلى إسقاط الحكومات الموالية لموسكو، تكللت بفتح جدار برلين الذين كان رمزا لتقسيم ليس فقط العاصمة الألمانية، بل أوروبا ككل، ترك جورباتشوف الأمور تسري في مجراها الطبيعي، عاجزا أو راغبا، أو عاجزا و راغبا، تقبل الروس في النهاية حتمية إعادة توحيد ألمانيا، انتهت الحرب الباردة فعليا في عام 1990 وما هي إلا شهور قليلة حتى تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه، بعد أطلقت إصلاحات جورباتشوف العنان للقوى التي كانت ملجومة سابقا، ومنذ ذلك الحين، صارت الحرب الباردة تاريخيا يُحكي، أو هكذا كان الجميع يظن.