الخوف من الإشعاع أكثر خطورة من الإشعاع نفسه
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
إن الخوف من الإشعاع المؤين (النووي) يترسخ في أعماق الحالة النفسية الإنسانية. لأسباب بعضها تاريخي وبعضها نفسي، نحن نفترض ببساطة أن أي تعرض للإشعاع المؤين يعد خطيرًا. لا تهم جرعة الإشعاع ولا طبيعة المادة المشِعة ولا طريقة التعرض (سواء من خلال الجلد أو الاستنشاق أو البلع). وتصبح المعادلة النهائية (الإشعاع = خطر = خوف).
على الرغم من ذلك، فالحقيقة هي أن الخطر الصحي الذي يشكله الإشعاع المؤين قريب كما كان يُفترض عادة. وبدلاً من ذلك، فإن خوفنا المفرط من الإشعاع (رهاب الإشعاع) الذي نتعرض له، يسبب ضررًا أكبر للصحة العامة من الإشعاع المؤين نفسه. ونحن نعرف كل هذا من الأحداث الأكثر رعبًا في تاريخ العالم الحديث: القصف الذري لليابان، والحوادث النووية في تشرنوبيل وفوكوشيما.
إن الكثير مما ندركه حول الخطر البيولوجي الفعلي للإشعاع المؤين يستند إلى برنامج البحث المشترك بين اليابان والولايات المتحدة والمعروف باسم «Life Span Study» للناجين من هيروشيما وناكازاجي، والذي لا يزال قيد التنفيذ طيلة 70 عامًا. وفي نطاق 10 كيلومترات من مناطق الانفجارات، كان هناك 86 ألفًا و600 ناجٍ، يطلق عليهم «الهيباكوشا» حيث تمت متابعة حالاتهم ومقارنتها بـ 20 ألف ياباني لم يتعرضوا للإشعاع. وتوفي 563 ممن نجوا من القنبلة الذرية مبكرًا بسبب السرطان الذي أصيبوا به جراء الإشعاع، لتزيد نسبة الوفيات لأقل من واحد بالمائة.
وفي حين أن الآلاف من «الهيباكوشا» قد تلقوا جرعات عالية للغاية من الإشعاع، تعرض الكثيرون منهم لجرعات معتدلة أو أقل، لكنها لا تزال أعلى من الجرعات التي تعرض لها ضحايا حادثي تشرنوبيل وفوكوشيما النوويين.
وفيما يتعلق بالجرعات المعتدلة أو الأقل من الإشعاع، خلص برنامج «Life Span Study» إلى أن الإشعاع المؤين لا يزيد من معدلات الإصابة بأي مرض مرتبط بالإشعاع بنسبة أعلى من المعدلات الطبيعية للسكان الذين لم يتعرضوا للإشعاع. بمعنى آخر، لا يمكننا أن نتأكد من أن هذه الجرعات المنخفضة تسبب أي ضرر على الإطلاق، ولكن إذا تسببت في ضرر، فإنها لا تفعل الكثير.
وبغض النظر عن مقدار الجرعة، فلم يخلص البرنامج إلى وجود أدلة على أن الإشعاع المؤين يسبب ضررًا جينيًا تتناقله الأجيال. ولم يتم اكتشاف أي منها في أطفال «الهيباكوشا».
وبناء على تلك النتائج، تقدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن حصيلة وفيات السرطان من حادث تشرنوبيل النووي ربما تكون أعلى من 4 آلاف شخص. وفيما يتعلق بحادث فوكوشيما، والذي تسبب في انبعاث مواد مشعة بنسبة أقل من تشرنوبيل، تتوقع لجنة الأمم المتحدة العلمية المعنية بآثار الإشعاع الذري وجود أية زيادة في حدوث آثار صحية مرتبطة بالإشعاع بين من تعرضوا له أو أحفادهم.
وقد أثبت الحادثان النوويان أن الخوف من الإشعاع يتسبب في المزيد من الأضرار للصحة أكبر من الإشعاع نفسه. فقد خلص البرنامج البحثي المشترك إلى أنه نتيجة للقلق من الإشعاع، تم إجلاء قرابة 154 ألف شخص من المنطقة الواقعة حول مفاعلات فوكوشيما داييتشي النووية. وأفادت صحيفة (ذا جابان تايمز) أن عملية الإجلاء تسببت في مقتل 1656 شخصًا، 90% منهم ممن تزيد أعمارهم عن 65 عامًا. تجدر الإشارة في ذلك الصدد إلى أن الزلزال وموجات المد العاتية التي ضربت المنطقة نفسها قد أسفرت عن مقتل 1607 أشخاص فقط.
لقد خلصت منظمة الصحة العالمية إلى أن عملية الإجلاء في محيط مفاعلات فوكوشيما زادت معدل الوفيات بين كبار السن الذين تم إيداعهم في مساكن مؤقتة. أما السكان المتضررون الذين تمزقت صلاتهم الاجتماعية بعائلاتهم وكانوا يعيشون في مساكن مؤقتة، فقد عانوا بشكل أكبر من السمنة وأمراض القلب والسكري وإدمان الكحوليات والاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة، مقارنة بالسكان عمومًا في اليابان. كما زادت نسب فرط النشاط والمشكلات الأخرى بين الأطفال، شأنها شأن السمنة بين الأطفال في محافظة فوكوشيما، حيث لم يسمح لهم بالتريض خارج منازلهم.
على الرغم من أن كمية المواد المشعة المنبعثة من حادث تشرنوبيل كانت أكبر من فوكوشيما، فإن الخوف قد تسبب في الكثير من الأضرار الصحية. في عام 2006، أفادت لجنة الأمم المتحدة العلمية المعنية بآثار الإشعاع الذري بأن تأثير تشرنوبيل على الصحة النفسية مثّل المشكلة الصحية الأكبر للحادث حتى الآن، فضلاً عن تضاعف معدلات الاكتئاب. أيضًا، أصبحت اضطرابات ما بعد الصدمة منتشرة على نطاق أوسع، كما زادت بشكل كبير معدلات القلق وإدمان الكحوليات والتفكير في الانتحار.
كما تحدث من يعيشون في المناطق المتضررة عن تقديرات سلبية لصحتهم ورفاهيتهم، إضافة إلى إيمانهم بقصر متوسط أعمارهم. وانخفض متوسط العمر المتوقع لمن تم إجلاؤهم من 65 إلى 58 عامًا. ولم يظهر القلق حيال الآثار الصحية للإشعاع أي علامات على التناقص بل ربما يتزايد وينتشر.
وتضيف البيئة الطبيعية المحيطة بحادثي تشرنوبيل وفوكوشيما داييتشي دليلاً على أن الإشعاع المؤين أقل ضررًا من الناحية البيولوجية مما يُعتقد عمومًا. وخلص علماء الإشعاع إلى أنه لم يكن هناك تأثير عملي له على النباتات والحيوانات على الإطلاق.
ويتجاوز الخطر من رهاب الإشعاع، الآثار التي تقع في المنطقة المحيطة بالحوادث النووية. وعلى الرغم من أن الإشعاع المنبعث عن حادث فوكوشيما لم يسفر عن زيادة في الأمراض المرتبطة بالإشعاع، فإن الخوف منه آل باليابان وألمانيا لإغلاقات محطات الطاقة النووية الخاصة بهما. وفي كلا البلدين، ازداد استخدام الغاز الطبيعي والفحم، مما يرفع مستويات تلوث الجسيمات وانبعاثات الغازات الدفيئة.
ولن تفي أية دولة بأهدافها فيما يتعلق بالحد من انبعاثات الغاز الدفيئة بحلول العام 2020. وفي شتى أنحاء أوروبا، فالخوف من الإشعاع قد آل بألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا والنمسا والسويد وسويسرا لتبني سياسات لدعم الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية بشكل أكبر عن الطاقة النووية كوسائل للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، على الرغم من أن معظم خبراء الطاقة وتغير المناخ يقولون إن مصادر الطاقة المتجددة المتقطعة غير كافية لحل المشكلة.
في الولايات المتحدة، قامت 29 من حكومات الولايات بدعم الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لكن ثلاثًا منها فقط قدمت حوافز على استخدام مصادر الطاقة النووية التي تولد طاقة أكثر أمنًا وأكثر وثوقًا بها.
إن الخوف من الإشعاع له جذور عميقة. وتعود تلك الجذور إلى استخدام الأسلحة الذرية، كما أن الحرب الباردة ربما تغدو مثالاً يمكن الاستشهاد به في ذلك الصدد. ولقد نشأت فلسفة حماية البيئة الحديثة استنادًا للخوف من التسرب الإشعاعي الناجم عن الاختبارات الجوية لهذه الأسلحة. وقد تربى جيل كامل من الأشخاص على الأفلام والأدب والفن الآخر الذي يصور الإشعاع النووي كبعبع التكنولوجيا الحديثة.
من الناحية النفسية، فقد خلص بحث إلى أننا نبدي قلقنا بشكل مفرط تجاه مخاطر لا يمكننا اكتشافها بحواسنا، وهي المخاطر المرتبطة بالأضرار الكارثية أو السرطان، والمخاطر التي هي من صنع الإنسان وليست الطبيعة، إضافة إلى المخاطر التي تثير ذكريات مخيفة، مثل تلك التي أثارتها ذكرى تشرنوبيل أو حادث جزيرة الثلاثة أميال النووي. إن خوفنا من الإشعاع عميق، لكن ينبغي علينا فعليًا أن نخشى من هذا الخوف بدلاً من ذلك.