فتوى على النار، بشأن قيادة المرأة للسيارة
ليست عندي مشكلة في قيادة المرأة للسيارة، ولا غضاضة أيضًا في خروج الفتوى بجواز أن تقود المرأة السيارة في المملكة العربية السعودية أو في غيرها من البلاد، ولا حرج أن تخرج فتوى اليوم تبيح ما حرمه المشيخات بالأمس، فلا مانع شرعًا يمنع المرأة من أن تقود السيارة، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: لا يوجد نص شرعي من قرآن ولا من سنة يحرم على المرأة قيادة السيارة، أو غيرها من الدواب المركوبة المخلوقة أو المصنوعة، وكل الذين يحرمون يبنون آراءهم على أمور في أذهانهم أو بناء على العرف أو بناء على أمر بشري يأتيه من هنا أو هناك، ولا نصًا قرآنيًا معهم، ولا نصًا نبويًا ولا حتى بإسناد ضعيف، ومن قال غير ذلك فليأت بالبرهان، وكذلك كل من يدعي شيئًا لا نطلب منه غير البرهان، كما علمنا ربنا:
{قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111، والنمل: 64]
ثانيًا: كانت المرأة في العصر النبوي تأتي أمورًا أكبر بكثير من قيادة السيارة، وذلك في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، وبعلمه وإقراره، فصار ذلك أمرًا مشروعًا، وكان ما هو أقل منه في الفعل جائزًا بالتبعية كشأن كثير من المسائل.
وحتى لا يكون الكلام مرسلًا أذكر لك مثالًا أكبر من قيادة السيارة، وهو خروج المرأة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أرض المعركة، ومشاركتها في الحرب أحيانًا، وهذه «نسيبة بنت كعب الأنصارية» المشهورة بأم عطية، وقد يقال لها أم حبيب، وأم عمارة، كانت تترس وتدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، ليس هذا فحسب بل ظلت مجاهدة محاربة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك يقول أبو نعيم في «حلية الأولياء»: وكانت أم حبيب اسمها نسيبة من أهل العقبة، فخرجت في خلافة أبي بكر مع المسلمين إلى مسيلمة فباشرت الحرب بنفسها، حتى قتل مسيلمة، ورجعت إلى المدينة وبها عشر جروح من طعنة وضربة.
وهي التي تروي أيضًا: «كنا نداوي الكلمى، ونقوم على المرضى» [البخاري في الحيض]، وأخرج لها الإمام مسلم: عن أم عطية الأنصارية، قالت: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى» [مسلم في الجهاد والسير]
وعن الربيع بنت معوذ، قالت: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة» [البخاري كتاب الجهاد والسير]، وفي لفظ للبخاري، عن ربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة» [البخاري كتاب الطب]
وعن أم زياد الأشجعية جدة حشرج بن زياد أنها غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر سادسة ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا، فقال: «بأمر من خرجتن؟» ورأينا فيه الغضب، فقلنا: «يا رسول الله، خرجنا ومعنا دواء نداوي به، ونناول السهام، ونسقي السويق، ونغزل الشعر، نعين به في سبيل الله»، فقال لنا: «أقمن»، فلما أن فتح الله عليه خيبر قسم لنا كما قسم للرجال [ابن أبي شيبة في المغازي]. وهذا باب واسع، لا نريد أن نطيل فيه أكثر من هذا.
ثالثًا: من المعروف المستقر تاريخيًا وعرفيًا وواقعيًا أن المرأة العربية قبل الإسلام وبعده كانت تركب الدواب المختلفة من جمل أو ناقة أو حصان أو بغل أو حمار، ونحو ذلك، ولم ينكر ذلك أحد، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه كره للمرأة أن تركب شيئًا من هذه الدواب إذ إنها كانت تركبها في عصر الإسلام، وفي حضور النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك الأمر منكورًا عليها، وظل الأمر كذلك حتى وفاته، فكان أمرًا مستقرًا جوازه، لم يأت ما يمنعه أو يحرمه، حتى خرج على أمة الإسلام من يحرم على المرأة قيادة السيارة بدافع الحرص أو بهوى أو بخوف من ذي سلطان.
وقد أخرج البخاري قصة استشهاد أم حرام بنت ملحان أنها سقطت من دابتها فماتت، وهاك الحديث بشأنها: عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: «سمعت أنسًا رضي الله عنه، يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنة ملحان، فاتكأ عندها، ثم ضحك فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على الأسرة، فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعلها منهم، ثم عاد فضحك، فقالت له مثل – أو مم- ذلك، فقال لها مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، ولست من الآخرين، قال: قال أنس: فتزوجت عبادة بن الصامت فركبت البحر مع بنت قرظة، فلما قفلت (رجعت وعادت): ركبت دابتها، فوقصت بها (انكسرت رقبتها عنها)، فسقطت عنها، فماتت». [البخاري كتاب الجهاد والسير].
رابعًا: مما يزيد الأمر وضوحًا حديث أخرجه البخاري وغيره أن الإسلام سيستقر حتى تخرج المرأة راكبة دابتها وهي آمنة على نفسها، تقطع المسافة الطويلة، وقد استبط البخاري والبيهقي وغيرهما من هذا الحديث حكمًا آخر، وهو جواز سفر المرأة بلا محرم إذا أمنت على نفسها دينها وحياتها وعرضها، فما هذا الحديث؟
أخرج البخاري، عن عدي بن حاتم، قال: «بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة (المرأة ) ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدًا يقبله منه.
وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولن له: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالًا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: اتقوا النار ولو بشقة تمرة فمن لم يجد شقة تمرة فبكلمة طيبة، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة، لترون ما قال النبي أبو القاسم: صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه». [البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام].
لهذه الأسباب لا أجد مانعًا يحرم المرأة من قيادة السيارة، فلا نص شرعي يحرم، بل المرأة أتت في عصر النبوة ما هو أكبر من مجرد قيادة السيارة، وهو مشاركتها في الحروب تداوي الجرحى، وتنقلهم إلى المدينة، وتشارك في القتال إن تطلب الأمر.
والسبب الثالث هو ركوب المرأة في عصر النبوة للدواب المتنوعة الموجودة آنذاك من حصان وجمل وناقة وبغل وحمار، والرابع هو تبشير النبي صلى الله عليه وسلم باستقرار الإسلام حتى تخرج المرأة من العراق والشام راكبة دابتها قاصدة البيت الحرام لأداء مناسك الحج أو العمرة.
فلا مسوغ يمنع من أن تقود المرأة السيارة، ولا أجد للمانعين دليلًا، لكن الذي يتعجب له المرء أن يكون الأمر ممنوعًا أمس، ويباح اليوم، وهذا هو الذي أخشاه على علماء الإسلام، وأخشى أن يأتي اليوم الذي تطلب فيه الفتوى فيقال: واحد فتوى وصلحها، ونسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.