مصر الفاطمية: عندما بدأ المصريون يتحدثون العربية
تبدو الإجابة عن سؤال: متى تحولت مصر إلى الإسلام واللسان العربي؟ ترتبط بداهة في المخيلة الجمعية للمصريين المعاصرين بتاريخ فتح الصحابي عمرو بن العاص للبلاد في عام 21 هـ/ 642 م. إلا أن حقيقة تعرض مصر للفتح والغزو عدة مرات على مدار تاريخها، دون أن تغير لغتها ودينها خلال أي تجربة من تجارب الفتح والغزو تلك، يدفعنا لإعادة النظر في توقيت تمام تشكل ملامح هذا التحول التاريخي العميق، الذي لم يتحقق على إثر فتح بن العاص لمصر مباشرة.
في كتابه «عندما أصبحت مصر عربية إسلامية» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1997 عن دار الشروق في القاهرة، يضع الكاتب والمفكر الإسلامي الراحل د.محمد عمارة يده على تلك اللحظات المفصلية التاريخية في تحول مصر إلى العروبة وإلى الإسلام. ويحدد عمارة توقيت هذا التحول بالعصر الفاطمي، الذي بلغت خلاله حركة التعريب ذروتها، على نحو حدا بالكنيسة القبطية لتغيير لغة كتب العبادة والصلوات إلى العربية كي يفهمها المصلون.
فما هي أهم ملامح ذلك العهد الذي شهد ذلك التحول التاريخي الكبير لمصر في دينها السائد ولغة أهلها المحكية بأفراحه وأتراحه بحسب ما يروي لنا د.عمارة؟
مصر خلال العصر الفاطمي
يسجل الرحالة الفارسي ناصر خسرو (المتوفى عام 453 هـ)، الذي زار القاهرة ومكث فيها ثلاث سنوات، صورة لنا عن حياة الغنى والترف التي شهدتها المدينة، قبل وقوع الشدة المستنصرية سنة 1066، ويذكر في هذا الإطار أن القاهرة وحدها احتوت على 20 ألف حانوت، كانت مملوكة جميعها للخليفة الفاطمي، ويستأجرها الناس منه بمقابل يصل أحيانًا إلى 10 دنانير في الشهر الواحد.
يقول خسرو إن المنازل التي كان يملكها الخليفة الفاطمي في مصر، بلغت عدتها نحو 8 آلاف منزل، كان يؤجرها للناس، والغريب أنه يذكر أن بعض تلك المنازل كان متعدد الطوابق ويبلغ عدد طوابق بعضها 14 طابقًا، ولا ندري في الحقيقة هذه مبالغة منه في هذا السياق أم لا.
يحدثنا خسرو أيضًا عن تعداد سكان العاصمة، ويذكر أن تعدادهم بلغ نصف مليون من الأنفس، وعن سعة البيوت التي كانت يسع بعضها مائتي ساكن، وعن الحدائق والمتنزهات، وأسطح القصور التي زرعت بالأشجار، حتى تحول بعضها إلى متنزهات على درجة عظيمة من الجمال. ويقول كذلك، أنه لم يستطع حصر قدر ثروة البلاد، وأنه لم يسبق له رؤية تلك النعمة في بلد آخر.
كان أحد مظاهر التقدم الصناعي في العهد الفاطمي، هو حوض صناعة السفن، الذي بناه الخليفة المعز على النيل في منطقة تدعى «المقس» بالقرب من حي الأزبكية الآن. فضلًا كذلك عن صناعة النسيج التي ازدهرت بسبب ترف وفخامة الحياة الفاطمية، وكثرة أعياد الفاطميين واحتفالاتهم ومراسيمهم. هذا إلى جانب التقدم العمراني الواسع في ذلك العهد.
أما على المستوى العلمي والفكري، فشهدت مصر في العهد الفاطمي إنشاء جامع الأزهر، الذي بدأ كمسجد جامع للمدينة الجديدة التي أسسها جوهر الصقلي، ثم تحول إلى مدرسة علمية اضطلعت بدور عقائدي وفكري مهم لنشر فقه ومذهب الفاطميين في مصر، وشهدت البلاد كذلك تأسيس دار الحكمة في عام 395 هـ خلال عهد الحاكم بأمر الله، كأكاديمية علمية عنت بالكثير من العلوم الدينية والطبيعية مثل علم الفلك والطب.
كما ازدهرت حركة نسخ المؤلفات وانتشرت الكتب والمكتبات، ويذكر عمارة في هذا السياق أن مكتبة القصر الفاطمي وُجد فيها، عندما سيطر صلاح الدين الأيوبي على البلاد، بعد أن نُهب منها الكثير زمن الشدة المستنصرية، 2,600,0000 كتاب، وذلك في مكتبة واحدة فقط، ناهيك عما احتوته دار الحكمة وغيرها.
على الصعيد الاجتماعي قسم المقريزي طبقات المجتمع المصري في العهد الفاطمي على النحو التالي:
1. أهل الدولة من أصحاب المناصب وكبار العسكريين
2. أهل الغنى من التجار والملاك
3. أصحاب الحوانيت من البزازين (بائعي الأقمشة) المشتغلون بالأعمال التجارية المتوسطة و أصحاب الحرف المختلفة.
4. الفلاحون من أهل الزراعة والحرث من سكان القرى والريف.
5. الفقراء وهم بحسب المقريزي طلاب العلم وكثير من الفقهاء إلى جانب معظم الجند.
بناء الدولة الفاطمية
يقول د.عمارة إنه على الرغم من مبدأ الشورى في الإسلام، فإن نظام الحكم في الدولة الفاطمية كان به الكثير من قسمات النظام الملكي القائم على الوراثة والاستبداد، وإن نظرية الإمامة التي تبناها الشيعة الفاطميون، تمثل تجسيدًا واضحًا لنظرية «الحق الإلهي» الشهيرة التي كانت سائدة في أوروبا في القرون الوسطى.
إلا أنه يستدرك على تلك الحقيقة، بأن ترامي أطراف الدولة، واتساع المهام الداخلية والخارجية، لعب دوره في الحد من الفردية المطلقة في الحكم، وفرض تسلسل وظيفي، وبناء سياسي وإداري معقد ومتشابك، ضم العديد من الدواوين (الوزارات والمؤسسات بالمفهوم المعاصر) كان من أبرزها: ديوان الإنشاء والمكاتبات، ديوان الجيش والرواتب، ديوان الشرطة، ديوان الأوقاف، هذا فضلًا عن ديوان للصعيد وآخر للوجه البحري وديوان للثغور.
في هذا السياق تعددت المناصب الإدارية والسياسية، وكان من أبرزها مناصب: قاضي القضاة، وداعي الدعاة، والمحتسب الذي كان له ولاية النظر والتدخل في الكثير من الشئون التجارية والاجتماعية، هذا فضلًا عن العمال أو الولاة على الأقاليم المختلفة.
على الصعيد العسكري كانت بنية الجيش الفاطمي تنقسم إلى عدة طبقات ومراتب وهم: الأمراء، حرس الخليفة، وطوائف الجند المختلفة، وكان يطلق على قائد الجيش آنذاك لقب «الإسفهسلار» وهو ملقب مكون من مقطعين، المقطع الأول (إسفه) من اللغة الفارسية ومعناه المقدم، والثاني (سلار) من اللغة التركية ويعني العسكر، فهو إذن مقدم العسكر أي قائد الجيش.
وقد كان قوام طوائف الجند التي اعتمد عليها الفاطميون، يستند إلى قبائل مغاربية متعددة مثل «كتامة» و«زويلة» و«معمورة»، بالإضافة إلى الأجناد من الروم و الترك والديلم والسودانيون.
حسب رواية المقريزي، بلغ تعداد الجيش الفاطمي، زمن «الوزير» طلائع بن رزيك، 76,000 جندي، من بينهم 40 ألفًا من الفرسان، هذا غير القوة البحرية التي بلغت في بعض الأحيان 100 مركب بحري خاص بالقتال والجيش.
المجاعات والمظالم الاجتماعية
رغم مظاهر البذخ والترف في القاهرة الفاطمية التي أشرنا إليها آنفًا، لم تكن الثروة والغنى مبذولة لجميع الناس في الحقيقة، بل كانت حكرًا لقلة من المجتمع، بينما كانت الشدائد والمحن والفاقة والبؤس هي نصيب الأغلبية الساحقة من المصريين كما يقول عمارة.
في هذا السياق كان الملتزم أو القابل أو الضامن الذي يحصل على امتياز الخراج، بمثابة صورة من نموذج الأمير الإقطاعي في أوروبا، الذي له مطلق الصلاحيات في منطقته، وكان هؤلاء في المقابل هم أداة الحاكم في جباية الضرائب وفرض المكوس، التي تسببت في تحول حياة الطبقات الأفقر إلى سلسلة شبة متصلة من الأزمات والمجاعات.
وقد كانت قسوة وثقل أحمال النظام الضرائبي، في مقدمة الأسباب التي أدت تكرار موجات الغلاء، التي أدت إلى بدورها انتشار المجاعات، التي ارتبطت هي الأخرى بدورها بانتشار الأوبئة التي حصدت خلقًا كثيرين، حتى عجز الأحياء في بعض الأحيان عن دفن الأموات، وباتوا يطرحونهم عوضًا عن ذلك في النيل.
على إثر تلك المظالم الاجتماعية، اندلعت الكثير من أعمال التمرد والثورة والشغب، كما جرى في «تنيس» (مدينة تاريخية في منطقة بحيرة المنزلة بشمال الدلتا) عام 360 هـ، التي وثب أهلها على واليهم الفاطمي فقتلوه، وكما جرى في العام الذي يليه في صعيد مصر الذي شهد تمرد رفع رايات العباسيين ضد السلطة الفاطمية، وكما جرى في عام 362 على يد الصيارفة الذين احتجوا على عزل المحتسب الفاطمي سليمان بن عزة جماعة منهم. هذا فضلًا عن اندلاع الكثير من المواجهات وأعمال العنف والاحتراب الأهلي بين القبائل المغاربية التي جاءت مع الفاطميين والمصريين في العديد من المناسبات.
كانت سلسلة المجاعات الرهيبة التي عرفتها البلاد في عهد الخليفة المستنصر (427، 487 هـ)، إيذانًا ببدء زوال الدولة الفاطمية، وكان أشهر تلك المجاعات، المجاعة الكبرى التي عرفت باسم «الشدة المستنصرية» التي بدأت بنقصان مياه نهر النيل، صاحبه انتشار لوباء شديد الفتك بالناس، كل هذا في ظل اختلال ضعف للسلطة والملك، مما أدى إلى فتن وصراعات وموجة غلاء تاريخية في الأسعار.
حيث بلغ سعر رغيف الخبز خلال الشدة المستنصرية، في زقاق القناديل بمدينة الفسطاط 15 دينارًا، وبلغ سعر أدرب القمح 80 دينارًا، وبدأ الناس في ذبح الماشية التي نجت من الوباء فأكلوها، ثم ذبحوا الخيل والبغال والحمير، ثم ذبحوا القطط والكلاب، وصارت تباع على ندرتها كطعام للمأكل، وبلغ الأمر بالناس إلى حد أكل لحوم بعضهم البعض، وتكاد الحكايات التي تروي في هذا الإطار أن تفوق الخيال من فرط مأساويتها.
وقد أدت الشدة المستنصرية بالخليفة إلى استدعاء قائده العسكري (أرمني الأصل) بدر الدين الجمالي من عكا، وقلده الوزارة لكي يعيد الأمن إلى ربوع البلاد، والقضاء على أعمال التمرد، فقتل من قبيلة لواته الأمازيغية وحدها نحو 50 ألف متمرد، وهزم العربان المتمردين في البوادي.
بزوغ السلطنة الأيوبية
بعد أن أفقدت المجاعات الداخلية الكثير من مضمون الحكم الفاطمي، وأبقت على شكله الخارجي بانتقال السلطة الحقيقة إلى الوزراء، أنهى الخطر الصليبي بتداعياته على مصر والشام على ما تبقى من هذا الحكم، الذي اضطر إلى الاستعانة بالسلاجقة السنة في الشام، وتقليد أحدهم وهو أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي منصب الوزارة.
بعد وفاة شيركوه وتولي صلاح الدين الأيوبي الوزارة بعده، كان رد فعل الأخير على المكائد التي شعر أنها تحاك حوله بسبب الاختلاف المذهبي والإثني بينه هو وجنوده الأتراك السلاجقة وبين المجتمع الشيعي العربي في مصر؛ هو التمهيد لإزالة الحكم الفاطمي الشيعي وتقويض دعائمة، عبر إقامة المدارس السنية الشافعية والمالكية، وعزل القضاة الشيعة وتولية قضاة شافعية محلهم.
بعد ذلك استطاع صلاح الدين أن يقيم الخطبة للخليفة العباسي في الإسكندرية أولاً ثم في الفسطاط ثم في القاهرة قبل أسبوع من وفاة الخليفة الفاطمي العاضد، الذي قيل إنه امتص سمًا كان قد وضعه تحت فص خاتمه، بعد علمه بقطع الخطبة له، وبهذا الحدث المأساوي انقضت صفحة كاملة من تاريخ مصر بأحزانها وأفراحها، وبدأت صفحة جديدة من المقاومة للغزو الصليبي للمشرق الإسلامي، تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي الذي وحد مصر والشام تحت سلطنته الجديدة واستعاد القدس عام 583 هـ، وتمكن من تفكيك أبرز الإمارات اللاتينية الصليبية في المنطقة.