عمّات فاطميات: حكايات «الكَيد العظيم»
يقول الشاعر العربي جرير التميمي في واحد من أشهر أبيات الغزل في الشعر العربي:
وقد تحقَّق المعنى الحقيقي – لا المجازي فحسب – للقتل الوارد في هذا البيت الشهير مراتٍ عدَّة في تاريخ مصر الفاطمية، عندما تدخلت نساء القصر الفاطمي بشكلٍ فعال في مراحل فاصلة في تاريخ تلك الدولة الغني بالمواقف الصادمة والتحولات الحادة. ولم يكن لتلك الأدوار القاتلة التي لعبتها هؤلاء النسوة المذكورات أبعادٌ غرامية كما شاع في دنيا قصور العصور الوسطى، إنما كانت أدوارًا سياسية صِرفَة.
وبينما يكادُ لا يوجد كبيرُ ذكرٍ لأمهات الخلفاء أو زوجاتهم، باستثناء الجارية رصد أم الخليفة المستنصر الفاطمي (٤٢٧هـ -٤٨٦هـ) ، والتي لعبت أدوارًا سياسية خطيرة لسنواتٍ طويلة، وتسبَّبت مطامعها وحساباتها السياسية في اضطرابات كبرى بمصر إبان حقبة الشدة المستنصرية الشهيرة، وما سبقها، فإنَّ جُلَّ الأدوار السياسية النسائية المؤثرة في التاريخ الفاطمي كانت من نصيب عمات بيت الخلافة الفاطمية، ولا نتحدث هنا عن الأدوار غير المباشرة التي تُسلِّطُ فيها المرأة دلالَها وبراعاتِ كيدها على رجلٍ نافذ لينفذَ لها ما تريد، إنما عن أدوارٍ مباشرة تضمنتْ مخاطراتٍ جسيمة شخصية وعامة، وسالت بسببها عشرات الدماء حقًّا وباطلًا.
ست الملك: ربة القتل والمؤامرات
يشيع بين المصريين إلى اليوم وصف «ست الكل» كتعبير عن التقدير لامرأة معينة أثناء مخاطبتها، ولا يعرف الكثيرون أنه قبل أكثر من ألف سنة، كان هذا الوصف من ألقاب واحدة من أخطر الشخصيات النسائية في تاريخ مصر الإسلامية، وهي الأميرة الفاطمية ست الملك ابنة الخليفة الفاطمي العزيز بالله، وعمة حفيده الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، وهذا الأخير لم يكن ليصل إلى عرش الخلافة الفاطمية في القاهرة لولا أن عمته ست الملك قد نفَّذت مؤامرة مجنونة شديدة الخطورة، وقتلت أباه، أشهر خلفاء الدولة الفاطمية، وأكثرهم إثارة للجدل، وأغربهم أطوارًا، وهو أخوها الحاكم بأمر الله الفاطمي، والذي حكم لفترةٍ دامت ربع قرنٍ اكتظَّت بالتقلبات والاضطرابات الناجمة عن قراراته الخطيرة المتعجلة، والتي كان يتراجع عن أكثرها فجأة، كما اتخذها فجأة.
كان الخلاف بينَ الحاكم وأخته قد بلغَ حدَّ إهانته الشديدة لها، واتهامها بالزنا لأنها كانت تجتمع أحيانًا مع رجال الدولة. في حوارٍ لست الملك مع الأمير المغاربي الحسين بن دوَّاس الكُتامي، شريكها الرئيس في مؤامرة التخلص من أخيها الحاكم، قدَّمت الأميرة عريضة اتهاماتها لأخيها، والتي تضمَّنت قراراته المثيرة للجدل والتي أغضبت شعور غالبية المسلمين في مصر، وأنها تخاف إن لم تأخذ المبادرة وتتخلص منه، فإن الناس قد يثورون عليه وعلى الدولة، ويقضون على الأسرة الفاطمية نفسها.
وخوَّفت ست المُلك هذا الأمير بأنَّ الحاكم قد ينقلب عليه ويفتك به كما فعل مع العشرات من كبار الأمراء من قبل، وأن مصلحتهما في التخلص منه مشتركة، فاقتنع بكلامها، لا سيَّما وقد أرفقت الترغيب بالترهيب، ووعدته أن يكون الوصيَّ على الخليفة القادم، ابن الحاكم الشاب الصغير، وأن يكون راتبه السنوي أكثر من مائة ألف دينار.
بناءً على الاتفاق، كمنت للحاكم فرقة الاغتيال في طريقه إلى خلوته الليلية في جبل المقطم، فقتلوه وخادمَه. وكانت الأيام الأولى بعد اختفاء الحاكم عصيبة نتيجة تفجر التساؤلات لدى البلاط، لكن نجحت ست الملك في خداع الجميع، أن الحاكم في غيبةٍ مؤقتة، وأنه يرسل إليها الرسائل من مكانه السري لحين عودته، وقد أعانها على إقناعهم ما عهدوه من غرابة أطوار الحاكم، وتكرر غيابه لفتراتٍ تطول أو تقصر، يظهر بعدها فجأة.
بعد أسبوع، ضربت ست المُلك ضربتها، وفرضت الأمر الواقع، فأخرجتْ وليَّ العهد الذي اختارته للبلاط في أبهى حُلَّة، وعلى رأسه تاج المعز وابنه العزيز، وشرعَ ابن دوَّاس بالتنسيق معها في أخذ البيعة للخليفة الجديد من كبار رجال الدولة ومُقدَّميها، والذين أقبلوا على البيعة متجاهلين مصير الأب المختفي، باستثناء خادم تركي رفض أن يبايعَ إلا بعد معرفة مصير سيده، فأغرقه رجال ابن دوَّاس في النيل فورًا ليقابل سيده. ثم خرج الخليفة الجديد لعامة الناس في موكبٍ هائل، فرحَّب به الغالبية منهم، ولُقِّبَ بالظاهر لإعزاز دين الله.
بعدها انتقلت ست الملك إلى جزءٍ لا يقل خطورة من مؤامرتها، وهو التخلص من شركائها في قتل الحاكم، لا سيَّما ابن دوَّاس، والذي أخذَته على غرة في اجتماعٍ كبير في القصر بعد البيعة للخليفة بقليل، حيث صاح أحد معاونيها أمام قادة الجيش والدولة أن هذا هو قاتل الحاكم، وأشار إلى ابن دوَّاس، فمزقوه بسيوفهم، وعن ذلك يكتب مؤرخ مصر الإسلامية تقي الدين المقريزي في موسوعة (اتعاظ الحنفا):
ويقول أيضًا في موضعٍ آخر من الكتاب:
ثم دعمت ست الملك ابنَ أخيها الظاهر في إلغاء جميع قرارات الحاكم المستَهجَنَة، وأولُها حبس النساء في البيوت، وسُمِح للمصريين بتناول الملوخية والسمك وغيرهما من الأطعمة التي منعها الحاكم، وخُفِّفَت بعض الضرائب، وابتُعِد عن أية قرارات تمس عقيدة المصريين،فرأى الناس في عصر الظاهر قياسًا على أيام أبيه العصيبة مُتنفَّسًا كبيرًا.
وبلغ بالنظام الجديد الرغبة في إرضاء عامة الجماهير إلى حد التساهل في تداول الخمر، والتوسع في الاحتفالات الشعبية والغناء والموسيقى، وشهد عيد الفصح المسيحي اختلاطًا كبيرًا وسُكرًا من المسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء.
وأعانت ست الملك ابنَ أخيها على التخلص من بعض خصومه من الأمراء الأقوياء، مثل عزيز الدولة أبي شجاع فاتك، المُستَقل بحُكم منطقة حلب، فقد نجح أعوانها في إقناع أحد رجاله المقرَّبين بقتله، ثم أُعلِنَ الحداد عليه في القاهرة!
ولم ينتَهِ نفوذ ست الملك وتأثيراتها في أروقة الإدارة الفاطمية بوفاتها عام 418هـ، إذ ورثَ نفوذها الكبير الأمير أبو القاسم علي بن أحمد الجَرجرائي، الذي جعله الخليفة الظاهر وزيرًا واسع الصلاحيات، وكان الجَرجَرائي كاتب ست الملك ومن خاصة رجالها ومديري أعمالها، لا سيَّما بعد قتلِ الحاكم الذي كان قد ظلمَ الجَرجرائي بفجاجةٍ بقطعِ كلتا يديْه عقوبة على مخالفةٍ بسيطة عام 404هـ. وظلَّ الجرجرائي وزيرًا حتى عام 436هـ، واتصفت إدارته لموارد مصر بالنزاهة والكفاءة، ولعب دورًا أساسيًّا في نقل السلطة بعد وفاة الظاهر عام 427هـ إلى طفله الصغير المستنصر الفاطمي.
اقرأ: الجَرجرائي .. وزير مصر الأمين مقطوع اليدين.
الصالح طلائع بن رُزَّيك ودراما العمَّات الفاطميات
الوزير الصالح طلائع بن رُزَّيك، الملقَّب بأبي الغارات، هو آخر الوزراء الأقوياء في تاريخ مصر الفاطمية، وباغتياله عام 556هـ (1161م) بعد سبع سنواتٍ اعتلى خلالها سُدَّة الوزارة في وقتٍ عصيبٍ من التاريخ الفاطمي، بدأ العد التنازلي النهائي لسقوط تلك الدولة التي كانت لاعبًا محوريًّا في تاريخ الأمة الإسلامية لأكثر من قرنيْن ونصف.
قبل 7 سنواتٍ من هذا التاريخ، برز اسم طلائع بن رُزَّيك على الساحة عندما اندفع بجيشه من الصعيد نحو القاهرة بناءً على رسالة استنجاد مُرفقة بضفائر شعر عمة الخليفة الظافر بالله، والذي قُتِل عام 549هـ (1154م) على يد الأمير نصر بن عباس، ابن وزير مصر، وقام هذا الأخير بالتغطية على جريمة ابنه باتهام ثلاثةٍ من إخوة الخليفة بقتله، وقتلَهُم داخل القصر وسط نحيب نساء الأسرة الفاطمية، وأعلن ابن الخليفة المقتول خليفةً باسم الفائز، وعمره خمسُ سنوات.
استولى ابن رُزَّيْك على القاهرة، وقُلِّدَ الوزارة باسم الخليفة الفائز الصغير، وأصرت عمة الخليفة على أخذِ الثأر، فراسلت الصليبيين في عسقلان جنوبي فلسطين ليعترضوا طريق فرار عباس وابنه، مقابل مبلغٍ كبير، فقتلوه وأسروا ابنَه قاتل الخليفة وأرسلوه في قفص إلى القاهرة، فقُتل وصُلب.
في السنوات التالية، استبدَّ ابن رُزَّيْك بكل السلطة والنفوذ، وفرض سطوته على البيت الفاطمي، وعلى الخليفة الشاب العاضد الذي حلَّ محل الفائز الذي مات فجأة عام 555هـ، فقرَّرت عمة الخليفة الصغرى، واسمها ست القصور، أن تتقمَّص دور ست الملك قبل قرنٍ ونصف، وأن تتخلص من الوزير القوي، فجهزَّت له كمينًا من عدد من عبيدِها الأشدَّاء، في دهليز قصر الخليفة في أحد أيام رمضان عام 556هـ عندما كان داخلًا للسلام على الخليفة، فأصيب طلائع بإصاباتٍ جسيمة تُوفِّيَ على إثرها بعد أيام.
الضفائر مصير مصر الفاطمية
بعد مقتل ابن رُزَّيْك اعتلى ابنُه الأمير رُزَّيْك كُرسيَّ الوزارة الملتهب خلفًا لأبيه، بعد نجاته بصعوبةٍ من القتل مع أبيه، ولبس رداء أمير الانتقام قبل أن تلتئمَ إصاباته، وشرع يثأر من كل شركاء المؤامرة، فبدأ بضلعها الأهم، السيدة ست القصور عمة الخليفة العاضد، فأرسل أحد أعوانه فقتلها خنقًا داخل جناحها في القصر، وعفا عن أخواتِها عندما بكيْن وأقسمن إنهنَّ لم يكُنَّ على علمٍ بما دبَّرتْهُ القاتلة القتيلة. ثم سفك دماء العشرات من الأمراء والأعوان الذين تتبعهم في كلِّ مكانٍ.
رغم البداية القوية الباطشة استمرَّت وزارة رُزَّيْك عاميْن فحسب، إذ تمرَّد عليه وقتله الأمير الطامع شاور السعدي، الذي لم ينتزع كرسي الوزارة الملطَّخ بالدم، حتى تمرَّد عليه الأمير ضرغام شريكه في الانقلاب ضد رُزَّيْك، فلجأ شاور إلى ملك الشام العادل نور الدين بن زنكي، فأرسل معه جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين، مقابل امتيازاتٍ مالية وتحالف سياسي بين الدولتيْن. ردًّا على هذا استنجد ضرغام بصليبيي بيت المقدس وملكهم الطامع في مصر أمالريك.
أدى هذا الصراع، والاستقواء بالخارج، وتبدُّل ولاءات شاور، إلى حربٍ دامت 5 سنوات، شهدت 3 جولاتٍ من الصدام، انتهت الأولييْن بالتعادل، وبقيت مصر تحت حكم شاور، والخلافة الاسمية للعاضد الفاطمي (لمزيد من التفاصيل حول تلك الأحداث اقرأ: نيرون مصر الذي كافأه صلاح الدين بما يستحق).
كانت الجولة الثالثة عام 564هـ (1168م) هي الحاسمة، إذ اندفع الجيش الصليبي نحو مصر والقاهرة لاحتلالهما، واضطر شاور إلى إخلاء العاصمة الشعبية مصر وإحراقها بالكامل لكيلا يتحصَّن بها الصليبيون أثناء حصارهم القاهرة، وحاول التفاوض معهم على جزية مالية كبيرة. لكن تغيَّرت المعادلة فجأة، ووردت الأنباء بأن جيشَ الشاميين عائد إلى مصر مُسرعًا بقيادة أسد الدين وصلاح الدين، لمواجهة الصليبيين، فماذا حدث وغيَّر مسار الأمور؟
لحرج موقف شاور مع نور الدين تدخَّل الخليفة الفاطمي العاضد الخائف على مُلكه وعاصمته وأبنائه الصغار، بمشورةٍ من أخته، وأرسل إلى نور الدين رسالةً يستنصره فيها ضد الصليبيين، تجيش بالعواطف، وأرفق بها ضفائر من شعور نساء الأسرة الفاطمية، وفي مقدمتهن أخته، فكان لهذا أثر عاطفي حاسم في سرعة إرسال نور الدين لجيشه نجدةً إلى مصر، فخشي الصليبييون من الانحصار بين الشاميين وخصومهم المصريين، فانسحبوا، ودخل الشاميون إلى مصر، وخلال سنوات قليلة، وتفاصيل لا مقام لها هنا، نجح صلاح الدين الأيوبي في الاستئثار بحكم مصر، وإنهاء الخلافة الفاطمية إلى الأبد، ثم جمع مصر والشام في دولةٍ واحدة للمرة الأولى منذ عقود، ونجح في تحرير القدس من الاحتلال الصليبي.