مؤتمر «فتح» أم مؤتمر «عباس»؟
كأن تفجير من العيار الثقيل غدا تقليدًا فتحاويًا، عشية كل مؤتمر للحركة. فعشية المؤتمر السادس لفتح (أغسطس/آب 2009)، فجَّر أمين سر اللجنة التنفيذية لفتح ورئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير «فاروق القدومي» (أبو اللطف) قنبلة مدوِّية، إذ اتهم محمود عباس (أبو مازن) بأنه من قتل سلفه، ياسر عرفات (أبو عمار)!
ومضت الأيام، وفي اليوم الأول للمؤتمر (4 أغسطس/آب)، خرج علينا مستشار القدومي، «أنور عبد الهادي»، على فضائية «الجزيرة»، متحدثًا باسم القدومي، ومؤكدًا بأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، كأن اتهامه عباس بقتل عرفات مجرد خلاف في الرأي. ورد عباس، بعد لحظات، مُثمِنًا اعتراف القدومي بخطائه، وأردف عباس: «وأحسن الخطّائين التوابون».
لاذ القدومي بصمت القبور، وما أن انفض المؤتمر، حتى سارع صحفي مصري صديقي إلى الاتصال بالقدومي، سأله رأيه فيما جرى في المؤتمر، فطلب القدومي مهلة خمسة عشر يومًا، قبل أن يقول رأيه.
بعد أربعة عشر يومًا من ارفضاض المؤتمر، عقدت اللجنة المركزية الجديدة لفتح أولى جلساتها، ولم يكن مفاجئًا أن تقرر استمرار القدومي في عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولكن بدون حقيبة، أي بما يحفظ له راتبه فحسب. ولا يزال القدومي ملتزمًا الصمت، ربما خشية أن يفسد الخلاف في الرأي ود القضية.
دارت الأيام، وتفرقت السبل بتيارات فتح، وكاد عباس أن يسقط، غير مرة، وبدأ يتخبط في مواقفه، ولم يسلم المحيطون به من شره؛ حتى أنه عمد إلى سحب جواز سفر السفير السابق في مصر وعضو المجلس الاستشاري لفتح، «منذر الدجاني» (أبو العز)، وحدد عباس إقامة الدجاني، ومنعه من العودة إلى مصر، حيث أسرته، لمجرد أن الأخير وعد بالتصدي لعباس، إذا ما طرح قضية بعينها في المجلس الوطني الفلسطيني، الذي كان عباس يُحضّر لعقده. واستمر هذا الوضع لنحو سنتين، رفض خلالهما الدجاني الاعتذار لعباس، على الرغم من أن الأخير لفق للدجاني تهمة، زعم الأول بأن الدجاني اقترفها، قبل نحو ثلاثين عامًا.
حين كتب المسئول السابق عن إعلام سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، «رياض الحسن»، مطالبًا عباس بصرف رواتب موظفي قطاع غزة، اعتقله عباس، وتوالى توقيف الحسن، عبر محكمة دأبت على إصدار أحكامها «قبل المداولة».
لأن المحيطين بعباس واثقون من براءة الحسن من أي تهمة، توالت الوساطات للإفراج عنه، من نواب عرب 1948، ومن بعض المحيطين بعباس، ممن لم يتورطوا في أي فساد أو تبرير. وكأن جواب عباس للجميع بأن القضية بيد النائب العام، أما الأخير فأكد بأن لا تهمة محدَّدة ضد الحسن، وأن الأمر بيد «فخامة الرئيس، عباس».
شارك عباس في تشييع مجرم الحرب، شيمون بيريز، تمنى أحد ضباط أجهزة الأمن الفلسطينية لو لم يشارك عباس في تلك الجنازة، فما كان من عباس إلا أن فصله من عمله، وقدّمه للمحاكمة، وطلب إليه أحد المحيطين بعباس بأن يعتذر «للسيد الرئيس»، ففعل الضابط السابق، معلنًا: «كلنا فداء فخامة الرئيس»، فعفا عنه الأخير، وخفَّض رتبته إلى مجرد جندي، وأحاله إلى التقاعد.
هذه مجرد عيِّنات لرئيس يستحوذ على ما يربو عن ثلاثين مؤسسة سيادية في السلطة، ناهيك عن ترأسه لمنظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية (المضحك أن الثانية خاضعة لرقابة المنظمة)، وفتح.
ومع ذلك، فإنه لا يخجل بالإعلان عن أنه لا يملك أن يغادر مكتبه إلى منزله، وبالعكس، بدون قصاصة ورق من مجنَّدة إسرائيلية.
إرهاصات المؤتمر
فجأة، احتدم الصراع بين القيادي في فتح، وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني، محمد دحلان، وبين عباس، واتخذ الأخير إجراءات تعسفية ضد دحلان، الذي سبق أن تجمدت عضويته في مركزية فتح، وهو يقول أنه فصل دحلان منها، بينما جرت التقاليد الحزبية والمركزية على أن مَن انتخب من حقه، وحده، أن يفصل، وهو هنا مؤتمر فتح.
بعد أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها العجيب الغريب الفريد في تاريخ البشرية، بأن من حق عباس أن يفصل أي عضو في المجلس التشريعي، المنتخب من الشعب، عمد عباس إلى تفجير قنبلة، شديدة الانفجار، حين أعلن بأنه يعلم من الذي قتل عرفات.
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال مشروع، مؤداه: ما الذي جعل عباس ينتظر إثني عشر عامًا، بالتمام والكمال، حتى يكشف هذا السر؟ ألا يخشى بأن توجَّه إليه تهمة «علم ولم يُبلِّغ»؟ أي تستَّر على جريمة بحجم قتل رئيس فلسطيني؟!
أم أن عباس – إذا كان صادقًا هذه المرة – سعد بمقتل عرفات، لأن الأول تسلَّم الرئاسة من بعده، و«طنّش» عن القاتل؟!
أم أن عباس كان شريكًا للقاتل، والآن يهدِّد الأول الأخير، ويحاول ابتزازه؟ بصورة أوضح، الكل يعلم بأن عرفات قُتل بقرار إسرائيلي، فهل يحاول عباس ابتزاز الحكومة الإسرائيليىة، حتى تعمد إلى الاستمرار في دعمه، وإبقائه على رأس السلطة؟! خاصة وأن القاصي والداني يعلم بأن إسرائيل هي المحدِّد الرئيسي – وإن لم يكن الوحيد – لملامح الرئيس الفلسطيني، وهي تُخضع الضفة الغربية للاحتلال الصريح المباشر.
أم علينا الانتظار، حتى نسمع جملة القدومي، قبل نحو سبع سنوات، فلا يُفسد الخلاف في الرأي للود قضية؟
سرعان ما اندلعت حرب المؤتمرات، بين عباس ودحلان، ظن الأول أنه يتوِّجها ويحسمها بعقد مؤتمر فتح السابع، في ذكرى صدور قرار تقسيم فلسطين عن الأمم المتحدة (29 نوفمبر/تشرين الثاني) الجاري، دون تمهيد، أو انتخابات حركية لأعضاء المؤتمر، أيضًا، ما يعني بأن الاحتلال راضٍ، كل الرضا، عن عقد هذا المؤتمر، وصاحبه؛ لأنه سيتمخض عن نتائج لصالح الاحتلال.
تسَّرب إلى قيادة فتح بأن الحكم الأردني سيعمد إلى سحب جوازات السفر الأردنية من كل مَن سيشترك في هذا المؤتمر، فيكتفي هؤلاء بجوازات سفر السلطة، مما يمهد بعزوف نسبة غير قليلة من مندوبي المؤتمر عن المشاركة فيه. هنا انتقل صائب عريقات إلى العاصمة الأردنية عمان، فأبلغ بأن لا تراجع عن هذا القرار، ونُصح بأن لا يُراجع المخابرات العامة في هذا الشأن. عاد عريقات إلى رام الله بخُفي حنين.
فزار عباس عمّان، ورفض الملك استقباله، وبعد أربعة أيام من مكوث عباس في العاصمة الأردنية، خرج تصريح رسمي أردني، تضمَّن إلغاء قرار سحب الجوازات الأردنية.
لكن المعركة لم تضع أوزارها، بعد، إذ اندلعت مظاهرات شعبية حاشدة، في معظم مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، وقد شملها شعار واحد: «الشعب يريد إسقاط الرئيس».
على أن «الرئيس» لا يهمه كل شعبه، ما دام الاحتلال يدعمه، ويبارك مؤتمره. حتى «الرباعية العربية» التي ألحت على عباس، كي يتراجع عن قراراته التعسفية التي قضت بفصل العديد من أعضاء المجلس الثوري لفتح، لم تعد تهم عباس، الذي خرج على الملأ، وعبر فضائية السلطة، يهاجم «الرباعية»، ويعلن استغناءه عن دعمها المالي.
يبقى السؤال الأهم: إلى أين سيأخذ المؤتمر السابع «فتح» والقضية الفلسطينية؟
لقد دأبت فتح على عقد مؤتمراتها، عند كل انعطافة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية. فمؤتمرها الأول، انعقد بمجرد أن خاطب ملك المملكة العربية السعودية، سعود بن عبد العزيز، عمال الظهران (مارس/أذار 1962) – وجُلًّهم من الفلسطينيين – بأن يحذو الشعب الفلسطيني حذو الشعب الجزائري، الذي نجح في انتزاع استقلاله الوطني من براثن الاستعمار الفرنسي، في ذاك الشهر.
وتلا سعود، في الشهر التالي، رئيس الوزراء السوري، نبيه العظمة، فنسج على المنوال نفسه. قبل أن يحسم عبد الناصر الأمر (22 يونيو/حزيران 1962)، حين ألقى خطابًا في أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني في قطاع غزة، مؤكدًا: «أنا معنديش خطة لتحرير فلسطين، وأي زعيم عربي بيقول لكم عنده خطة، بيضحك عليكم»!
في وقت كان الشعب الفلسطيني مُعلقًا آماله بتحرير فلسطين على عبد الناصر. وتوَّج الأمر الرئيس الجزائري، أحمد بن بلة (5 يوليو/تموز 1962)، بدعوة الشعب الفلسطيني إلى أن يحذو حذو الشعب الجزائري في تحرير بلاده.
ما إن حاقت هزيمة 1967م بالدول العربية، حتى تداعت كوادر فتح، وعقدت اجتماعًا تداوليًا، في دمشق، في 12 يونيو/حزيران 1967م، والغريب أن ثلاثة من قادة فتح طالبوا، في هذا الاجتماع، بإقامة حكم فلسطيني تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي (حسب شهادة محمود عباس، التي أدلى بها للباحث الفلسطيني المرموق، د. يزيد صايغ). وإن رفضت غالبية الحضور هذا المقترح.
بعد أن حققت فتح انتصارًا مفاجئًا في معركة الكرامة، بالأردن (21 مارس/أذار 1968م)، بدعم مؤثر من الجيش الأردني، حان وقت تسليم فتح مفاتيح «منظمة التحرير الفلسطينية»، فعقدت الأولى مؤتمرها الثاني (يوليو/تموز 1968م)، كي تتجهز لاستلام تلك المفاتيح.
غداة مذابح أيلول (سبتمبر) 1970م، وتموز (يوليو) 1971م، في الأردن، وخروج المقاومة الفلسطينية من هناك، انعقد المؤتمر الثالث لفتح (دمشق، سبتمبر/أيلول 1971م).
بعد نحو عشر سنوات، انعقد في دمشق، مؤتمر فتح الرابع (إبريل/نيسان 1981م)، بينما كانت محاولات سعودية محمومة تجري لتسوية القضية الفلسطينية، أمام عدو لا يبغي إلا تصفية تلك القضية.
بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في الضفة والقطاع (9 ديسمبر/كانون الأول 1987م)، أخذت قيادة فتح تتهيأ لجني ثمار تلك الانتفاضة، وفي هذا السياق، جاء انعقاد المؤتمر الخامس لفتح (تونس، أغسطس/آب 1988م).
بعده بنحو واحد وعشرين عامًا (أغسطس/آب 2009م)، انعقد في بيت لحم، تحت حراب المحتل الإسرائيلي، مؤتمر فتح السادس، لكن المحتل لم يكتفِ بما قدمه المؤتمر من تنازلات للمحتل.
لذا، من المرجَّح أن يكون المؤتمر السابع هذا مُرضيًا، تمامًا، للمحتل الإسرائيلي، فيحصد فيه ما تمناه من المؤتمر السادس!
دون أن نتوهم بأن هذا المؤتمر سيضع حدًا لظاهرة فتح/ات، أو ستستعيد به فتح طابعها الثوري، وكل ما سيتمخض عن هذا المؤتمر هو تصفية عباس حساباته من خصومه في الحركة، ولكن إلى حين.