الأرضية الفتحاوية: مقدمة في أزمة حركة حماس
في كتابه «دليل حركة المقاومة الفلسطينية»، الصادر عن مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، في مارس/آذار عام 1971؛ أي بعد أحداث سبتمبر/أيلول 1970، وقبل خروج المقاومة الفلسطينية من آخر معاقلها في الأردن في يوليو/تموز 1971؛ أي في لحظة أشعلت فيها المقاومة الفلسطينية الدنيا والنّاس، وبعد الذّروة التي بلغتها طوال ثلاث سنوات من معركة الكرامة في مارس/آذار 1968، وحتى خروجها من الأردن، وفي مرحلة بينية قبل انتقالها إلى لبنان، يستعرض غازي خورشيد أحد عشر فصيلاً فلسطينيًّا مقاومًا، ليس منها فصيل إسلامي واحد.
كانت تلك الفصائل هي الثورة الفلسطينية، أو المقاومة الفلسطينية، واقتصرت المساهمة الإسلامية فيها على تجربة «معسكرات الشيوخ» التي جاءت بقرار من المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين في البلاد العربية في العام 1967، وبمبادرة ودفع من الإخوان الأردنيين والسودانيين والمصريين والكويتيين، بينما تردد إزاءها إخوان سوريا ولبنان والعراق، وعارضها الإخوان الفلسطينيون!
وقد كان الإخوان المصريون والكويتيون والأردنيون من أصل فلسطيني يرون أن حركة فتح هي حركة إخوانية، بخلاف التنظيم الفلسطيني الذي تسرّب منه مؤسسو فتح، في مرحلته الغزّية، فانطبعت علاقته بفتح بالتوتر والشك والارتياب!.
وعلى أي حال، وبحسب ما يروي عبد الله أبو عزة، ممثل التنظيم الإخواني الفلسطيني في المكتب التنفيذي في ذلك الحين، في كتابه «مع الحركة الإسلامية في الدّول العربية»، فقد توسعت فكرة مشاركة بقية التنظيمات الإخوانية العربية في المعسكرات بالأردن بعد العام 1969؛ بهدف الحفاظ على الصف الإخواني، مع استمرار الخلاف على جدوى وشكل ونسبة المشاركة، ومع استمرار معارضة التنظيم الفلسطيني.
في النهاية، استظلت تلك التجربة بمظلة حركة فتح وعملت باسمها؛ لحماية قواعد الإسلاميين من التنظيمات اليسارية، التي اتسمت في تلك الفترة بالطفولية، والادعاء الأرثوذكسي في تبنيها للماركسية، وعدائها للإسلاميين، ثم انتهت التجربة باشتباك الفلسطينيين مع النظام الأردني، حيث التزم الإسلاميون في الأردن الحياد.
كانت فتح الفصيل الأكبر من بين فصائل المقاومة الفلسطينية، ولكن من بين تلك الفصائل التي استعرضها خورشيد ما لا يكاد يعرفها الفلسطيني اليوم سوى الجبهتين الشعبية والديمقراطية، واللتين ضمرتا إلى حد كبير مع أفضلية للأولى حجمًا وأثرًا، والبقية إما أنهما منعدمة بحكم الواقع، أو لا تتجاوز أن تكون مجرد مكاتب ببعض المفرغين؛ (أي الموظفين الذين يتقاضون راتبًا من التنظيم)، ومجرد أسماء تحتفظ بها أدبيات التاريخ الفلسطيني.
ولكن وللمفارقة، فإن المقاومة الفلسطينية التي كانت يومها هي تلك الفصائل بلا ممثل إسلامي فيها، يغلب عليها أن تكون اليوم مقاومة إسلامية، يكوّن متنها الأساس حركة حماس التي هي امتداد للإخوان المسلمين الفلسطينيين الذين تحفّظوا على «معسكرات الشيوخ» التي تشكلت قبل تأسيس حماس بعشرين سنة، وحركة الجهاد الإسلامي التي مثلت فاتحة مهمة لدخول الإسلاميين ساحة المقاومة، ثم هيمنتهم عليها وتحولهم إلى عمودها الفقري ومتنها الأساس.
صحيح أن اندثار أو ضمور الفصائل الفلسطينية التي شكلت يومًا ما جسد المقاومة الفلسطينية، ثم صعود القوى الإسلامية لتشكل هذا الجسد، حصل بعد تحولات كبيرة وعميقة تخللت الحالة الفلسطينية، ولكن الأمر لا يخلو من معجزة.
وذلك لأن حركة فتح لم تندثر ولم تضمر حجمًا وأثرًا، حتى وإن ضمرت كحركة للمقاومة، وتحولت من رأس الثورة الفلسطينية إلى سلطة سياسية تشبه أي نظام عربي، تحجز الفلسطينيين عن الاشتباك مع الاحتلال، وتمنع أي محاولة لتجاوز الارتكاس الذي أنتجته سياسة الانحدار التي انتهجتها فتح منذ العام 1974 على الأقل.
بالرغم من اعتقاد قيادة فتح أن حرب أكتوبر/تشرين أول 1973 كانت تُمثل فرصة لانضمام الثورة الفلسطينية إلى النظام العربي، وانتزاع التمثيل الفلسطيني من الدول العربية التي نازعت الفلسطينيين تمثيلهم، فسعت لإقناع الكوادر التنظيمية بمشروع التسوية الساداتي، ثم أطلقت مشروع الحل المرحلي الذي عُرف بالنقاط العشر، في خطوة لطلب الاعتراف الدولي، وفتح الطريق للتسوية مع العدو، إلا أنها ظلت تقاوم الاحتلال بعد ذلك عشرين عامًا؛ أي حتى توقيع اتفاق أوسلو.
حينما يستمر التنظيم الفلسطيني ذو الثقل الأكبر حجمًا ودورًا في الكفاح المسلح، فإن هذا يعني قدرته على الاستمرار مهما انطوى على عوامل الاهتراء الداخلي. ولأن الكفاح المسلح هو الأيديولوجيا الضمنية للفلسطينيين، فقد استمرت فتح، مستفيدة من حجمها الذي تعاظم من بعد معركة الكرامة، فتحولت وجهًا للفلسطينيين.
من الناحية الفعلية، فشلت كل محاولات إصلاح فتح، إن من داخلها أو بالانشقاق عليها، وكذلك فشلت كل الحركات التي عارضتها من خارجها، واندثرت أو ضمرت كل تلك المحاولات، وبقيت فتح، ولكن هذه الأخيرة كانت تحتمل دائمًا وجود تيارات تستفيد من الطبيعة المنفرجة للحركة، وتقدم مقترحات فعلية غير مقترحات القيادة الرسمية، وهو الأمر الذي سمح لفتح بتقديم تجارب مقاومة مهمة في لبنان، والمساهمة الفاعلة في الانتفاضة الأولى، وبل وحتى في الانتفاضة الثانية؛ أي بعد تأسيس السلطة الفلسطينية بسبع سنوات.
كانت المشكلة التي تواجه الفلسطينيين أن هذه الحركة، بما مثلته من قيادة للحركة الوطنية الفلسطينية، تصنع الأرضيات وتطلب من مخالفيها العمل على أرضيتها؛ أي تطلب منهم الكف عن مخالفتها، بل وحتى عن منافستها. ولأن مسيرة الانحدار استمرت، فقد وصلت تلك الأرضية التي اشتغلت على صناعتها فتح إلى مشروع سلطة في ظل الاحتلال.
بعد توقيع أوسلو ودخول السلطة الفلسطينية إلى غزة وأريحا، ثم مناطق (أ) في الضفة الغربية، أكملت فتح تحولها إلى مشروع سلطوي، فضاقت بذلك قدرتها على استيعاب بقية مكونات الحركة الوطنية، وصار الاختلاف مع أطروحتها السياسية هو معارضة لنظامها السياسي، فضاقت بذلك حتى قدرة الحركة نفسها على إنتاج المقترحات النضالية المخالفة للخط الرسمي، وإن نجحت نسبيًا في تجاوز هذه المعضلة بحكم قيادة عرفات في الانتفاضة الثانية.
مع وفاة عرفات، ومجيء قيادة جديدة لفتح صريحة في رفضها للكفاح المسلح أو لأي مقاومة جادة مهما كان شكلها، ثم مع الفشل النهائي والأكيد لمشروع التسوية، اكتملت فتح حالة سلطوية، ليس في تياراتها ما ينافس لتقديم مقترحات نضالية، وإنما تتنافس تياراتها على المصالح التي تترتب على أي حالة سلطوية، فهي محض أجنحة ومراكز نفوذ تربطها علاقات المصالح لا غير.
حينما صعدت حماس، وعارضت مشروع التسوية، وألقت بنفسها كلها في الانتفاضة الأولى، وحاولت أن تفرض مقاومتها رغم السلطة الفلسطينية في الفترة الواقعة ما بين الانتفاضتين، ثم قدمت كل كادرها وصفها الأول شهداء وأسرى في الانتفاضة الثانية؛ كانت قد وجدت نفسها، وظلت تجد نفسها، مرغمة على الوقوف على الأرضيات التي استمرت فتح في صناعتها، فأطلقت، أي حماس، مبادرة الحل المرحلي الخاصّة بها في وقت مبكر، ثم اضطرت للمشاركة في السلطة الفلسطينية التي هي ليست سوى عقبة ثورية على الحقيقة.
بمعنى ما، أن فتح هي أزمة حماس الأولى، بقدر ما هي أزمة الحركة الوطنية، وحماس التي تجاوزت كل محاولات الاحتلال الاجتثاثية، كما في ضربة العام 1989، أو حملة إبعاد مرج الزهور، لم تمر بمحنة أكبر من محنة تعاطيها مع السلطة الفلسطينية التي صارت أمرًا قائمًا عارضته الحركة بادئ الأمر، وقد عانت حينها من اضطراب داخلي شديد بعد أن تحولت أوراق أوسلو إلى واقع.
والحق أن فتح كانت أزمة لحماس حتى قبل توقيع أوسلو وتأسيس السلطة، فقد مارست فتح عمليات إقصاء شديدة على الإسلاميين داخل سجون الاحتلال قبل تأسيس حماس وبعده، وحاولت إفشال فعاليات حماس في الانتفاضة الأولى، ثم تعاملت مع حماس بعد تأسيس السلطة كما يتعامل أي نظام سلطوي مع معارضيه بالاعتقال والتنكيل والحرمان الوظيفي.
المعجزة سالفة الذكر، هي أن كل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية التي واكبت تأسيس فتح ورافقتها كفاحيًا، فشلت في معارضتها لفتح، وانتهت إلى ما سبق بيانه من الضمور والاندثار، ولكن الحركة التي حملت اسمها المقاوم في العام 1987، باتت تشكل الفاعل الجدي الوحيد فلسطينيًا في مقابل فتح، ولكن دون أن تتحرر من إكراهات فتح، أو تتمكن من الوقوف بشكل كامل على أرضية مستقلة عن تلك التي صنعتها فتح.
لا يعني هذا أن حماس لم تحقق نجاحات في التصدي لعملية الانحدار، وأن اضطرارها للعمل على الأرضية التي فرضتها فتح لم يثمر، إذ يمكن لنا أن نتخيل مصير القضية الفلسطينية لو استُخدم صندوق الانتخابات في العام 2006 لشرعنة خيارات فتح السياسية، ولو أن حماس لم تتمكن من تأسيس قاعدة للمقاومة في قطاع غزة، ولكن حماس بقيت مكبلة، وظلت المفاتيح الأساسية فلسطينيًا في الجيب الفتحاوي، وتستخدم حماس اليوم المفردات الفتحاوية التي لا علاقة لها بالمتطلبات الكفاحية (حكومة، أجهزة أمنية، تشريعي، انتخابات، …إلخ).
اليوم يعجز الفلسطينيون في الضفة الغربية عن تطوير انتفاضتهم؛ بسبب الحضور السلطوي لفتح في الضفة، وتعجز حماس عن فك الحصار عن غزة، أو إدارة برنامج نضالي وطني مشترك؛ بسبب الإمساك الفتحاوي بالمفاتيح الفلسطينية، ويعجز الجميع عن الحركة على أرضية خالصة من الأثر الفتحاوي.
إن نقد الحالة الفلسطينية الراهنة من خلال المساواة بين طرفيها، فتح وحماس، غفلة مثالية، أو تغافل متعمد عن كون الأزمة في الأساس في حامل المفاتيح وصانع الأرضيات الفتحاوي، وأن حماس حالة ممانعة لمسيرة الانحدار، وليست قسيمًا سلطويًّا، حتى لو تلبست بالسلطة؛ لأنها لم تستطع أن تتحرر من الأرضية الفتحاوية!