فاتن أمل حربي: هل يصنع حسن النوايا فنًا؟
في أحد مشاهد الفيلم الأيقوني «البرتقالة الآلية – clockwork orange 1971» يتم معاقبة أليكس الشاب المجرم المتطرف عن طريق إخضاعه لعلاج تجريبي يتم فيه إجباره على مشاهدة مقاطع بصرية سمعية، يفتح القائمون على العلاج عينيه بواسطة خطاطيف معدنية لا تمكنه من غلقهما حتى انتهاء الفيلم، وعندما ينتهي العلاج/العقاب يخرج أليكس للمجتمع معلنًا أنه تم تقويمه بالكامل، وأنه الآن يفكر بطريقة صحية سليمة ولا يشعر بميل نحو الجريمة أو الأفكار الانحرافية.
استخدم «ستانلي كوبريك» ذلك المجاز الواضح ربما للسخرية من الإعلام التوعوي التلقيني الذي يدعي أنه يغير نفوس البشر فقط بتمني حدوث ذلك، وعلى الرغم من تطرف ذلك المجاز فإنه لا يزال صالحًا للاستخدام الآن لأن بعض الأعمال الدرامية والفنية تنتهج أسلوب الاستقطاب التلقيني لتغيير الأفكار الراسخة، حتى وإن فعلت ذلك بنية صادقة لإحداث تغيير وحراك مجتمعي وتقويم أفكار متراكمة تضر أكثر مما تفيد.
يبدأ تتر مسلسل «فاتن أمل حربي» المعروض في رمضان الحالي بشكر خاص لوزارة التضامن الاجتماعي ووزيرة الوزارة، ووزارة العدل والمحاكم التي ورد ذكرها وتصوير العمل بها، يمهد لنا العمل نفسه بكونه عملاً ذا قضية محددة برعاية جهات معينة، وليس عملاً مصنوعًا للفت نظر تلك الجهات، تكشف التترات كذلك عن اسم مؤلف المسلسل الصحفي والكاتب الشهير إبراهيم عيسى ومخرج العمل سليل عائلة العدل محمد العدل الشهير بأسلوبه الميلودرامي الكلاسيكي، وتتقدم بطولته نيللي كريم إحدى النجمات القليلات اللاتي ما زلن يحتفظن برونقهن وطزاجة أدائهن في موسم بعد آخر أيًا كانت جودة العمل الذي تتصدر بطولته.
يدخل العمل في موضوعه الرئيسي فورًا، نشاهد في حوارات مطولة وواضحة ما يريد إيصاله، زوجين في خلافات دائمة تؤدي إلى طلاقهما ثم تنطلق الزوجة والأم لطفلتين في رحلة لأخذ حقوقها المسلوبة منها بسبب طليقها معدوم الأمانة والمسئولية وبسبب القوانين الظالمة التي تقابلها وتعطل مسيرتها في عيش حياة مستقرة وطبيعية لها ولابنتيها.
بنى إبراهيم عيسى سمعته ككاتب سينمائي وتلفزيوني على كونه صاحب مواقف واضحة، يسعى للتغيير والتنوير حسب رؤيته الشخصية، خاصة في السنوات الأخيرة مع تطور أفكاره واحتضان الصناعة الدرامية المصرية له وهو ما يندر حدوثه في حالة شخص يملك آراء واضحة تجاه الأشياء لكنه لسبب ما يعمل كناقد داخلي، يكتب أعمالاً نقدية برعاية من ينقدهم.
طور عيسى سمعة أخرى وهي كونه يتحدث بلسانه على لسان شخصياته وهو ما يصعب تجاهله بل يكون في كثير من الأحيان مشتتًا عن طبيعة الشخصيات واختلافاتهم الفردية، في عمله الأخير فاتن أمل حربي، تتجلى تلك النقاط التي يشتهر بها في عمل درامي يسعى للتغيير المراقب والنقد الأليف، عمل يتسم بإفراط ميلودرامي يجعله أداء نيللي كريم في دور البطولة إنسانيًا ومحتملًا، لكن على الرغم من تلك السمات التي تجعل منه عملاً إعلانيًا توعويًا أكثر منه عملاً دراميًا فنيًا فإنه يتوجه برسالته بوضوح لفئة معينة وحالة خاصة ومحددة من النساء اللاتي خرجن من علاقات ذات حالة خاصة ومحددة أيضًا، ويجعل من بطلته فاتن لسانًا لآلاف من اللاتي لا يملكن صوتًا.
ماذا لو امتلكت ذات لسان كاتب صحفي؟
تمثل نيلي كريم دور فاتن امرأة يمكن تصنيف طبقتها الاجتماعية بالمتوسطة، تعمل في وظيفة حكومية بدخل ثابت يساعدها على ملء ثغرات المصاريف المنزلية اليومية التي يقصر بها زوجها وعندما تتركه يصبح وضعها المادي أسوأ خاصة مع تهربه من دفع نفقة أطفاله وطردها وبناته من المنزل، بعد ذلك تبدأ أحداث المسلسل في التصاعد مع تصعيد سيف (شريف سلامة) لقراراته المتعسفة ورفع قضايا تصل إلى طلب الحضانة، لتقف فاتن أمامه وأمام المحكمة في شجاعة معلنة اعتراضها على قانون الأحوال الشخصية نفسه.
صنعت نيللي كريم اسمًا لها في الدراما التليفزيونية خاصة الرمضانية وأعادت اكتشاف ذاتها كممثلة بدورها في مسلسل بنت اسمها ذات الذي لعبت فيه دور امرأة في طبقة مشابهة لطبقة فاتن، متزوجة بشكل تقليدي كذلك لرجل مزعج ذي أفكار رجعية بعدما عاشت في منزل أسرة على الرغم من عدم قسوتها إلا أن تقاليدها أفسدت أجزاء عدة من حياة فتاة في مقتبل العمر، اتسم مسلسل ذات المقتبس عن رواية لصنع الله إبراهيم ونقلتها للدراما كل من مريم نعوم ونجلاء الحديني بواقعية شديدة في رسم شخصياته، جعل منها شخصيات حية قابلة للتصديق تتحدث كما من الممكن أن تتحدث إذا صادفناها أو كنا هي، تتصرف بتردد وتوتر في المواقف الصعبة، تعلي المصلحة العامة على الشخصية حتى وإن ظلمت نفسها أو أضاعت حياتها وصباها في حياة تستنزف قواها.
يمكن اعتبار شخصية فاتن أمل حربي شخصية ضد-ذات، فهي امرأة لا ترضى بواقعها بهدوء ولا تسكت عن حقوقها أبدًا، امرأة مفوهة ذات آراء جريئة وصوتٍ عالٍ، تملك رؤى حياتية متطورة وأفكارًا تقدمية تعلم جيدًا كيف تصيغها في كلمات منمقة حتى وإن لم يكن أداؤها منمقًا، يجعل ذلك من الشخصية وعاءً للأفكار التنويرية، شخصية أكبر من عالمها الصغير تعلم جيدًا ما تريده وما تستحقه ولا تهاب أحدًا.
تنقص تلك الشجاعة المستمرة والوقوف أمام الظلم الذي تتعرض له من الرجال، منهم العنيف وصاحب السلطة السياسية والدينية والقضائية، من واقعية شخصية فاتن، تبدو أفعالها دائمًا مقررة مسبقًا، تنقذها نيللي كريم من فخ أن تصبح وعاءً فارغًا تملؤه أفكار كاتبها بهشاشة أدائها التمثيلي الذي يظهر في عينيها ولغة جسدها جوهر الشخصية الحقيقية بعيدًا عن الجمل الحوارية والمونولوجية المقررة لها، وهو ما يجعل المسلسل قابلاً للمشاهدة حتى مع ضغط الوضوح والمباشرة الخطابية في تناول القضايا.
تصبح مباشرة وخيالية شخصية فاتن ميزة وعيبًا، فمن الناحية الفنية هي شخصية لا تملك ما يجعلها معاشة بالكامل، هي شخصية لا تفعل لكنها تتحدث، تنطق بمخاوفها ورغباتها واعتراضاتها، لكن هنا أيضًا تكمن الميزة، تجعل نيللي كريم من بديلة ذات تلك مثالاً يمكن اتباعه، وكأنها درس أو إعلان يخبر الآخرين كيفية التصرف عند ضياع الحقوق، لا يهتم العمل كثيرًا بالتفاصيل التي تجعله ذا أبعاد فنية أو درامية، بل يهتم بإظهار المشكلات وتلقين الحلول المناسبة لإصلاح العوار الذي يسعى لإصلاحه، لا يتحدى العمل أو الشخصية جهة محددة لكنه ينقد بمباركة تلك الجهات، ويصنع الجدل ويرد عليه وكأنه في دائرة مغلقة، مما يجعل من السهل اتهامه بالفوقية والأبوية خاصة كونه يواجه فئة كبيرة تتحسس لأبعد حد من الحديث في الأمور الفقهية المتعلقة بالأمور الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، فمن الممكن أن تنقلب اللهجة التعليمية على صانعيها الذين يحاولون تغيير أعوام من الأفكار الراسخة في ثلاثين حلقة. لكنه في الوقت ذاته يملك أهدافًا يمكن وصفها بالنبيلة، فهو عمل إعلاني وإعلامي مطول في هيئة درامية.
ما الذي يجعل الفن فنًا؟
لا تقتصر الجمل الحوارية والأفكار التي تنطق على ألسنة أوعية مفرغة من العمق الإنساني على الشخصية الرئيسية بل تمتد إلى جميع الشخصيات، الجميع يتحدث لغة واحدة من أول الأزهريين العاملين بخدمة الفتوى في مشيخة الأزهر إلى سائق الميكروباص، الجميع يملك الحكمة والتوسط والبلاغة اللغوية، والجميع يملك هدفًا محددًا داخل القالب الدرامي وهو إيصال الأفكار وإنشاء الجدالات، يحيد عن ذلك شخصية الزوج/الطليق سيف شريف سلامة الذي لا يملك حكمة أو أفكارًا بناءة بل هو العدو المرئي الوحيد بجانب العدو المجازي الذي يكمن في القوانين الظالمة.
تسير حلقات المسلسل في بناء ثابت يتكرر كل حلقة وهو إظهار مشهد خلفي flash back في البداية يؤطر طبيعة علاقة فاتن وسيف وخلافاتهما اليومية التي تصل إلى العنف الجسدي، ثم يعود إلى الحاضر الجحيمي الذي تعيشه فاتن بعد طلاقها، وعلى الرغم من كون سيف هو الشخصية الوحيدة التي تستثنى من الحكمة الإيجابية فإنه لا تنقصه البلاغة والتفوه، يضع صناع المسلسل على عاتق سيف كل سمات الذكورة المسممة التي يمكن التفكير فيها كما يحملونه كل العيوب الاجتماعية للرجال المصريين، يظهر أحيانًا كشخصية واقعية فعلاً فهنالك آلاف الرجال الذين يشبهونه، لكنه في أغلب الوقت ثنائي الأبعاد ذو لهجة كاريكاتيرية ولا يملك روحًا تقريبًا حتى بينه وبين نفسه.
يخصص العمل أغلب وقت مشاهد الخلافات حول موضوعات محدودة أهمها تمسك سيف بتحجيب زوجته وأبنائه مستعينًا بآيات قرآنية وأدلة فقهية، وأفكار دينية شعبية يغلف بها آراءه وكأنه على وعي تام برغباته ومسبباتها، وليس مجرد رجل غاضب، وعلى الرغم من عنفه وغضبه المستمرين فإن فاتن تتصدى له بشجاعة في كل مرة، تستمر فاتن في التصدي للأفكار المتصلبة حتى أمام سلطة الدين المتمثلة في الأزهر، تقف بشجاعة معلنة رأيها فتجيبها شخصية حكيمة أخرى تتمثل في أحد العاملين في المشيخة، الشيخ يحيى الذي يقوم بدوره محمد الشرنوبي في تمثيل لنسخة أكثر سماحة وهدوءًا لمعطي الفتوى يتقبل حماس السيدة المظلومة وتعديها على المؤسسة ويعيد التفكير في آرائه بحكمة، ويعمل كنقيض لزميله الذي يعطي فتاوى متعسفة ضد النساء ويسعى وراء الشهرة الافتراضية التي بالطبع تحيلنا إلى إسقاط أوضح من أن يتم ذكره.
تمضي الحلقات في ثنائيات جدلية بين فاتن وشخصية ما من شخصيات الرجال الحكماء الذين تقابلهم في طريقها، بجانب شخصية الشيخ يحيى تتبادل فاتن الحديث بشكل شبه يومي مع المحامي شكيب الإسكندراني (محمد ثروت) المهووس بمواقع التواصل الاجتماعي، تقوم تلك الشخصية بدور المرشد لنا ولفاتن في الأمور القانونية، يسرد بشكل روتيني الإجراءات اللازمة لإقامة الدعاوى والخطوات التي يجب أن تحدث ويكشف بقصد أو بدون عن ظلم المؤسسة التي ينتمي إليها ويصبح جزءًا آخر من قائمة الأهداف النبيلة التي تعلي المعلومة عن القيمة الفنية للعمل الدرامي، كما تساهم شخصيته في صنع المحتوى الكوميدي للمسلسل بجانب ما توفره هالة صدقي في دور ميسون صديقة فاتن التي تملك مشكلاتها الخاصة لكنها لا تفقد روحها المرحة.
يعمل مسلسل فاتن أمل حربي كمساحة إعلانية لخدمات مراكز استضافة النساء المطلقات بلا مأوى والمعنفات، تتغير أجواء المسلسل ونغمته لكي تتحول إلى جماليات إعلانية تسرد بوضوح خطوات التقديم وشروطه والمميزات والخدمات التي تمنحها المراكز، يمثل ذلك واحدة من تلك الأهداف النبيلة التي يتبناها العمل فمن الأسهل لفت النظر لخدمة ما أو حل لمشكلة تواجه الآلاف من نساء عن طريق وضعها داخل سياق درامي يتابعه الكثير من البيوت فيصبح العلم بتلك الخدمات والوصول إليها أكثر تأثيرًا من عرضها كإعلان في الفواصل التي يتجاهلها الناس أثناء مشاهدة المسلسلات، وفي الوقت ذاته يحيد ذلك بالمسلسل عن كونه عملاً فنيًا أو دراميًا ويجعله مساحة لتبادل الآراء والإعلان عن أحدث الخدمات التي توفرها الدولة، ويصنع حالة من الجدل الدائم بين الغاضبين من مناقشة أمور يرونها من الثوابت والمؤيدين للأفكار المتناولة.
يعامل صناع فاتن أمل حربي الوسيط التلفزيوني كوسيلة لإثارة الجدل وإثارة الحديث حول قضايا مهمة مثل حقوق الحضانة والولاية للنساء وتعسف القوانين والفتاوى الدينية ضدهن، ويتجاهل إمكانيات الوسيط كمساحة للتعبير الفني أو الاتزان الدرامي، لكن يحسب له فتح النقاش حول أحوال يصعب استمرارها أيًا كانت درجة صدقه في تناولها، يسعى العمل لتغيير القوانين الظالمة بتكرار القول إنها ظالمة وكأن ذلك هو أسلوب مناشدة السلطات الواعية تمامًا بمحتوى العمل وربما تستخدم العمل كمقدمة لإعلانات هامة قادمة، وكأن الدراما هي وسيلتها الجديدة لتمرير القوانين وصنع التغييرات السلبية أو الإيجابية بدلًا من الخطوات الجدية الخالية من الاستعطاف والإفراط الميلودرامي.