«فتح»: شعلة الثائرين وجبهة الكفاح المسلح
عسيرًا كان ميلاد حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»؛ تمامًا كعسر حال الوطن الذي انطلقت من تحت ثراه لتُدافع عن حقه المنهوب، بدأت سرية ونمت في مخالب الغربة بعد عمليات النزوح الإجباري من الوطن الفلسطيني إلى بقاع الدول العربية، وذلك في إطار الرد على النكبة، ومن ثمَّ العدوان الثلاثي وما تلاه من تشرذم ونفاق للأحزاب السياسية تجاه الوجع الفلسطيني.
عربيًا كانت «فتح» مُفجرة الثورة، وفلسطينيًا هي «أول الرصاص وأول الحجارة». وقد شَكَّل هذا الجمع الثوري حالة من الالتفاف الجماهيري حولها، مكّنها من أن تخطو واثقة نحو تنظيم العمل العسكري أكاديميًا وميدانيًا خاصة حين انتقلت إلى البقاع في الجنوب اللبناني إبان أحداث أيلول (سبتمبر) 1970، وتولى إدارتها القياديان «سعد صايل» العقل الأكاديمي المُنظم للعمل العسكري، و«خليل الوزير» الأداة النافذة في الميدان وساحة المواجهة.
شرارة البدء
عُرفت فتح بأنها أولى المنظمات الفدائية الفلسطينية التي اختارت سبيل النضال المُسلح من أجل تحرير الوطن، خاصة بعد محاولة الأحزاب العربية التي انضمت إليها بُعيد النكبة التفرد بالقرار الفلسطيني وإلغاء دور الشعب في مناهضة محتله؛ ما أدى إلى حالة من الغضب تُرجمت عمليًا بمحاولة الفكاك والاستقلال باتجاه العمل المُسلح ضد الاحتلال.
كان ذلك في عام 1957حيث قاد الشهيد خليل الوزير «أبو جهاد» جهد النضال والتحرير على المستويين العسكري والسياسي في آنٍ واحد، ابتداءً من منتصف الخمسينيات وحتى استشهاده في 16 إبريل/نيسان 1988، وظهر ذلك جليًا في العمليات الفدائية الصغيرة التي كان يقودها منذ عام 1954 وكانت تُحقق رعبًا للمحتل.
وتُشير وثيقة «البدايات» التي خطها خليل الوزير بيده، إلى أنه عمد بجانب عشرات الطلائع من أبناء الشعب الفلسطيني الذين كانوا يرنون إلى الخلاص الذاتي من الأحزاب العربية والاحتلال البغيض، إلى بلورة العمل العسكري في إطار تنظيم ليكون أكثر قوة وفعالية، ومع نهاية العام 1957 اجتمع في الكويت بعدد من القيادات الفلسطينية، هم: ياسر عرفات، وعادل عبد الكريم، ويوسف عميرة، وتوفيق شديد، وعبد الله الدنان؛ بهدف إيجاد حالة من الاستقلال في العمل الوطني الفلسطيني عبر تشكيل جهة رسمية تكون بمثابة المرآة التي تعكس الواقع الفلسطيني وتُعبر حقيقًة عن توجهات الشعب التوَّاق للتحرير.
واستطاعوا من هذا الهدف العريض إطلاق «حركة التحرير الفلسطيني»، واتخذوا من الحروف الأولى للكلمات الثلاث اختصارًا فكانت «حتف»، ومن ثَمَّ قاموا بعكس حروف الاختصار لتبقى «فتح»، وبعد قرابة العامين ضم التنظيم أعضاء جُدَد كان أبرزهم: صلاح خلف، وخالد الحسن، وعبد الفتاح محمود، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار.
رغم توسع التنظيم إلا أنه بقي سريًا حتى عام 1959، مع صدور مجلة «فلسطيننا- نداء الحياة» من بيروت في نوفمبر/تشرين ثاني بإدارة توفيق خوري، حيث كانت وظيفة المجلة أن تُعرّف بحركة فتح وأن تنشر فكرها في محاولة لاستقطاب المجموعات التنظيمية الثائرة في فلسطين وتجمعهم تحت لوائها.
وبحسب «الوزير» فبحلول العام 1961 استطاعت فتح أن تُوحد قرابة 40 تنظيمًا سياسيًا فلسطينيًا؛ مما جعلها تُلفت الأنظار إلى قضية الشعب العادلة ومنحها مكانة بين حركات التحرر، خاصة مع تحسن علاقاتها العربية والتي أسهمت خلال العام 1963 من تمكين الحركة من افتتاح مكتب لها في الجزائر بقيادة الوزير، وآخر في سوريا يقوده عرفات.
الانطلاقة العلنية
لعل الحالة التواجدية لقيادات فتح في الأقطار العربية منحتها شيئًا من الظهور العلني بعد أن كانت تُقاوم سرًا على المستوى العسكري، وخلال العام 1963 عمل عرفات على تطوير التنظيم مستثمرًا حالة الدعم الواضحة من النظام السوري، فمدّ خط المواجهة إلى لبنان والأردن وفلسطين، وحاول الإعلان رسميًا عن فتح كحركة تحرير وطني عمادها الحجر والرصاص.
شكّل هذا المد حالة خلافية داخل فتح وعقدت قياداتها حوارات مُطولة لمناقشة أمر الإعلان الرسمي، البعض رأى بضرورة التريث لحين اكتمال جهوزية الحركة للمواجهة العسكرية، والبعض الآخر رأى بضرورة البدء فورًا، وبالفعل كانت الغلبة للفريق الثاني الذي امتشق «العاصفة» ونفذ في 31 ديسمبر/كانون الأول 1964 عملية «نفق عيلبون» التي استهدفت تفجير شبكة مياه إسرائيلية، وكانت الانطلاقة في الأول من يناير/كانون الثاني 1965.
ثم صعّدت عملياتها العسكرية مع بداية العام 1965 حتى استطاعت الحصول على اعتراف الدول العربية بوجودها على الساحة السياسية، وأطلقت بيانها الأول في 28 يناير/كانون الثاني 1965، مؤكدةً على أن مخططاتها السياسية والعسكرية لا تتعارض مع المخططات الرسمية الفلسطينية والعربية؛ مما منحها القبول على المستوى الجماهيري، والتي استغلته فيما بعد في عملية التعبئة العسكرية.
استطاعت فتح بعد بيانها الأول أن تعيد الاعتبار للهوية الوطنية للفلسطينيين، وأن تُلفت أنظار العالم إلى قضية الوطن المسلوب، لكنها سرعان ما واجهت تحديات عظيمة كادت أن تفتك بقدراتها لولا إيمانها بالهدف الكبير الذي احتملت مخاضه العسير وهو «التحرر».
فقط عامان ونصف قد مروا على انطلاقة الشرارة الأولى لفتح، وجاءت هزيمة الجيوش العربية عام 1967، التي أنتجت احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. في هذه المرحلة شُق على التنظيم الثوري التحرري أن يمارس عمله المسلح داخل الأراضي المحتلة، لكنه ما توقف وعمد إلى تأسيس قواعد له في الخارج، وبعد حين وجدت الحركة نفسها في مارس/آذار 1968 تواجه مع الجيش الأردني إسرائيل فيما عُرف بمعركة «الكرامة»، هذه المواجهة العسكرية التي تكللت بالنجاح أهدت فتح تأييدًا جماهيريًا على المستوى الفلسطيني والعربي.
لعل ما زاد من جماهيريتها أنها لم تنتهج أيديولوجية مُحددة فكانت «جبهة وطنية» واسعة تستوعب كل الأطياف السياسية، وبرز ذلك خلال مشاركتها في الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني بالقاهرة في فبراير/شباط 1969، والذي انتُخب فيه ياسر عرفات، ناطقًا باسم الحركة ورئيسًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير خلفًا ليحيى حمودة.
غير أن الحال لم يدم على الاستقرار طويلًا، ولم يدم وجود فتح في الأردن طويلًا بعد أحداث أيلول الأسود 1970، وانتهت بالخروج إلى لبنان وسط أفكار مختلفة ورؤى سياسية متفرقة تتفق جميعها على الهدف العريض «التحرير»، ولكن بأفكار ورؤى مختلفة أحدثت انشقاقات في المنظمة، لكنها أبدًا لم تُمزقها إلى شرذمات كلٌ منها يسعى لإقصاء الآخر، كما هو حاصل الآن للأسف.
فتح لبنان من 1971 إلى 1982
بعد خروج القيادة الفلسطينية من الأردن برفقة ضباط فلسطينيين خدموا في الجيش الأردني كـ القيادي «سعد صايل»، حاولت تأسيس قواعد مقاومة ضد إسرائيل في الجنوب اللبناني، وكان لصايل والوزير دور مهم في تنظيم العمل العسكري آنذاك، فصايل يُرسي تفاصيل العمليات العسكرية في عقول الثائرين، والوزير ينثرها واقعًا في الميدان، فتمكن من تحقيق حالة من الدمج بين كافة القوات سواء الخارجة من الأردن أو المتواجدة في جيش التحرير الفلسطيني مع قوات العاصفة؛ مما كان له بالغ الأثر في تحقيق حالة من الردع العسكري لكافة أهداف الاحتلال في الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة.
سنتان فقط مرتا على الخروج من الأردن، بعدها تحولت وحدة الدم والسلاح في مواجهة الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى صراع على منظمة التحرير الفلسطينية، لكن دون أن تتوقف عن ملاقاة الاحتلال بالقنابل والرصاص، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تبنت حركة فتح «مرحلية النضال السياسي» بعد قبوله من المجلس الوطني الفلسطيني والذي يدعو إلى إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي بقعة فلسطينية تُحرر أو يتم استردادها، ناهيك عن التزامه بخط التفاوض مع الاحتلال.
وهنا برز الخلاف الذي عبرت عنه «جبهة الرفض» خلال الفترة (1973 – 1983)، وكان لها موقف من السلطة ومن المؤتمر الدولي للتسوية (جنيف)، وأدت إلى ظهور تيارات مختلفة في الرؤى والأفكار السياسية مع حركة فتح، ومن أولئك صبري البنا (أبو نضال) الذي كان يُدير مكتب المنظمة في بغداد، فانشق عن صفوف الحركة الأم، مكونًا عام 1974 «حركة فتح – المجلس الثوري» وعرفت تاليًا باسم «جماعة أبو نضال»، وتلقت دعمًا من المخابرات العراقية وعدد من الدول التي توافقها الرأي في عدم اللجوء إلى الحلول السلمية وتسوية الصراع مع إسرائيل باعتباره «استسلام».
ومما زاد الأمر سوءًا داخل المنظمة التي اتخذت من لبنان مستقرًا ومقامًا، اشتعال الحرب الأهلية هناك ومحاولة القوات اليمينية اللبنانية المعروفة بتعاونها مع الاحتلال الإسرائيلي إنهاء الثورة الفلسطينية في لبنان، كونها تُمثل خطرًا على مصالحها مع الولايات المتحدة الأمريكية وابنتها المدللة إسرائيل، مستثمرة في ذلك حادثة حافلة عين الرمانة في بيروت في 13 إبريل/نيسان 1975، وما تلاه من تدخل سوري مسلح عام 1976.
لكن على الرغم من ذلك ظلت فتح مُصرة على المسيرة السلمية لتتمكن من فرض فكرة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الساحة السياسية، وتنهي حالة الهيمنة العربية والإقليمية على الفلسطينيين، واستطاعت أن تُعبر واقعًا عن ذلك بقبولها مُقررات قمة فاس 1982 بعد معركة دامية انتهت بخروجها إلى تونس.
- محسن الخزندار، "حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح"، صحيفة دنيا الوطن، 19 أكتوبر 2009.
- عباس زكي، "حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح: ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح منذ 1957 وحتى اليوم"، مكتب مفوضية العلاقات العربية.
- "حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح"، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا.
- نبيل السهلي، "حركة فتح: النشأة والمصير"، الجزيرة نت، 3 أغسطس 2009.