«فتح»: السقوط في بئر التسويات السياسية وانشقاق الصفوف
على مدار ثمانية عشر عامًا منذ إعلان الثورة في نهاية ديسمبر/كانون الأول 1964 وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، لم تتنازل فتح عن مبادئ الثورة التي جاءت بها من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني، لكنها بدأت تتداعى إلى السياسة وتسقط في وحل الاتفاق مع المحتل الذي كبّل راية الثورة بقيود لم تستطع الفكاك منها حتى يومنا هذا.
البداية كانت في تونس، تلك الدولة التي قامت بدور دبلوماسي على المستوى العربي والدولي لفك الحصار الإسرائيلي عن بيروت -معقل القيادة الفلسطينية في الثمانينيات- وعمدت إلى استقبال منظمة التحرير الفلسطينية برمزها «ياسر عرفات» وكوادرها.
هناك تداعت فتح إلى السياسة وأصابتها الانقسامات في عمق هدفها الذي تراخى عن التحرير بالكفاح المسلح إلى المهادنة بالسلام، وعمدت بعد عشر سنوات من مكوثها في تونس إلى توقيع اتفاق أوسلو للسلام، وتلاه تنازلات وزلات لقادتها، آخرها الصراعات والانشقاقات الداخلية التي أثّرت على التعاطي العربي والإقليمي مع القضية، وكادت أن تُغيّبها عن الأجندة السياسية لحين تحقيق التوازن الداخلي للحركة الماردة.
انشقاق الصفوف
بعد جنوح عرفات إلى التسوية السياسية مع الاحتلال أثناء تواجده في تونس، برزت أصوات معارضة تتفق معه في محاولة انتزاع الهم الفلسطيني بإحقاق الحقوق، لكنها تختلف في الرؤية السياسية لذلك. هي تُريد التحرير بالدم والنّار كما ابتدأت الثورة، وهو بات يرى الحل السلمي والتفاوض الدبلوماسي وسيلة لاسترجاع الحقوق والحصول على الحرية.
كانت أهم الجماعات المعارضة للحل السياسي جماعة «السوفيات» المتمثلين بيسار فتح وتزعمهم نمر صالح وسعيد مراغة، وجماعة «الخط الفيتنامي والماوي» ويزعمهما منير شفيق، بينما كانت جماعة «النهج الفتحاوي» الذي يدعمه ياسر عرفات صاحبة الغلبة بتحقيق التسوية السياسية ابتداءً من مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، مرورًا بإبرام اتفاق أوسلو عام 1993، الذي عاد بجزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وأريحا، لكنه أثبت فشله أخيرًا بوصول مفاوضات الحل النهائي إلى طريق مسدود.
كان الإقصاء سبيل عرفات لتخطي المنشقين، فحينما استشعر خطر نمر صالح وسعيد مراغة عمد إلى تهميشهم داخل المجلس الوطني، ومن ثَمَّ اتهمهم بتلقي الدعم من القيادة السورية التي حاولت اجتثاث فتح من لبنان وأدت بها إلى الخروج نحو تونس.
وفي المقابل لم ترضخ القيادات المنشقة لقراراته وعمدت إلى مطالبته بوقف الإجراءات السياسية والعسكرية ضدهم، ودعت إلى عقد مؤتمر طارئ لحسم الأمور إلا أن ذلك لم يحدث. ومع استمرار حالة الصراع برزت عمليات الاغتيال والتصفية للقيادات التي تُخالف الحل السياسي وترفض الرضوخ لمساومات التسوية، وتؤمن أن وسيلة التحرير هي الدم والنار بعيدًا المساومة والمهادنة، فاغتيل مُحرك الثورة الميداني خليل الوزير «أبو جهاد» عام 1988، ومن بعده صلاح خلف «أبو إياد» عام 1991.
بعدها لم يبقَ إلا من راهنوا على إعادة الحق الفلسطيني بالمفاوضات لا السلاح، وبالفعل لم يمض عقد الثمانينيات إلا وقد تحولت منظمة التحرير الفلسطينية إلى ساحة التفاوض مع الاحتلال، مُعلنة في دورة المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر عام 1988 قيام دولة فلسطين مع الاعتراف بإسرائيل وفقًا لقرار مجلس الأمن 242.
من النضال الثوري إلى سلطة الحكم الذاتي
بعد مؤتمر مدريد للسلام 1991، تحولت فتح من العمل الثوري المناهض بالدم والنار للاحتلال إلى سُلطة حكم ذاتي، حيث استطاعت بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 الدخول إلى قطاع غزة وبعض أراضي الضفة الغربية بما فيها أريحا، وتحوّل مُقاتلو الثورة إلى رجال أمن وموظفي أجهزة بيروقراطية ضخمة يُشرف على تدريبها الأمريكان؛ مما أوجد حالة من التناقض بين الحلم بتحرير كامل التراب الفلسطيني وبين ما هو واقع بوجود سلطة تُدير حكمًا ذاتيًا من المفترض أن ينتهي بدخوله العام الخامس وبدء مفاوضات الوضع النهائي.
إلا أن فشل هذا المسار في سنواته السبع الأولى أدى إلى تفجير الانتفاضة الثانية، وما كان من الاحتلال إلا الرد بالحديد والنار ليس على الشعب فقط وإنما على زعيمهم وقائدهم الرمزي «عرفات» -كما تعارف عليه في أدبيات الحركة- فحاصروه حتى وفاته؛ لأنه حاول التوفيق بين الشرعية الثورية واستحقاقات التسوية، فكان الخلاص منه أسهل الطرق لتحقيق عمليات الضم والتوسيع على حساب الحق الفلسطيني.
ومن هنا تحول المنجز الوطني بإقامة سلطة فلسطينية بإمكانها أن تُجهض محاولات شطب منظمة التحرير وأن تُحيي القضية الفلسطينية من جديد إلى وهم زاد من وطأة تحكم الاحتلال.
يُشار إلى أن الحالة التناقضية التي واجهها الفلسطينيون بعد عودة السلطة وعجزها عن تحقيق حلم التحرر بالحل السلمي، أوجدت فجوة واسعة بين ماضي الحركة وحاضرها، حاول البعض رأبها بإيجاد تيارات مُضادة؛ مما أعجز الحركة عن عقد مؤتمرها منذ عقده آخر مرة في تونس عام 1990. وعلى الرغم من تكاثر الأجنحة والتنظيمات داخل فتح، إلا أنها لم تنجح في الانسلال عن الرمز والزعيم الذي كان يقبض بيده على مقالد الحكم واستمر زاجرًا لكل التيارات الرافضة لخطه حتى وفاته عام 2004.
لعل أسوأ ما تناهت إليه حركة فتح بعد رحيل عرفات هو الانشقاقات الداخلية والصراعات العلنية على السلطة، والتي تزايدت بعد هزيمة فتح في الانتخابات التشريعية أمام حماس.
صراعات المناصب: عباس – دحلان
بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 برز تياران للصراع داخل حركة فتح؛ أحدهما مُمثل في محمود عباس الذي اُختير رئيسًا للسلطة الفلسطينية خلفًا لأبو عمّار، والآخر مُمثل بمحمد دحلان الذي كان يرى عباس عبئًا على فتح والوطن والقضية الفلسطينية أجمع.
وأدى الصراع القائم بينهما إلى تآكل وحدة الحركة، وأفقدها روحها الثورية المتوحدة على هدف التحرير، وذهب بشعبيتها خاصة في قطاع غزة لصالح حركة حماس بسبب تنصل رئيس السلطة الفلسطينية للقطاع ورفضه لنتائج الانتخابات التي أتت بحماس إلى الحكومة، ناهيك عن شجبه للمقاومة، وإقراره بضرورة التزام المقاومة السلمية بعيدًا عن الحجر والرصاص؛ ما جعل فتح هشة أوهن من جناح بعوضة، وهي التي كانت «عاصفة تحرير وبندقية ثورة وحجر ثائر».
وللحق فإن ذلك النهج بالتخلي عن العمل المقاوم والكفاح المُسلح لم يكن ابتداعًا من عباس، فبعد أوسلو أحدثت الحركة بعض التعديلات على ميثاقها الوطني، فلم تعد تُنكر وجود إسرائيل، وحذفت كافة البنود المتعلقة بإزالة ذلك الكيان من الوجود وصولًا لتحرير كامل التراب الفلسطيني والعودة إلى الأراضي المحتلة عام 48.
مؤتمرات فتح
شكلت الصراعات الداخلية بين تيارات الحركة واتهامات الفساد المالي والوطني سببًا جوهريًا في عجز الحركة عن عقد مؤتمرها الدوري بشكل منتظم حسب ما تُحدده اللوائح الداخلية، وكانت النتيجة أن ما عُقد فقط 6 مؤتمرات على مدى تاريخها النضالي من 1957 حتى العام الحالي 2016، الذي شهد في نوفمبر/تشرين الثاني مؤتمرها السابع بعد مرور أكثر من ثماني سنوات على مؤتمرها السادس عام 2009.
عدت فتح اللقاءات التي كانت تُنظمها في الخارج قبل انطلاق الحركة نهاية عام 1964 تمهيدًا لمؤتمرها الأول، ومنها اللقاء في العاصمة الكويت عام 1962 الذي حدد الهيكلية التنظيمية للحركة وأهدافها ومهام قادتها، ومنها أيضًا لقاء العاصمة السورية دمشق عام 1963 والذي توافقت فيه القيادات على ضرورة الحشد الجماهيري على المستوى المحلي والعربي لإيجاد سبل دعم مالي وسياسي للحركة.
وجاء المؤتمر الأول للحركة في العام التالي 1964، وعُقد أيضًا في دمشق وكان أهم قرار فيه إنشاء قوات العاصفة وإعلان الأول من يناير 1965 موعدًا للانطلاقة العلنية للحركة، وبعده بقرابة العامين ونيف عُقد لقاء آخر للقيادة الثورية أقرت فيه تشكيل إدارة عسكرية ولجنة للتعبئة والتنظيم عام 1967 انتهى بتكليف ياسر عرفات بمهام الناطق الرسمي باسم الحركة.
وفي العام التالي أُقيم المؤتمر الثاني للحركة عام 1968 في العاصمة السورية دمشق، وأثمر عن إعلان إنشاء المجلس الثوري للحركة، بالإضافة إلى انتخاب لجنة مركزية جديدة كان عدد أعضاؤها حينئذ عشرة أعضاء.
لم تمر ثلاث سنوات حتى أُعلن عن المؤتمر الثالث للحركة عام 1971، إبان الخروج من الأردن إلى البقاع في الجنوب اللبناني، فكانت نتائجه واضحة لإقرار النظام الداخلي للحركة، بالإضافة إلى تجديد الثقة في اللجنة المركزية، وتحديد مهام المجلس الثوري.
وبعد قرابة التسع سنوات، عُقد المؤتمر الرابع عام 1980 بحضور 500 شخص، ولعل أهم ما أفرزه هذا المؤتمر إعلان أن الولايات المتحدة عدو رئيسي لفلسطين، بالإضافة إلى توثيق العلاقات والتحالف مع الاتحاد السوفييتي، ناهيك عن توسيع عضوية المجلس الثوري وتخصيص 50% من مقاعد المؤتمر للعسكريين.
واستمر الحال ثماني سنوات أخرى حتى موعد انعقاد المؤتمر الخامس في عام 1988 بحضور قرابة ألف عضو، وخلال المؤتمر تم إنشاء مكتب سياسي للحركة بالإضافة إلى تزكية عرفات قائدًا عامًا للحركة، وتم التوافق على تعزيز وتصعيد العمل العسكري المقاوم بالتوازي مع مواصلة العمل السياسي.
ثم جاء المؤتمر السادس عام 2009، وكان الأول الذي يُعقد على أرض فلسطين في مدينة بيت لحم واستمر قرابة 12 يومًا، تم خلالها انتخاب أعضاء اللجنة المركزية وكان من بينهم محمد دحلان.
التكهنات كثيرة حول المؤتمر السابع، والمفاجآت الموعود بها الشعب الفلسطيني تبدو أكثر –وفق ما تتناقله وسائل الإعلام- وما تُصدره القيادات من تصريحات بأنه سيكون نقطة تحول إيجابية، لكن هل يُمكن أن نثق في ذلك؟.
الإجابة ستحملها مخرجات وقرارات المؤتمرين نهاية اجتماعهم خلال الأيام المقبلة.