الصوم: المختلف والمشترك فيه بين اليهودية والإسلام
يعد «الصوم» من أهم العبادات التي شُرعت في معظم الرسالات السماوية إن لم يكن جميعها، فهو من أكثر العبادات الضاربة بجذورها في عمق التاريخ رغم اختلاف طقوسه وشعائره وأنواعه من رسالة سماوية إلى أخرى، إلا أن هناك دائمًا ما يجمع بين هذه الطقوس والشعائر المختلفة المتعلقة بالصوم إلا أن جميعها يمكن أن يُطلق عليه «صومًا». وهو ما يُصدقه قول الله – عز وجل – في كتابه العزيز: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة 183).
في ضوء ما سبق، فإنه يمكن القول، إن الإسلام استمد شعيرة الصوم من نفس المنبع الذي استمدت منه الرسالات السماوية السابقة له الشعيرة نفسها، وبالتالي فإنه ليس من الغريب أن يكون هناك تشابه في هذه الشعيرة بين الإسلام وغيره من الرسالات السماوية لاسيما اليهودية، في نفس الوقت الذي احتفظت به هذه الشعيرة في الإسلام بخصوصيتها وتفردها في بعض الجوانب عن الرسالات الأخرى ومنها اليهودية.
طبيعة الصوم وأنواعه في اليهودية
يصوم اليهود أيامًا كثيرة خلال العام، وفي مناسبات مختلفة وقد عُرف لديهم الصوم منذ الفترات الأولى لنشأة كتابهم المقدس (العهد القديم)، إلا أن أصوامهم تعددت مع مرور الأجيال وفقًا للأسباب والدوافع التي دعتهم لذلك؛ إذ بدأ الصوم في اليهودية كشعيرة على أنه نوع من أنواع الزهد والتقشف؛ فقد استخدمت النصوص التوراتية مصطلح ענת הנפש أي إذلال النفس كناية عن الصوم [1].
ويتسع مفهوم الصيام كثيرًا لدى اليهود؛ وسبب ذلك راجع إلى اجتهاداتهم في إيجاد أنواع منه، جُلّها مرتبط بالحدث التاريخي، وما أفرزته طبيعتهم العدائية للأمم التي عايشوها، أو عاصروها، والتي غلب عليها طابع الحزن؛ نتيجة تعرضهم للمحن [2]. ويتبعون في صيامهم طقوس التقشف، كالنوم على الأرض أو الامتناع عن الأكل، والشرب، والجماع، والاستحمام، وتغيير الملابس، والتعطر، وزيوت الجسم، وغسل الأسنان، والعمل، وارتداء الأحذية، منذ غروب الشمس إلى غروب اليوم التالي، ويُحدد بداية الخروج من وقت الصوم بظهور أول نجم في السماء وبذلك يؤذن بالإفطار، ويتم إعفاء الأطفال والمرضى والنساء الحوامل والمرضعات من الصيام [3].
أما عن أنواع الصوم في اليهودية، فيمكن تقسميها إلى نوعين، الأول: فردي (شخصي) ويُسَمى صوم الأسر، ويقع في حالات الحزن الفردي، أو عند التكفير عن خطيئة. والثاني: جماعي، وهو غير ثابت، وغالبًا ما يفعلونه عند حدوث حزن عام يُقلقهم، كالصوم عند رداءة المحصول، أو غارات الجراد، أو الهزائم في الحروب [4].
ورغم تعدد أنواع الصوم اليهودي ووروده في عدة مناسبات مثل صيام الشهر الرابع العبري (شهر تموز) في ذكرى تدمير الهيكل، غير أنّ دائرة المعارف اليهودية ترى أن الصيام الوحيد الذي لم يرد غيره في التشريع الموسوي( اليهودي) هو صيام يوم الغفران (يوم كيبور)، فقد ورد في العهد القديم: «ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر تذلّلون نفوسكم، وكل عمل لا تعملون» (اللاويين 16:29). ويبدأ اليهود صيامه قبل غروب الشمس بنحو ربع ساعة إلى ما بعد غروب الشمس في اليوم التالي بنحو ربع ساعة، فهو لا يزيد بحال عن خمس وعشرين ساعة متتالية، وهو عاشوراء اليهود، وما زال فيهم حتى اليوم [5].
التشابه والاختلاف مع الإسلام
يعد الصوم من أكثر الشرائع والطقوس التي تتشابه في الكثير من الأمور في كل من الإسلام واليهودية، ويختلفان عن بعضهما البعض في القليل من الأمور، فتتفق اليهودية والإسلام في إعفاء المريض والنساء الحوامل والحائضات والمرضعات اللائي لا يتحملن الصيام وصغار السن من الصيام، في حين يتفرد الإسلام في إعفاء المسافر أيضا من هذه الفريضة.
أما عن الطقوس المصاحبة للصيام، فقد تفرد الإسلام بجعل الصيام مصاحبًا بالكثير من الطقوس الدينية مثل الاعتكاف والمساجد والاكثار من قراءة القرآن حملًا للنفس على التزكية وترغيبًا لها في الخير بهذا الشهر، ثم يعقبه ما يدل على البهجة ونباهة حال الملة وهو عيد الفطر [6]، وهو ما لايوجد في اليهودية.
أما اليهودية، فتتفرد بأنه ظهر بها ما يعرف بـ(صيام الصمت) وهو استغراق الصائم في صمته، ضاربًا على نفسه ثوب التوبة من الخطايا والندم على ما اقترفه اللسان من بذيء الكلام وفاحشه. وهذا النوع من الصيام معروف في الديانات القديمة أيضًا، وليس له وقت محدد [7]. وهو لا يوجد في الإسلام.
يتفق الإسلام مع اليهودية حول الصوم أيضًا، في أن الصوم يجب أن يصاحبه الامتناع عن المخاصمة والمشاحنة والبغضاء، وأن يتحلى الصائم بالتواضع واللين مع أقرانه، فنقرأ في العهد القديم: «يَقُولُونَ: لِمَاذَا صُمْنَا وَلَمْ تَنْظُرْ، ذَلَّلْنَا أَنْفُسَنَا وَلَمْ تُلاَحِظْ؟ هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُونَ. هَا إِنَّكُمْ لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ تَصُومُونَ» (إشعياء 3:58-5).
كما نهى الإسلام عن الخصومة والنزاع والشر أثناء الصوم، بل إنه يوصي المسلم الصائم بالتحمل والصبر إذا خاصمه غيره أو نازعه والتحلي بضبط النفس. فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «…وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم» (رواه البخاري)[8].
كما تتفق اليهودية والإسلام في ضرورة ترك قول الزور خلال الصيام، ففي اليهودية كان السكوت أحد أشكال الصيام تجنبًا لقول الزور خلال الصيام، أما في الإسلام، فقد نهى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، عن قول الزور والعمل به لا سيما بالنسبة للصائم، وبيَّن أنه لا قيمة للصوم حال قول الزور والعمل به، وأنه لا فرق لمن قال الزور أو عمل به بين أن يمسك عن الطعام والشراب أو يتناولهما. فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». (رواه البخاري)[9].
أما عن مكفرات الافطار وأعمال التقرب إلى الله خلال فترة الصوم، فقد كانت من المتشابهات أيضًا بين اليهودية والاسلام، ففي اليهودية دعوة لتحرير العبد خلال فترة الصيام وللتقرب للرب خلال الصيام، فقد ورد في العهد القديم: «أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ» (إشعياء 6:58).
أما في الإسلام، فقد جعل تحرير العبيد كفارة للجماع في نهار رمضان. فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: «ما لك؟» قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا. فقال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟» قال: لا. قال: فمكث النبي (صلى الله عليه وسلم)، فبينما نحن على ذلك، أتي النبي، صلى الله عليه وسلم، بعرق فيها تمر والعرق المكتل. قال: «أين السائل؟» فقال: أنا. قال: «خذها فتصدق به.» فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى بدت أنيابه ثم قال أطعمه أهلك (رواه البخاري)[10].
- محمد الهواري، الصوم في اليهودية.. دراسة مقارنة، دار الهاني للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1988، ص 4-5.
- ناصر الدين الكاملي: الصوم في القديم والحديث، مطبعة الكونكورد، القاهرة، بدون تاريخ، ص 21.
- نفس المرجع، ص22.
- حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية – الإسكندرية، 1971م، ص86.
- عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، مكتبة الأوائل، القاهرة، 2001، ص 181.
- أبو حامد الغزالي: أسرار الصوم، تحقيق ماهر المنجد، ط 1، 1996م، دار الفكر – دمشق، ص 40.
- عبد الرزاق رحيم صلال: المرجع السابق، ص110.
- أبو حامد الغزالي: المرجع السابق، ص 51
- نفس المرجع، ص 51-52.
- نفس المرجع، ص 52.