بعيدا عن هوليوود: قصة السينما الإيرانية و الثورة الإسلامية
ليل خارجي
الزمان: 19 أغسطس/آب من عام 1978
المكان: أمام أحد دور السينما بمدينة أبادان – إيران
أربعة رجال ملثمون يقومون بغلق أبواب سينما «ريكس»، السينما ممتلئة عن آخرها بمحبي السينما،أصدقاء يقضون ليلتهم سويا، شاب هارب من وحدته يجلس في الصف الأول، والكثير من الأسر والأطفال، الكل يتابع الفيلم الجديد للمخرج الإيراني «مسعود كيماي» والذي قرر أن يسميه «الغزلان». خارج السينما كانت الأجواء هادئة ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة. الثورة الإسلامية في إيران تختمر وتستعد للإطاحة بالشاه.
الرجال الملثمون يصبون الزيت والبنزين على أبواب السينما المغلقة وجدرانها، يشعل أحدهم النار في باب الدخول الرئيسي، يشتعل الملصق الدعائي الخاص بالفيلم، تنتشر النار في لحظات وتطول كل شئ، يختفي الرجال الملثمون وتبدأ صرخات الجمهور في رج المكان. لم يستطع أحد الهرب، خرجت الصحف في اليوم التالي لتُعلن وفاة 377 إيرانيا داخل السينما، زادت الأعداد بعدها بأيام لتتجاوز 438 قتيلاً طبقا لتقرير أصدرته منظمة العفو الدولية.
أتت العاصفة مكتملة خلال الشهور التالية وفى عام 1979 أشعل المتظاهرون المتحمسون ما يقرب من ربع صالات السينما في العاصمة طهران، كانت السينما بالنسبة لهم رمزا للشر والفساد، فيما كان الذهاب لها يعادل ارتكاب خطيئة كبرى تستلزم العقاب والتوبة والتطهر. أتت الثورة الإسلامية وأتت الجمهورية الإسلامية بعدها لتخلق واقعا جديدا، واقعا بدأت معه السينما والنيران تأكلها -حرفيا-.
ليل داخلي
الزمان: 18 مايو/آيار 1997
المكان: قصر الاحتفالات بمدينة كان – فرنسا
يجلس مراسل صحفي وأمامه المخرج الإيراني «عباس كيارستمى» يرتدي بدلة قاتمة يشبه لونها «البن المحروق» وقميص أبيض، بلا رابطة عنق. وجهه قمحي اللون ويخفي عينيه بنظارة عدساتها نصف معتمة. هذا الخليط اللوني من البني والأبيض والأصفر يجعلك تشعر بالحنين للماضي حتى ولو لم تغادره.
يبدأ المراسل حديثه: «أشكرك جدا على منحي فرصة لمقابلتك قبل بدء حفل توزيع الجوائز، إنه لأمر عظيم أن يتم ترشيح فيلمك للفوز بالجائزة الأولى. لن أطيل عليك يا سيدي. أريد أن أسألك بشكل واضح كيف تستطيع أن تعمل تحت كل هذه الرقابة على السينما في بلدك؟»
يعتدل كيارستمى ثم يبدأ حديثه : «بالنسبة لي يمكنني القول أن الرقابة لم تؤثر في عملي، ولكن هذا لن يكون حقيقيا. صناع الأفلام بشكل طبيعي يتحدثون عن تجاربهم الشخصية ولكن بالنسبة لي ما يتحدثون عنه الآن ويصفوه بالرقابة يجب أن يتم اعتباره بشكل أساسي قيود دينية، الرقابة تتم عادةً حينما لا يكون هناك قواعد واضحة أو حين يقرر بعض الناس حذف بعض المشاهد من عمل معين ولكن الآن نحن نعلم أن هناك قيودا مثل عدم إمكانية ظهور امرأة لا ترتدي الحجاب ولا حتى بحجاب غير محكم بشكل كامل، هناك أيضا قواعد صارمة بخصوص التلامس».
يسكت عباس للحظات، يضع يده اليمنى تحت خده ويميل برأسه نحوها ثم يكمل:
«بشكل عام أنا لا أختار الموضوعات التي تتضمن زوجات وأزاوج في منازلهم أو في غرفهم، أدرك أن ما يمكننا تقديمه ليست أسرة حقيقية، لا تجمعهم أي علاقة حقيقية. وهذا كله يعني أنني وبشكل أوتوماتيكى قد تجنبت التفكير في العلاقة بين الرجل والمرأة داخل المنازل، ربما هذا سبب أنني وبشكل لا واعي أستمر في الذهاب إلى القرى لصناعة الأفلام».
يسكت كيارستمى مرة أخرى ويمد يده اليمنى إلى كوب ماء قريب ليرفعه إلى فمه ويأخذ رشفة واحدة، ينزل الكوب ثم ينظر إلى عيني المراسل بشكل مباشر ويكمل:
«إنني أشعر بالإهانة حينما يتم سؤالي عن الرقابة في إيران وأنا في الغرب، إنهم يظنون أننا أحد دول العالم الثالث وأننا نتعرض لرقابة غير معقولة ونعمل تحت ظروف مرعبة. ولكنني حينما أفكر في هذا أدرك أننا دائما ما كنا مضطرين لمواجهة مشكلة الرقابة. ليس فقط كصناع أفلام ولكن أيضا كمواطنين إيرانيين. لطالما كانت لدينا رقابة. يبدأ الأمر في أسرنا حينما لا نستطيع أن نتحدث عما نفكر فيه لأن أبائنا تقرر ما هو الصواب وما هو الخطأ بالنسبة لنا. في المدارس حتى هناك قيود أكثر صرامة، وكل هذا يستمر حتى يجد مكانه في وظائفنا. ولذا في رأيي أن الرقابة هي شئ لم يضايقني بشكل بشع لأننا وجدنا طرقنا للتغلب عليها، في حقيقة الأمر فإن الأمة كلها تعلمت هذا. وصناع الأفلام كما في أي مهنة أخرى قد تعلموا كيف يتخطوا أي قوة تواجههم، هذه هي الحقيقة. خاصةً في حالتنا، سينماتنا هي وسيط يملكه المخرج وكلما يقع المخرج تحت ضغوط بسبب طبيعة عمله كلما كان مجبر على الخروج بحلول أفضل وإيجاد طرق جديدة للتعبير. لدي صديق يعمل كمهندس وقد أخبرني بشئ مماثل. حينما يسأله أحد عن أفضل المباني التي صممها خلال العشرين سنة الأخيرة فإنه يذكر دائما المواقع التي عمل فيها ولم تكن ممهدة وبالتالي أجبرته على إبداع حلول غير تقليدية، هذه هي الطريقة التي جعلته في النهاية يفعل أشياء جديدة في مجاله. وأنا أظن أن الفن قد ولد من رحم الظروف الصعبة التي يمر بها الفنان.»
يحاول المراسل مقاطعة كيارستمي قائلا : هل تقصد ..، ولكن كيارستمى لا يسمح له بذلك ثم يكمل:
«أنا أقول هذا بحذر شديد وخاصةً خارج إيران لأني أخشى أن يُستخدم كلامي لتبرير القيود على الفن أو لقول أن الرقابة ليست مشكلة. قد يظن الناس أنني أقول هذا بسبب الخوف أو على سبيل التودد للحكومة. ولكن الحقيقة هي أنني عندما أغادر إيران لا أريد أن أسمع أشياء سلبية تُقال عنها. أعتقد أننا حتى لو كانت لدينا مشكلة بسبب الرقابة في إيران فإننا يجب أن نتعامل معها بأنفسنا. وكما قال أبي إذا تكسرت رأسك فمن الأفضل أن تتكسر داخل قبعتك. لا يجب أن نتحدث عن ذلك في أي مكان آخر لأنه ليس لذلك أي ميزة. لا أحد يستطيع أن يفك عقدنا أو يحل مشاكلنا ولهذا فأنا لا أتحدث عن الرقابة خارج إيران وخاصةً لمراسلين أجانب وغالبا ما أسألهم .. ألا تمتلكون رقابة خاصة بكم ؟. الحكومة تفرض الرقابة ولكنها أيضا توفر الدعم وذلك بسبب الواجهة الجيدة التي قدمتها السينما لإيران في السنين الأخيرة وبشكل شخصي وبعد هذه الجوائز فإنني لا أقابل مشكلة مع الرقابة ليس لأني أوافق عليها ولكن لأني أخبر جهات الرقابة دائما أنهم يقومون بعملهم ونحن سنقوم بعملنا وفى النهاية فعملنا هو الذي سيحيا».
بعد ذلك بعشر دقائق يعود كيارستمي مرة أخرى إلى القاعة الرئيسية ليجلس في منتصف الصفوف، وينتظر لسماع اسم الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية (الجائزة الكبرى لمهرجان كان). يفكر الرجل في كل ما حدث في العشر سنين السابقة أو بالأحرى السبع سنوات التي تلت نهاية الحرب مع العراق ووفاة آية الله الخمينى في عام 1989، يفكر الرجل كيف تحسن الوضع نسبيا بالنسبة للإيرانيين عموما وصناع السينما خصوصا خاصة بعد التعاون بين الإصلاحيين والمبدعين.
يتذكر عباس بشكل خاص تجربة التعاون بين صديقه المخرج «محسن مخملباف» و المفكر الإسلامي المعتدل «عبد الكريم سروش» حيث ساهم ذلك في صياغة رؤية أوسع للفن في المجتمع وحتى من المنظور الديني. يُقدر عباس تجربة مخملباف على وجه الخصوص وربما لذلك صنع فيلمه «كلوز أب» عن قصة تدور حول مخملباف وفيلمه «قائد الدراجة». يشعر عباس بالفخر لأنه رفض أن يغادر بلده عقب الثورة الإسلامية وفضل أن يبقى ويصنع أفلامه من الداخل.
يشعر أنه ورفاقه مخرجي الموجة الجديدة في إيران قد شكلوا سببا رئيسيا في خفوت حدة التعصب الديني المسيطرة على مقاليد الحكم، ويشعر أخيرا أن السينما هي أمل الإيرانيين وحلمهم للمستقبل. لديهم انتخابات رئاسية بعد ثلاثة أشهر والمجتمع السينمائي الإيراني كله يساند الإصلاحي «محمد خاتمى» حتى أن إعلانه الشعبي صنع بواسطة المخرج «سيف الله داد». ربما إيران معه ستصبح على الطريق من الدولة الدينية إلى الدولة الديمقراطية. يقطع تفكيره صوت تصفيق حاد من كافة الحضور، أعظم صانعي السينما في العالم يصفقون بحرارة، الجميع ينظر إليه، فهم أخيرا أنه فوت سماع اسمه مقترنا باسم إيران وأن فيلمه «طعم الكرز» قد حقق المعجزة وفاز بالجائزة الكبرى.
يقف عباس ويعبر عن امتنانه، لا تزال آثار الدهشة تبدو عليه، يصعد إلى المنصة لتسلم الجائزة من الفنانة الفرنسية «كاثرين دينيوف» التي تحتضنه وتطبع قبله على خديه ثم تسلمه الجائزة.
ليل داخلي
الزمان : الاتنين 27 فبراير/شباط 2012
المكان : حفل توزيع جوائز الأوسكار
يجلس في منتصف الصفوف رجلان لهما ملامح شرقية ويرتديان بدلا سوداء رسمية وبجوارهم سيدتان ترتديان الحجاب، حجاباً ليس محكم للنهاية وخاصةً بالنسبة للسيدة الصغيرة التي يظهر أكثر من نصف شعرها. الرجلان هما المخرج الإيراني «أصغر فارهادى» وبطل فيلمه «بايمان مادى»، والسيدتان هما بطلتا الفيلم «ليلى حاتمى» التي قامت بدور الأم، و«سرينا فارهادى» التي قامت بدور الإبنة. وجميعهم هنا من أجل فيلمهم «انفصال» والمرشح للفوز بجائزة الأوسكار الأولى في تاريخ إيران.
تصعد الممثلة الأمريكية «ساندرا بولوك» إلى خشبة المسرح وتقول: «لطالما تحدثت لنا الأفلام بلغات ولهجات مختلفة ولكنها جميعها في النهاية تتحدث عنا .. عن الإنسان»، ثم تبدأ في تقديم الأفلام المرشحة لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لهذا العام.
المخرج الإيراني وبطله وبطلته في غاية الترقب والتركيز، ولكن البطلة الصغيرة «سرينا فارهادى» تجلس مبتسمة وتتأمل ما حدث للسينما الإيرانية فى طفولتها وبداية شبابها، تتذكر كيف كسر محسن مخملباف «تابوه» ظهور المرأة على الشاشة حينما صنع فيلمه «الوقت لكي تحب» في عام 1991 وتلته في ذلك المخرجة «راكشان بنى اتماد» فى فيلمها «نرجس» فى عام 1992، تذكر بابتسامه أعرض فترة حكم «محمد خاتمى» حينما تم إطلاق حرية الإبداع أكثر وأكثر فصنعت المخرجة الإيرانية «تامينى ميلانى» فيلمها «امرأتان».
تشعر «سرينا» بالفخر وتلقي نظرة مليئة بالدموع إلى أبيها الجالس على بُعد مقعدين والذي أكمل ما صنعه كل هؤلاء وها هو الآن فيلما عن أسرة إيرانية يصل لمنصة الأوسكار. تتذكر أخيرا أنهم جميعاً الآن في تحدٍ صعب وخصوصا بعد ما حدث فى الانتخابات الرئاسية فى عام 2009، فاز أحمدي نجاد في هذه الانتخابات بفترة رئاسية جديدة وخرجت حينها مظاهرات شبابية لتعترض على ذلك، «نجاد» متشدد جدا وحاول أن يهدم كل ما فعله الإصلاحيون خلال سنوات، ولذا لم يقبل بأي معارضة. خرجت قوات مكافحة الشغب وقمعت تظاهرات الشباب بعنف غير مسبوق ومنذ ذلك الحين مر عامان من الصمت في إيران. يقطع تفكيرها صوت الإعلان عن الفيلم الفائز تتسع ابتسامتها مجددا أكثر وأكثر، تقفز من مكانها ويملأ التصفيق أرجاء القاعة.
صباح داخلي
الزمان : الاتنين 27 فبراير/شباط 2012
المكان : حجرة المعيشة في أحد بيوت طهران – إيران
الساعة الآن الخامسة وخمس وأربعون دقيقة صباحا ولكن الجميع لازال مستيقظ، الحجرة ممتلئة عن آخرها، مجموعة من الأصدقاء تتابع حفل جوائز الأوسكار. الجمهور منقسم إلى أربعة شباب و سبع فتيات، بينهم أصدقاء قدامى وأقارب وبينهم من قابلوه لأول مرة خلال تظاهرات 2009، لا نعلم الصلة بينهم جميعاً ولكن يبدو أن هناك ألفة في المكان والحماس سيد الموقف،الجميع ينتظر الآن الإعلان عن اسم الفيلم الفائز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي هذا العام.
يتكفل أحد الشباب بتصوير تلك اللحظات بواسطة كاميرته الشخصية، تتنقل الكاميرا بين وجوه الأصدقاء والصديقات، ابتسامات ودموع وترقب وبالطبع دعوات في كل مكان، يمسك كل واحداً منهم بيد الصديق المجاور له، نلاحظ أن جميع السيدات بلا حجاب. تنتقل عدسة الكاميرا فجأة إلى شاشة التليفزيون الموجود في أحد أركان الحجرة. نسمع صوت الممثلة الأمريكية ساندرا بولوك تعلن بوضوح : «والفائز هو .. «انفصال» – من إيران».
تهتز الكاميرا ويعلو التصفيق والصراخ من أرجاء الحجرة تحتضن الفتيات بعضهم البعض وتهرب العدسة لتلتقط دموع الفرح على وجه أحد الشباب. تنتقل الكاميرا مرة أخرى إلى شاشة التليفزيون، يصعد المخرج الإيراني أصغر فارهادي إلى منصة التتويج، تسلمه الممثلة الأمريكية ساندرا بولوك جائزة الأوسكار وتبارك له شفهيا دون مصافحة أو قبلات كما هو معتاد. تنتقل العدسة مرة أخرى بين وجوه الأصدقاء، ابتسامات ودموع وفرح في كل مكان، تتسرب كلمات أصغر فارهادى من على منصة الأوسكار لنسمعها في خلفية المشهد وهو يقول:
بعيدا عن هوليود
«بعيدا عن هوليود» هي سلسلة من المقالات نتناول فيها السينما العالمية غير الأمريكية، نركز فيها علي العناصر الفنية المختلفة التي تميز صناعة السينما خارج استوديوهات هوليود العملاقة، نتناول فيها حالات فنية متفردة، وتجارب إخراجية وثقافية مغايرة.