بعيدا عن هوليود: المخرج الياباني «تاكاشي ميكي»
في سبتمبر/أيلول عام ١٩٦٠ كانت شاشات العرض اليابانية تستعد بسعة صدر لاستقبال رائعة المبدع أكيرا كوروساوا «The Bad Sleep Well» أو «السيئون ينامون جيدًا». قبل ذلك بقليل كان أحد «السيئين» قد حصل على غفوته الأولى في هذه الحياة وكانت مدينة «أوساكا» ذات التاريخ العريق على موعد مع استقبال علامة من علاماتها البارزة، لكن هذه المرة لم تكن قصرًا عملاقًا، أو نصبًا تذكاريًا ومحارب ساموراي من زمن غابر، بل مولودًا صغيرًا سيثير الجدل ويحدث ضجة كبيرة بأعماله الفنية سواء على المستوى المحلي أو العالمي عبر أسلوبه الغريب، وفنه الصادم والعنيف. إنه المخرج الياباني «تاكاشي ميكي» Takashi Mike.
التسعينيات بين «الإنمي» و«الفيديو»
تبدأ رحلتنا في حقبة التسعينيات، التي شهدت عددًا من التقلبات والتغيرات المهمة على مستوى الساحة الفنية اليابانية. فمع مجئ التسعينيات كان جيل العظماء من مخرجي الخمسينيات والستينيات «أكيرا كوروساوا»، و«ماساكي كوباياشي»، و«كون إيتشيكاوا» ورفاقهم، قد بدأ يخطوا خطواته الأخيرة في عالم الفن. فما بين الموت والاعتزال والاستمرار بنشاط ووهج أقل من الماضي، كانت تلك هي الظروف والحالة المسيطرة على هذا الجيل أو ما تبقى منه.
وكذلك الحال مع الجيل اللاحق من رواد الموجة الجديدة وزملائهم أمثال «سيجون سوزكي»، و«ناجيزا أوشيما»، و«كانيتو شيندو»، و«شوهي إيمامورا» ورفاقهم الذين شح إنتاجهم الفني في هذه الفترة مقارنة بالماضي. في نفس الوقت كان صعود نجم صناعة الرسوم المتحركة «Anime»، وذياع صيتها في جميع أنحاء العالم، ظاهرة لفتت أنظار الجميع، فقد تحول الأنمي من فن موجه للأطفال إلى ثقافة شعبية ينتمي إليها الملايين من مختلف الفئات العمرية في جميع أنحاء العالم. «هاياو ميازاكي»، و«إيساو تاكاهاتا»، و«كاتسوهيرو اوتومو»، و«ساتوشي كون»، و«هيداكي أنو» من أبرز مخرجي الأنمي في هذة الفترة والذين ساهموا بشكل كبير في الطفرة التي حدثت لتلك الصناعة منذ نهاية الثمانينات.
في المقابل يعد صعود ظاهرة «الفيديو»، والإنتاج لصالح الفيديو، من أكثر ظواهر التسعينيات تأثيرًا على الساحة الفنية اليابانية، فظهور الفكرة في الثمانينيات أدى إلى اهتزاز عرش سينما المافيا أو «الياكوزا» التي كانت قد سيطرت على السوق اليابانية لفترة طويلة وبشكل واسع النطاق. شرائط الڤيديو التي كانت أداة لانتشار الثقافة السينمائية بشكل أوسع من الماضي وبين أوساط جديدة لم تستطع دور العرض التواصل معاها فيما مضى، وكانت أيضًا منفذًا جديدًا لبعض صناع السينما الذين قرروا الفرار من الصناعة التقليدية بتعقيداتها ومشاكلها، والولوج عبر نافذة جديدة لتقديم فن السينما الذي قد لا ينجح في الوصول لشاشات العرض الكبرى.
اتجه العديد من المنتجين إلى فكرة «الإنتاج لصالح الڤيديو» وهي تعني إنتاج أفلام لا تقدم على شاشات العرض ولا تنافس في شباك التذاكر بل أفلام تطرح على شرائط الڤيديو مباشرة. وقد أعطى ذلك فرصة كبرى للأفلام رخصية التكلفة والأفلام ذات المحتوى المرفوض أو المثير للجدل للوصول لعدد كبير من الجمهور دون الحاجة إلى العرض في دور السينما، وتعد من الأسباب الأساسية لبزوغ هذه الظاهرة مشكلة التوزيع على دور العرض وتكلفته التي ترهق بعض صناع الأفلام ماديًا، كذلك تفادي الخسائر الفادحة لبعض الأفلام فقيرة الإنتاج التي قد تُمنى بالفشل الذريع في صالات العرض والمحتوى المفروض والمثير للجدل لبعض الأفلام الذي يجعل عرضها في صالات السينما أمرًا صعبًا.
كانت صناعة الڤيديو هي الباب الذي طرقه «تاكاشي ميكي» كي يلج منه إلى عالم «الفن السابع». تاكاشي هو ابن لأسرة فقيرة كورية الأصل متخرج من مدرسة يوكوهاما للسينما، والتي كانت تحت إشراف المخرج الكبير «شوهي إيمامورا» والذي عمل تاكاشي كمساعد له في العديد من أفلامه مثل «Black Rain»، و«Zegen» قبل أن يسلك طريقه الخاص ويبدأ في إخراج أول أعماله في عالم الفيديو «Toppuu» عام ١٩٩١،ثم فيلم «Last Run» عام ١٩٩٢ وكان أول تجاربه في مجال الأفلام التلفزيونية، لتأتي الانطلاقة الأقوى عام ١٩٩٥ حينما أخرج أولى تجاربه السينمائية «Shinjuku Triad Society» خارج نطاق الڤيديو والتلفاز منطلقًا نحو عالم صالات العرض السينمائية بكل قوة، ولتتوالى بعدها أعماله السنيمائية وتنهمر كالمطر معلنة ميلاد مبدع جديد من نوع خاص تثير سيرته الجدل أينما حل.
بصمة «تاكاشي» السينمائية المميزة
تاكاشي ميكي
تاكاشي الذي بحلول عام ٢٠١٧ يكون قد تجاوز مجموع أعماله المائة عمل، يعد حالة فنية خاصة. ودائما ما أثارت بصمته الفنية اللغط والجدل حوله وحول أعماله. فهو يعتمد في معظم أعماله على مجموعة ملامح تميز أسلوبه مثل؛ العنف المفرط، الدموية، المحتوى الجنسي الصادم، السادية، الشخصيات المريبة والمضطربة نفسيًا، الغموض، كل هذه الملامح وغيرها هي التي جعلته محط أنظار الجميع سواء على المستوى النقدي أو الجماهيري.
تنوعت أعمال ميكي من حيث الأسلوب والنوع، سيطرت أفلام عصابات الياكوزا على النسبة الأكبر من أعماله، تلاها أفلام الرعب والغموض ثم أفلام الخيال العلمي والأفلام المقتبسة عن المجلات المصورة، كما أنه أخرج العديد من الأفلام ذات الطابع السريالي وبعض الأفلام الدرامية والأفلام العائلية، وأعاد إنتاج بعض روائع التراث السينمائي الياباني، فهو لم يلتزم بنمط معين بل تنوع في أسلوبه والمحتوى الذي يقدمه.
على الرغم مما قد يراه البعض من فجاجة في المحتوى الذي يقدمه «تاكاشي» في معظم أعماله وأنه مخرج أقرب إلى اللون التجاري الرخيص، إلا أنه يتمتع بلمسات فنية مميزة على مستوى الإخراج، تظهر في حركة الكاميرا، واختيار أماكن التصوير، والإضاءة وغيرها من اللمسات التي جعلته محط اهتمام كبير من قبل النقاد وضيفًا دائمًا على المهرجانات الفنية والمحافل الدولية، كما حدث عام ٢٠٠٣ عندما حل فيلمه «Gozu» ضيفًا على مهرجان «كان» الدولي.
ميكي الذي اقتبس العديد من أعماله من المجلات المصورة والروايات، لا يلتزم عادة بما بين يديه من تصور لكاتب أو رسام، بل يعيد تشكيل ورسم الشخصية بما يخدم فلسفته ورؤيته. والمثال الأبرز على هذا هو شخصية «كاكيهارا» من فيلم «Ichi the killer» الذي أعاد رسم هيئته وشخصيته بشكل جديد مختلف تمامًا عما كان بالمانجا.
من هذه النقطة يبزر إبداع مييك صاحب الرؤية الخاصة الذي يعشق إبراز العنف والجانب المظلم في الشخصيات وإضفاء جو من الغموض القاتل على أفلامه. انتشار كثيف للدماء في مشاهد العنف، وحركة سريعة للممثلين، وحركة كاميرا مضطربة وباعثة على القلق تخرج على الشاشة مشهد عنف يجذب انتباه المشاهد.
في المشاهد السادية والمرعبة في البداية يبرز إبداع مييك في اختيار الإضاءة التي تضفي على المشهد أجواءً مرعبة. فهي عادة تكون إضاءة خافتة ذات لون مميز «في العادة اللون الأصفر»، إلى جانب انتشار للظلال والزوايا المظلمة. يركز في تصويره لهذا النوع من المشاهد على ثلاثة عناصر مهمة توصل إحساس المشهد للمشاهد وتجعله يندمج مع الشخصيات بشكل كلي؛ وهي وجه وتعبيرات وانفعالات ممارس العنف، ووجه وتعبيرات وأنفعالات الضحية، من خلال التركيز والاقتراب بالكاميرا على أدق تفاصيل العنف والتعذيب والأدوات المستخدمة فيه.
التركيز على الوجوه والتعبيرات والانفعلات استخدمه مييك أيضًا في المشاهد الدرامية خارج نطاق العنف والغموض، فإلى جانب الهدوء تلعب زوايا الكاميرا والمؤثرات السمعية كالموسيقى المضطربة أو أصوات المطر والرعد والأجواء الهادئة، دور البطولة في خروج المشاهد بشكل يثير التأمل والتركيز في تفاصيل المشهد الحية والجامدة ويثير قلق المشاهد حول ما سيحدث من انقلاب يكسر وتيرة هذا الهدوء ويقلب موازين الأحداث رأسًا على عقب.
أهم أعماله
تاكاشي ميكي
لدى ميكي العديد من الأعمال المميزة و ذات الشعبية الواسعة والتي تعد علامات مميزة فيها مسيرته الفنية فبعضها لاقي استحسان الجمهور والنقاد على حد سواء، وبعضها وصلت شهرته إلى العالمية والمحافل السينمائية الدولية، فيما يلي نستعرض أهم هذه الأعمال.
Ichi The Killer (2001)
يعد هذا الفيلم واحدًا من أشهر أعمال تاكاشي ميكي وأكثرها عنفًا، وهو مقتبس عن سلسلة مجلات مصورة «Manga» تحمل نفس الاسم. وتدور أحداثه حول عالم عصابات «الياكوزا» الأجرامي وصراعاته العنيفة. تحاول إحدى عصابات الياكوزا كشف السر وراء الاختفاء الغامض لزعيمها وخلال رحلة البحث تحدث العديد من الملابسات والأحداث العنيفة التي تكشف الغموض عن سر اختفاء الزعيم. الفيلم إلى جانب انتمائه لنوعية الجريمة فهو فيلم نفسي كوميدي الطابع يتأرجح ما بين العنف المفرط والسخرية والأجواء النفسية المضطربة.
13 Assassins (2010)
هو إعادة إنتاج لإحدى كلاسيكيات الستينيات – تحمل نفس الاسم وهي من إنتاج عام ١٩٦٣ – والتي تنتمي لسينما الساموراي. تدور القصة حول مجموعة من الساموراي قوامها ١٣ رجلًا تخطط لاغتيال أحد الامراء معروف بطغيانة وساديته في التعامل مع الضعفاء. الفيلم يحمل أجواءً تشبه التي كانت موجودة في كلاسيكيات الساموراي مع تطور للمؤثرات والتقنيات وأسلوب المعارك وطريقة تقديم العنف.
Audition (1999)
فيلم ينتمي إلى فئة الرعب والغموض ويعد من أكثر أفلام تاكاشي شعبية وشهرة. تدور الأحداث في إطار غامض حول رجل أرمل يبحث عن شريكة حياة بعد موت زوجته. بمساعدة أحد الأصدقاء يقوم بعمل مسابقة وهمية لاختيار بطلة لأحد البرامج التلفزيونية ليختار من بين المتقدمات شريكة حياة تناسبه. من بين المتقدمات تجذب راقصة بالية سابقة أنظار الرجل ويبدأ في التعرف عليها والتقرب منها لتتوالى الأحداث ويبدأ في كشف الغموض حول ماضيها المبهم والمجهول.
Gozu (2003)
فيلم ينتمي إلى فئة الغموض ويدور حول رحلة فانتازية يقوم بها أحد أفراد الياكوزا بحثًا عن رفيقه الذي فقده في ظروف غامضة. وخلال الرحلة تحدث له العديد من الحوادث الغريبة والغامضة ويلتقي بعدد من الشخصيات المريبة التي تساعده في الوصول إلى رفيقه والتأكد من إن كان حيًا أو ميتًا. يذكر أن هذا الفيلم طرح في سوق الفيديو في البداية ولم يعرض في صالات العرض ليعرض فيما بعد ضمن فاعليات مهرجان «كان» لنفس العام.
بعيدا عن هوليود
«بعيدا عن هوليود» هي سلسلة من المقالات نتناول فيها السينما العالمية غير الأمريكية، نركز فيها على العناصر الفنية المختلفة التي تميز صناعة السينما خارج استوديوهات هوليود العملاقة، نتناول فيها حالات فنية متفردة، وتجارب إخراجية وثقافية مغايرة.