«مبدأ الألفة»: قراءة في علم النفس الاجتماعي
هناك سؤال يطرحه الكثيرون: لماذا من الممكن أن نحب شيئاً ما، أو شخصاً ما؟ ولماذا يمكن أن يكون حبنا للأشخاص أو الأشياء والظواهر متعلق بسلوك عنيف عكس السلوكيات الرومانسية الأخرى؟
يُعد «مبدأ الألفة»، وتأثير التعرّض، أحد أهم اهتمامات علم النفس الاجتماعي، ومنظرين سيكولوجية الألفة والجذب والاحترام والطاعة، والتي تفسر لماذا يمكن أن يتأثر الناس بأشخاص أو بأشياء بعينها، ومن ثَمَّ يصبحون مطيعين لما يتأثرون به.
يرى مُنظرو علم النفس الاجتماعي أنه كلما زاد تعرض الأشخاص إلى أشياء معينة، زادت درجة تعلق الأشخاص بهذه الأشياء. وهذا يعنى أن الأشخاص يميلون إلى تفضيل أشياء بعينها لمجرد أنهم على دراية بهذه الأشياء.
في دراسة أجريت في مؤسسة تعليمية توضح مدى ألفة البشر لما يتعرضون له بشكل مجرد ومستمر. أجريت الدراسة على طلاب في فصل دراسي، حيث يتعرض الطلاب إلى معلمين لعدد مرات، وبأشكال مختلفة، فقد تواجد في الفصل الدراسي ثلاثة معلمين في أوقات مختلفة، تواجد أحدهم لعدد 5 مرات (5 حصص دراسية)، والثاني لمدة 10 مرات، والثالث لعدد 15 مرة. وخلصت الدراسة إلى أن المعلم الذي تواجد في الفصل الدراسي لعدد مرات أكثر (أي 15 مرة) كان أكثر المعلمين الذين وجدوا أنفسهم محبوبين ومألوفين بين طلاب الفصل الدراسي. وهنا يمكننا تفسير ألفة المعلم بقدر تعرض الطلاب له. وكلما زاد التفاعل ممتزجاً مع التعرض الفيزيائي والبصري والكلامي، زادت درجة الألفة.
التعرّض وعلاقته بالتفاعل
وهنا التأثر (التعرض) يمكن أن يُطبق بشكل تفاعلي أو غير تفاعلي. والتعرض الغير تفاعلي تتجلى صوره عند تعرض الأشخاص لصور أشخاص، أو رؤية أشخاص، أو سماع صوتهم، أو السماع بشكل متكرر ومستمر عنهم وعمّا يمارسونه في حياتهم اليومية، أو التعرض لكلمات وأسماء معينة تزيد من فضول سامعيها ومدى تعلقهم بها، أو التعرض لألوان، وصوتيات لا تتفاعل مع المُتعرض بشكل مباشر، ولكنها تؤثر عليه وعلى سلوكياته الفردية، وتؤثر على من حوله في المستقبل القريب والبعيد.
من الناحية الأخرى، التعرض التفاعلي يظهر من خلال التفاعل المباشر مع الأشياء، والأشخاص، والجزئيات، والكلمات، والرموز، والممارسات المختلفة. فمثلاً، عند العودة إلى تجربة «الفصل الدراسي»، فالتعرض التفاعلي، تجلّت صورته عندما تحدث المعلم مع الطلاب وعلّق على بعض الصور والألوان والجوانب العلمية التي تخص الطلاب وناقشها معهم طوال فترة وجوده، فيما إن «التعرض اللا تفاعلي»، كان ذاك التعرض الذي تأثر به الطلاب عن طريق رؤيتهم للمعلم داخل الفصل بشكل متكرر.
وهناك دراسات عديدة أجريت لتوضيح مدى قدرتنا على الاستجابة لرغبات الآخرين، وطاعتهم، وتقديم العون لهم، مثل التجربة التي أجريت على مشاركين يسألهم شخص غريب للقيام بتقديم مساعدة فيرفض ما يقارب 75% من المشاركين، وعندما يأتي شخص آخر ويقيم لبضع دقائق في نفس مكان التجربة، ومن ثَمَّ يقوم بطلب مساعدة، فيستجيب قدر أكبر من المشاركين، تصل إلى أكثر من النصف، وعندما يقيم في نفس المكان لفترة أطول، تزداد درجة الطاعة، وعندما يتفاعل كلامياً تزداد بشدة.
إذن فتقديم المساعدات وتلبية الأوامر وطاعة الأفراد تتأثر إما سلباً أو إيجاباً بشكل التأثر، والتعرض المباشر والغير مباشر. ولذلك، فإننا نميل إلى تقديم المساعدة والطاعة إلى الأشخاص الأكثر تعرضاً لهم، بشكل تفاعلي أو غير تفاعلي، بوعي أو لا وعي.
فمثلاً، تجد الابن يقول «نعم» بدرجة أكبر لأبويه لكونه مُتعرضاً لهم باستمرار، هذا من الممكن أن يُفسر بشكل براغماتي وسلطوي ورمزي، أو منفعي، أو قيمي، ولكن منظري علم نفس التأثير، يرون أن التعرض المتكرر لهم (الأبوين) هو ما يدفعنا لطاعتهم، ونفس الحال عند الأقرباء، والأصدقاء المقربين الذين تزداد ألفتنا لهم لكوننا نراهم ونتفاعل معهم باستمرار.
فيما إن غير المقربين تقل درجة حبنا لهم، لكوننا نتعرض لهم بدرجة أقل، وتنعدم درجة طاعتنا وحبنا للأشياء، وتزداد درجة نفورنا من الأشخاص والجزئيات والرموز التي نجهلها تماماً. ومن هنا نستطيع أن نقول إنه: «يحب الناس ما يألفونه ويتعرّضون له، فيما تقل درجة حبهم للأشياء بقدر ابتعادهم عنها»، و«يحب الناس ما هم على دراية به»، وهذا أيضاً تُفسَر المقولة الشهيرة: «الإنسان عدو ما يجهل»، وهنا «الجهل» طبقاً لمنظري علم النفس الاجتماعي، هو عدم الدراية بالشيء، وعدم التعرّض له بشكل فيزيائي أو نفسي، وليس فقط الجهل المعلوماتي والمعرفي.
التطبيع الاجتماعي
وكما أن أُلفة الأشياء تجعل منا بشراً يتأثرون بمن حولهم إيجاباً بقدر تعرضهم للأطر والأخلاقيات المحيطة بهم، مثل الطاعة والحب وتقديم العون للآخرين، فإن التعرض المستمر يمكن أن يعمل على «تطبيع» أخلاق، وإنتاج أعراف وقيم، يُشكل من خلالها «الإطار المجتمعي»، وتشكّل البنية المجتمعية بشكل عفوي في بعض الأحيان أو ممنهج في أحيان أخرى، فقط لكوننا ألفنا جزئيات وأخلاق معينة تكررت أمامنا باستمرار، ومن ثَمَّ أصبحت هي من تقود احتياجاتنا، ورغباتنا، وتفاعلاتنا مع بعضنا البعض.
وعند الحديث عن نقطة «التطبيع»، فمثلاً تجد معدلات الجرائم تزداد كلما زاد عرضها على شاشات التلفاز، وتجد نسبة المُقدمين على الانتحار تزداد زاد تسليط الضوء على حالات الانتحار في نشرات الأخبار والميديا المحلية والعالمية. وكلما زاد عرض مواد تحمل لقطات عنيفة، زادت نسبة تعودنا على العنف بل وحبنا له، وحينها يصبح العنف طبيعياً، لأننا تعرضنا له بشكل كبير. إذن، فالميديا، تعد أحد المواد المهمة التي تتجلى بها العلاقة السببية التي تربط «المتكرر» مع «درجة الألفة» ومدى قدرة استمرار التعرّض على خلق مجرمين، أو رومانسيين.
والتعرّض، يولد تأثر، ومن ثَمَّ تأثير. فالعملية لا تقف فقط عند عملية تعرض الأشخاص، ولكنها تتطور إلى أن يتأثر «السلوك الفردي» بها، ويطبعها في سلوكياته البشرية، ومن ثَمَّ يؤثر بها على الآخرين، وشبكاته التفاعلية، وعلى ثقافته المجتمعية الجماعية أو الفردية التي ينتمي إليها.
لذلك، هناك درجات من التأثير، وهناك درجات من الألفة وحب الأشياء.
سياقات وعوامل مؤثرة أخرى
بالإضافة إلى اختلاف درجة ألفة الأشياء بكثرة تكرارها، أو التعرض لها بوعي، أو لا وعي، هناك عوامل أخرى مثل الفئات العمرية، والظروف الاجتماعية، والمزاجات النفسية، والسياقات السياسية، والظروف الاقتصادية المختلفة. لذلك، هناك ضوابط سياقية من الدرجة الأولى تتحكم في عملية تأثير التعرض، وتأثير الألفة.
بعبارة أخرى، ليس كل من يرى، أو يسمع، أو يتأثر، أو يتفاعل مع أشياء، وأشخاص، وظواهر، يألفها، فليس كل ما يُكرر، يُؤلَف، وليس كل المتأثرين يألفون ما يتأثروا به، بل ومن الممكن أنهم لا يتأثرون به أصلاً.
إذا نظرنا إلى العوامل التي تتأثر، فمثلاً عامل العُمر، يرى منظرو علم النفس الاجتماعي أن الأطفال لا يميلون إلى ألفة الأشياء التي تتكرر كثيراً أمام أعينهم، في حين أنهم يميلون إلى تنوع المصادر والتعرض لأنشطة، وأصوات، وألوان، وجزئيات جديدة. على الناحية الأخرى، تميل المراحل المتوسطة وما قبل الـ 60 من العمر في ألفة الأشياء التي يتعرضون لها بشكل متكرر.
وإذا نظرنا إلى السياق. فمثلًا السياق السياسي الذي يُقيّد هذه الظاهرة، فإننا نجد أنه هناك عدة عوامل وضوابط منفعية وأخلاقية تضبط عملية التأثر. ولذلك، يميل الناس إلى حب الممثلين والبرلمانيين محل الثقة، أو أصحاب البرامج والممارسات الخدمية الذين يتم انتخابهم أو تتكرر أسماؤهم على الساحة السياسية. فيما تختلف درجة ألفة السياسيين عن العوام، فتعرُّض السياسيين لسياسيين مثلهم، من الممكن أن تكون مخرجاته عكس ما ينتج عن تأثر الجماهير بسياسيين أو ممثليهم في المجالس النيابية.
بعبارة أخرى، تفاعلات السياسيين مع بعضهم البعض تحتمل علاقات تنافسية أو تعاونية لذلك تعرّضهم لبعضهما البعض من الممكن أن ينتج عنه علاقات أخلاقية وصحية، أو علاقات كراهية بعيدة عن الألفة. في حين أن الجماهير، تتأثر بمعطيات السياسة والفاعلين عليها بشكل مغاير تماماً، فنجد الثقة والخدمة والتقدمات في ملفات تخص العوام (مثل برامج الخدمات والنفقات الاجتماعية) ويلامسها غيرهم، هي الضابط لحب المألوف، أو للولاء إلى ما يتعرضون إليه بشكل مباشر أو غير مباشر.
وإذا نظرنا إلى السياق النفسي الاجتماعي، فهنا يرتبط سلوك الأفراد (البشرى) بطبيعة حالتهم النفسية والاجتماعية، فترى الناس يميلون إلى حب الأشياء التي يتعرضون لها في مراحل السعادة وتحقيق الذات، ومن ثَمَّ يقومون باحترام هذه الأشياء ويتفاعلون بود مع المجتمع وهيكله ومؤسساته الأولية والمعقدة ووظائفه ورموزه. في حين إن لحظات التعاسة وفقدان الثقة في النفس لا تجعل من المُكرر محبوباً، لأن السلوك الفردي وبنيوية الأشخاص لا تسمح بالتأثر إيجابياً بهذا التأثير.
ولذلك، فإن السياق (الظرف)، ممتزجاً بالعناصر التفاعلية الأخرى يعد أهم ما يتحكم في درجة الألفة.
فرضيات تفسيرية
وهنا يقفز سؤال مهم: لماذا نألف ما نتعرض له باستمرار؟ ما الذي يفسر حب الناس لما يتكرر أمامهم؟
يفسر علماء النفس السلوكي، أن سلوك الأفراد يرتبط ارتباطا كبيراً بإطارات وهياكل بنيوية مجتمعية وفردية وشبكية، هدفها هو الحفاظ على «أرضية متشابهة» من الأفعال والسلوك والأخلاق مع الآخرين. يرى هذا المعسكر الاجتماعي إن التفاعل والتعرض المستمر يُنشِئ نوعاً من «التشابه» وهذا التشابه يلعب دوراً مهماً في عملية ألفة الناس لبعضهم البعض، وهذه الألفة تُنشِئ روابط تجمع بين الأُطر والأخلاق والسلوك. ولذلك، تعمل هذه العملية على الحد من الفراغ العلاقاتي والرمزي بين أفراد المجتمعات، فيما تتصاعد التفاعلات ودرجة الألفة والمساحات المشتركة والحد من الأحكام المسبقة.
ولذلك، نرى أن محور الحديث عن الألفة ومنحنى صعودها وهبوطها، يرتبط ارتباطا كبيراً بـ «الآخرين»، وسلوكياتهم، ولا سيما المتشابهين معنا منهم، لأننا نميل إلى حب الناس المماثلين لنا، و«الطيور على أشكالها تقع» كما يُقال، فلا يمكن أن نألف الأشياء ونطبعها في حالة من العزلة ولكن التفاعل مع الآخرين الذي ينتج عنه اندماجاً أو إقصاءً هو حالة حتمية.
وعلى نفس النمط، ترى مدرسة «التنشئة الاجتماعية» أن التفاعل مع المحيط والعناصر الخارجية هي مركزية تكوين السلوك والشخصية الاجتماعية المتمثلة في كون الإنسان حيوان اجتماعي. بالإضافة إلى أن السلوك قابل للتغيير كما تشير المدرسة السلوكية، وقابل للتطور والتكيف مع البيئة الخارجية للبقاء على قيد الحياة كما تشير المدرسة التطورية النفسية.
إذن، فالألفة لا يمكن أن تظهر إلى النور بدون تفاعل مع عنصر خارجي، حتى وإن كان العنصر الخارجي غير تفاعلي، فهذا لا يقوى من أواصر الألفة، ولكنه يعمل على تحقيق أرضية تفاعلية متشابهة ومستقرة بين الأفراد. وهذا لا يتفق مع ما تشير إليه مدرسة الطبيعة الوراثية، التي ترى أن الحب والكره، والصفات، والأخلاق، والسلوكيات يتم تشكيلها والتحكم بها جينياً وبيولوجياً لا اجتماعياً.
الخلاصة
تختلف التفسيرات حول لماذا يألف الناس الأشياء، والأشخاص. واختلفت العلوم الإنسانية حول تبني تفسير محدد وواضح يجمع علماء الاجتماع، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي.
ويمكننا القول إننا نألف ما نتعرض له، وهذا لأن التعرّض ينتج تشابهات وإطارات تفاعلية بيننا وبين ما نتعرّض له، ومن ثَمَّ التمسك بهذه التشابهات وتعزيزها في إطارات جماعية وفردية، فيما يكون التحدي الأكبر هو حماية الألفة والقتال على ما ألفناه، وهذا هو دور المؤسسات والإطارات الاجتماعية، بالتفاعل مع الإرادة الحرة والعوامل الخارجية، ودور الفاعلين في عملية «التنشئة الاجتماعية»، وبلورة السلوك البشرى في كل مراحل الحياة، حتى نحافظ على نسخنا الإيجابية بعيداً عن سلوكيات الكراهية والعنف.