الإنسانية الكاذبة
هي تلك الإنسانية التي تقفزُ فجأةً إلى ضميرِ البعضِ عند مقتلِ (أحدِهم). فيعلو صوتُ العويلِ و يُسمعُ شقُّ الجيوبِ على بُعدِ أميالٍ و أما صراخهم فيا غارةَ الله … صراخٌ يصمُّ الآذان.
تسطرُ أقلامهم آلافَ المقالاتِ بعدَ سُباتٍ طويلٍ و تُشحذُ أفكارهُم و ألسنتهم السليطةُ بالسب و الشتم و اللعن على مقتلِ (مفكرٍ) كما يُسمونه. تستيقظُ إنسانيتهمُ النائمةٌ لتنعي فذاً بينما تغطُّ في نومٍ عميقٍ عندما يُقتلُ شعبٌ و تُغتالُ أمةٌ.
تظهرُ إنسانيتهمُ الفجةُ في سبِّ المعتقدِ و الدينِ الذي يدينُ به جلُّ الناسِ من بني جلدتهم عندما يُغتالُ فردٌ منهم، بينما تغيبُ تلك الإنسانيةُ ذاتها عندما يُحكمُ على مئاتٍ بل آلافٍ من البشرِ لا لذنبٍ إلا لأنهم حلموا يومًا ببناءِ وطنٍ يتسعُ للجميع.
تتراءى إنسانيتهم المزعومةُ للعيانِ عاريةً داعرةً تركبها كلَّ فكرةٍ خبيثةٍ عند فقدِ فردٍ أشبعَ الناسَ سبابًا و شتمًا. على فقد فردٍ متطرفٍ في آرائِه و نزعاتِه اغتالهُ متطرفٌ مثله و لكن من الجهةِ الأخرى. و يُنكرون على غيرهم عندما يُظهرون إنسانيتهم الشريفة. الإنسانيةُ التي ترثي لحال الأطفالِ و النساءِ المتضرجين بدمائهم الذينَ طبَّ عليهم سقفُ منزِلِهِم فلم يرحم أجسادهم الغضة و لم يحفظ حرمتها بل نثرها أشلاءً لملائكةٍ صغار.
إنسانيةُ أولئك القومِ إنسانيةٌ خادعةٌ، متلونةٌ، خبيثةٌ لا يُمكنُ إلا أن تسكنَ عقلًا مختلًا و نفسًا مريضةً و روحاً أشبعها الشيطانُ مساً.
إنسانيةٌ استعلائيةٌ عنصريةٌ لا يحملُها إلا برابرةٌ يدَّعونَ التحضر و التمدُّن زورًا و بهتانًا. إنسانيةٌ لا تمتُّ إلى (الإنسانيةِ) بصلةٍ إلا بالجناسِ اللفظيِّ و الرسم الشكليِّ و أما المعنى فيا ليت شعري فمغيبٌ تحتَ حجابٍ سميكٍ من الكبرِ و العجبِ و الاستعلاء و الحقدِ على (الآخرِ الأكثرِ) و عقدةٌ مستحكمةٌ بل عقدٌ من نكرانِ الذات.
هي لعوبٌ و ماكرةٌ هي. تحاولُ أن تفتنَ الناسَ برقةٍ مصطنعةٍ و دمعاتٍ مغتصبةٍ، تُحاول أن تُزينَ وجهَ القُبحِ و أن تسحرَ أعينَ الناس. لكن الفطن لا يُؤخذُ برقيق كلماتها و عذوبةِ صوتها, إذ أنه يدرك أنَّ خلفَ ذلك الوجهِ الفتان نفساً خبيثةً و أنَّ وراءَ الكلم المعسولِ سُمَّاً و يختبئُ خلف حُسنِ الوجه لسانٌ على الناسِ مسلول.
إنسانيتُهم، أي سادتي، دعيةٌ يرتدونَها في مناسباتٍ قليلةٍ لا تليقُ إلا بهم و بزيفِ أفكارهِم. هيَ حفلٌ تنكريٌ يقيمونَهُ كلَّ ما دعتِ الحاجةُ ليوهِموا الناسَ أنَّهم صفوةُ الخلقِ و عيالُ الربِّ. إنسانيةٌ سقيمةٌ عليلةٌ لا تعيشُ طويلاً فغالبًا ما يَخلعُها أصحابُها المتنكرون بعد هنيهةٍ قصيرةٍ ليضعوها على الرفِّ و ليباشروا مع أسيادهِم شُربَ الدماء الزكيةِ وليظهروا على الشاشاتِ، وبكلِ ساديةٍ، ليُقهقِهوا عاليًا فرحًا بانتصارِهم على الشعبِ الأعزلِ الذي نصبوا أنفسهم أوصياءَ عليهِ. فإمَّا أن يسير على معوجِّ نهجهم و إلاَّ فله الثبورُ و الويل.
تُقابلُ إنسانيتهم المنكوسةُ الزائفةُ الأقلويةُ المصطنعةُ إنسانيةُ ذلكَ الآخرِ. إنسانيةٌ فطريةٌ جُبِلَ عليها ذلك (الأكثرُ الآخرُ). ذلكَ العموميُ الذي يناقُضُ فِئوِيَتَهُم، ذلك البسيطُ الذي لا يحملُ عقدهم. ذلك (الإنسانُ) الذي يناقُضُ توحشهم.
إنسانيةٌ تنعي كلَّ روحٍ مزهقةٍ. تنعي كل طفلٍ و امرأةٍ غافلهم الموت فُجاءةً و لم يترك لهم الفسحةَ ليُتموا إفطارهم. إنسانيةٌ ترثي لحالِ كلِ مشردٍ لا يرحمه السبيل و لا ترد عنه الخيمةُ بردَ الشتاءِ و لا قيظَ الصيف.
إنسانيةٌ تحرك في نفوسِ أصحابها نوازِعَ الألمِ أولئك الذين يتمنون لو يقطعوا من أجسادهم لحماً يطعموه الصغار الضامرين في كل زاويةٍ من هذا الكوكب الذي عُمِرَ بالجنون.
إنسانيةٌ لا تعرفُ فروقَ الألوانِ و تفرقَ الأديانِ. تحزنُ لفقدِ الروحِ أينما زُهِقت. إنسانيةٌ استقاها المؤمنون من وحي الإله و وجدها بعض اللامؤمنين غائرةً في سحيقِ أعماقِ الروحِ بقيةَ الفطرةِ الأولى. و فقدها كلُّ أقلويي العرب.