فيلم «جنة الشياطين»: سينما الاحتفاء بالموت
الفيلم الثاني في مسيرة الراحل «أسامة فوزي» بعد عفاريت الأسفلت بخمسة أعوام، يحكي فيه قصة «منير رسمي» الموظف الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى، يعد نموذجًا للموظف المجتهد الذي يعيش حياة تقليدية، لكنه بين ليلة وضحاها يهجر حياته وأسرته إلى الأبد، ويقرر بإرادته الحرة أن يصبح طبل ويعيش حياة عابثة في العالم السفلي بين المقاهي والغرز والقمار وشرب الخمر. عادل ونُنه وبوسي والعاهرتان حُبة وشوقية هم عائلته الجديدة، يموت «طبل» ويذهب أصدقاؤه ليعيدوا جثته إلى عائلته، قبل أن يقرروا خطف الجثة وقضاء رحلة أخيرة مع صديقهم الراحل.
بعد تعاونهم معًا في عفاريت الأسفلت، عرض «أسامة فوزي» سيناريو الفيلم على «محمود حميدة»، قرر حينها «محمود حميدة» أن يقوم بإنتاج الفيلم، خاصة بعد مشاكل الإنتاج التي واجهتهم في عفاريت الأسفلت، وقرر أيضًا أن يقوم بدور البطولة، رفقة مجموعة من الوجوه الصاعدة آنذاك، عمرو واكد وسري النجار وخالد صالح. وذكر «محمود حميدة» أنه خسر ما يقرب من مليوني جنيه بسبب إنتاج الفيلم، كما قام بكسر اثنتين من أسنانه لتأدية الدور.
البداية هنا مع اسم الفيلم، جنة الشياطين، الجنة هي حياة الأصدقاء التي نراها، وربما تبدو مثالية جدًّا ومرغوب فيها، حياة مليئة بالحرية والابتعاد عن المجتمع المتزمت حبيس التقاليد والعادات التي تجاوزها الزمن، والشياطين هم الأصدقاء الثلاثة معهم فتاتا الليل.
تأتي الشيطنة هنا طفولية أو حسية، تفسيرها أقرب إلى النظرة الوجودية، (الشقاوة) بلفظ أكثر دقة، الأصدقاء الثلاثة مندفعون، مشاكلهم تبدأ وتنتهي بسرعة وبلا خسائر، يقضون وقتهم في اللهو وشرب الخمر ولعب القمار.
النص الذي كتبه «مصطفى ذكري» والمستوحى من رواية «الرجل الذي مات مرتين» لكاتبها «جورج أمادو»، شديد الانغلاق والتمحور حول ذاته، متوحد الأسلوب ولا يحتمل تفسيرات إلا بمنطق الفيلم، وكذلك لغة الشخصيات متجانسة ومتوافقة مع أفعالها ونظرتها للحياة، هذه الوحدة الأسلوبية تنطبق على الحالة الشعورية، أجواء الفيلم منذ بدايته وطوال مدة العرض أجواء مقبضة وقاتمة، الإضاءة منخفضة الحدة واللقطات القريبة لوجه جثة طبل ولوجوه الشخصيات الأخرى التي تزيد من الشعور بالحصار، خاصة مشاهد السيارة، الشخصيات محاصرة داخل واقعها السحري والمشاهد محاصر معهم، ويزيد من هذا موسيقى «فتحي سلامة» في ثاني تجاربه في تأليف الموسيقى للأفلام.
لا يتعرض الفيلم إلى الحياة السابقة لطبل، لا نعرف عنها أي شيء إلا من خلال رؤيتنا لأفراد أسرته التي هجرها، لا نعرف له دافعًا ولا أسبابًا لسلوكه، وكأن طبل هو الموت بذاته. وتبدو شخصية طبل مستقاة من روايات نجيب محفوظ في مرحلته الذهنية، الشخصيات التي تهرب من بيئتها محاولة أن تجد معنى لحياتها، مثل عمر الحمزاوي في الشحاذ.
عود أبدي
يمكن القول إن الفيلم يعيد تدوير فلسفة نيتشه، يظهر طبل طوال مدة الفيلم جثة هامدة، لكنه لم يمت في نفوس محبيه ومريديه، هم يكررون حكاياته ويجعلونها حية إلى ما لا نهاية.
كذلك الحادثة التي فقد فيها أسنانه وقام بتركيب أسنان ذهبية بدلًا منها، وبعد وفاته وسرقة أصدقائه الشياطين للأسنان الذهبية توصي ابنته طبيب الأسنان بتركيب أسنان بديلة، في محاولة منها لاستعادة ما تبقى من والدها، لكنه يفقدها مرة أخرى، وكأن كل الحكايات لا تنتهي، حتى حبيبته فتاة الليل حبة التي تحكي له حكاية طويلة وتقرر أنها ستتوقف عن ملاقاة الزبائن لمدة أسبوع حدادًا على روحه تعود في قرارها لأنها اشتاقت للأموال.
الشخصية الوحيدة التي تتحول دراميًّا في الفيلم هي شخصية ابنته «سلوى»، بعد تقززها من والدها ووصمها له بالجنون، إلا أنها ترفض الإبلاغ عن اختطاف جثته وتدافع عن أصدقاء طبل “هتقولهم ايه؟ واحد خرج مع صحابه”، وكذلك ترفض أن تُدفن في الصندوق كأنها أصيبت بمس من والدها وصارت خليفته وتخلت عن انتمائها للعائلة، وأصبحت طبل جديدًا وتدور الدائرة.
عالم غريب وتناقضات
منذ بداية الفيلم نرى عالمًا غريبًا، نشعر أنه خارج الأرض ولا يستدل فيه على زمن معين، تتحول القاهرة إلى مدينة أشبه بمدينة الأشباح، لا تحتوي بشرًا ولا يسير بها سيارات، باستثناء مشهد الحادث فقط، ولا يعيش فيها إلا كل ما يخص طبل، الأصدقاء والعائلة. لا يؤسس «أسامة فوزي» لهذا العالم وقواعده، لا يريد أن يجعل منه فيلمًا فانتازيًّا، وإنما يجعل عالمه أقرب للواقعية السحرية، عالم طبيعي بقواعده المعروفة لكن بتفاصيل لا تخضع لهذا العالم.
يعتمد الفيلم في البناء على التناقضات، بداية من عنوانه، ومرورًا بالأحياء الذين تسير بهم أحداث الفيلم وهم يحملون جثة، كذلك التناقض الحاد بين حياة الأصدقاء المليئة بالحرية والصعلكة وبين حياة الأسرة الملتزمة بالتقاليد.
في أول ظهور لحُبة تخبر شوقية عن أسرة طبل وتبدأ بالبكاء، ثم يبدأ المرح في التغلغل داخل الحوار حتى ينقلب إلى ضحك صاخب.
هذه التناقضات تظهر بصريًّا أيضًا وبدون جملة حوارية واحدة، في مشهد انفراد سلوى بجثة أبيها، تنظر إلى الجثة العابسة ثم تبدأ بالضحك وتخرج لسانها، وبعد ذلك تحاول الجلوس على كرسي فينكسر وتسقط على الأرض تبكي لتجد الجثة تبتسم وتحرك إصبع قدمها. كذلك طريقة الأسرة في الملابس واجتماعاتهم وطريقتهم في الحديث، المغالاة في اهتمام الأسرة بمراسم الدفن، النعي في الجريدة والسيارات الفارهة، يقابلها في الجهة الأخرى حرية تامة في التصرف من قبل الأصدقاء وكذلك احتفالهم بالجثة في الشوارع في سيارة متهالكة أبوابها جميعًا مكسورة!
في مواجهة الموت
الحياة التي يعيشها الشياطين حياة شهوانية بامتياز، لا تعرف النساء فيها إلا العمل بالدعارة، ولا يعرف فيها الرجال شيئًا إلا شرب الخمر ومداعبة النساء ولعب القمار، يتمردون على كل شيء، حتى الموت نفسه فيسرقون جثة صديقهم ويمارسون حياتهم بشكل عادي وكأنهم يضحكون في وجه الموت ويسخرون منه.
رغم كل القتامة التي تخيم على أجواء الفيلم، فإنه يقف في مواجهة الموت، يتحداه ويسخر منه، الجثة مبتسمة، تحرك أصابع قدميها وتلعق الخمر، والأصدقاء يمرحون ويضحكون حتى رفقة الجثة، وكأن طبل الذي مات خلَّد رسالته في مقاومة الموت والسخرية منه.
في نهاية الفيلم، وأثناء حمل الجثة في السيارة، تحكي حُبة لطبل عن أنه كان مختلفًا عن كل زبائنها، ما كان بينهما كان أكثر من الحب، ثم تقبل أحد أصدقائه قبلة طويلة، وتدخل السيارة في نفق مقلوب، وكأنها الجنة الحقيقية، وبالطبع، الحي أبقى من الميت.