حرب الفوكلاند: كيف تهرب الأنظمة الفاشلة إلى الأمام؟
إذا كنت قائدًا في دولة تمر بأزمة اقتصادية، وكانت سياستك الخاطئة تؤدي إلى تردي الأوضاع بشكل مستمر، والمعارضة لا تتوقف عن الصراخ مطالبةً بأشياء عبثية كالحرية والشفافية، فماذا تصنع؟
عامة الناس يقولون يجب أن يستجيب القائد لمطالب الشعب، ويتجرؤون أكثر قائلين: ما المشكلة في تغيير السياسات أو تبديل الوزراء؟ قد يصل بهم الجنون إلى حد القول بأن الدولة أكبر من القائد، وإذا كان القائد لا يستطيع إنقاذها فليرحل القائد لكي تبقى الدولة!
لكن ما يحدث أن القائد يقول لهم بكل حب: لا، الحل أن يرحل الشعب. ولأن رحيل الشعب يسلب القائد متعة لعب الشطرنج برؤوس بشرية بدلًا من القطع الخشبية، فالحل الذي توصل إليه السياسيون والعسكريون على حدٍ سواء – ليس العسكريين فقط كما أظنه تبادر إلى ذهنك – الحل هو إقامة حرب خارجية لإقناع الشعب أن هناك أمورًا أهم من شعارات الحياة الآدمية والديموقراطية والأزمة الاقتصادية.
مارجريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية المُنتخبة ديموقراطيًا،تتخذ إجراءات اقتصادية صارمة، هدفها كان تحجيم دور الدولة فأدت إلى تحجيم الدولة، انهيار اقتصادي واضح بنسبة تضخم 21% عام 1980، بعد عام واحد من توليها رئاسة الوزراء. بلغةٍ بسيطة سجل عهد ثاتشر 1.3 مليون عاطل عن العمل، والعديد من الإضرابات والتصريحات المعادية للنقابات العمالية.
الجنرال خورخي فيديلا يقضي عامه السادس في حكم الأرجنتين بعد الانقلاب على إيزابيل بيرون. فقط هناك مشكلة بسيطة، الجيش لم يستطع إدارة شئون البلاد. هنا بدأ المدنيون في التململ والتظاهر، ربما تظاهروا رفضًا للحكم العسكري كمبدأ، لكنهم قطعًا تظاهروا ضد الغلاء وحملات القمع التي لم تعد تفرق بين مؤيد ومعارض.
الحل السحري
نظامان يمران بأزمة خانقة وبينهما منذ عقود صراع كلامي وتفاوض دائر على جزر فوكلاند، الحل الآن أن يتخذ الصراع صورة عسكرية. الصراع يدور في جزر فوكلاند، جزر مساحتها 12 ألف كيلومتر وتتألف من فوكلاند الشرقية ونظيرتها الغربية وبينهما مضيق فوكلاند. أضف لهاتين الجزيرتين ما يربو على 776 جزيرة متوسطة وصغيرة الحجم.
سماها بهذا الاسم جون سترونج عام 1690 تيمنًا بسياسي أسكتلندي لقبه فيسكوند فوكلاند الخامس. لكن سترونج ليس أول من وجدها، بل الإنجليزي جون ديفيز هو من فعل عام 1592. بعد أن صار لهم اسم بمائة عام أتاها الفرنسي لويس دي بوجانفيل لينشئ أول مستعمرة في الجزر ويضعها على الخريطة الاستعمارية للدول الكبرى. لم يبال بها الفرنسيون كثيرًا، فهي لا تملك حياةً ولا نباتًا ورياحها شديدة، لذا تنازلوا عنها للإسبان نظير مبلغ مالي. بعد قدوم الفرنسي بعام استعمرها البريطانيون أيضًا.
بعد 5 سنوات من الأخوة في الاستعمار،ضاق الإسبان بشركائهم فطردوهم عام 1770. بقي الحال هادئًا، لا أحد يبالي بجزر منعزلة يسكنها 2000 فرد على الأكثر. الأرجنتين عام 1816 تعلن سيادتها على الجزر لأنها هي الوريث الشرعي للإسبان. بريطانيا تغضب لكنها تتخذ طريقًا دبلوماسيًا لاستعادة الجزر ووصلت إلى مبتغاها عام 1833. لم يذعن طرف للآخر بالسيادة طوال عقود، حتى أن الأمم المتحدة أعربت عن قلقها بعد 131 عامًا؛ أي عام 1964، ودعت الدولتين للجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل الوصول إلى حل.
مراعاةً لقلق الأمم المتحدة قررت بريطانيا بعد 16 عامًا؛ أي عام 1980، الجلوس حقًا إلى طاولة المفاوضات غير المريحة. عرضت بريطانيا موافقتها بالاعتراف بسيادة الأرجنتين على الجزر شريطة أن تتخلى الأرجنتين عنها لمدة 90 عامًا أولًا. بالطبع رفضت الأرجنتين.
الحرب
إبريل/ نيسان 1982 حدث التحول الذي قدّمنا له سابقًا. الجنرال يرسل قواته إلى الجزر لاستعادتها، وثاتشر لا تنتظر المجتمع الدولي، بل تبدأ في الرد العسكري سريعًا. سبعون يومًا فقط كانت مدة الحرب، كل هذا الاحتقان المتراكم طوال عقود استطاع الأسطول البريطاني إخماده في عشرة أسابيع.
الغلبة في البداية لسلاح الجو الأرجنتيني على قوات البحرية الملكية، لكن بصعوبة يصل البريطانيون إلى الجزر لبداية معركة ستانلي – عاصمة الجزر – في مواجهة مباشرة تغلب فيها البريطانيون. استطاع البريطانيون أسر 11313 جنديًا أرجنتينيًا، وإصابة 1086، وقتل 649 جنديًا. أما بريطانيا فقد قُتل منها فقط 258 جنديًا، وجُرح أكثر من 700.
عشرة أسابيع مدة قصيرة في تاريخ الحروب، لكن السياسيين لا يؤمنون بذلك. ثاتشر أعادت لشعبها كرامته أمام الأرجنتين. كان الإعلام البريطاني قد أقنع المواطنين أن الكرامة أهم من الغذاء، وأن الأوضاع المتردية تهون أمام حفظ بضع جزر تبعد عنهم مئات الأميال. لذا فازت ثاتشر برئاسة الوزراء للمرة الثانية عام 1983.
على الجانب الآخر فقد النظام العسكري فزّاعة العدو المُتربص بأمن البلاد واستقرارها، وفقد هيبته كنظام قمعي يحكم بالحديد والنار. فالنظام الذي يُهزم سريعًا في ميدان الحرب، الذي هو ميدانه الأساسي، لابد أن يكون ضعيفًا للغاية في ميدان الشأن المدني. لذا اضطر ركاب الدبابة الجنرال رينالدو بينون إلى الاستقالة وترك الفرصة لتعود الأرجنتين إلى رفاهية اختيار حاكمها بالانتخابات.
ثلاثة فقط
في آخر رواق بالأمم المتحدة ستجد الأرجنتين تكرر نداءها بسيادتها على الجزر، بينما في القاعة الرئيسية سترى ألا أحد يكترث بهذا النداء. لن تُكرر بريطانيا عرض التسعين عامًا السابق، فالجزر الآن أصبحت منجمًا للذهب الأسود . نبوءة قديمة نشرتها الصحف الإنجليزية بأنه من المحتمل وجود 300 مليون برميل نفط في شمال الجزيرة.
ليس الرفض البريطاني وحده هو العائق لسيادة الأرجنتين على جزر فوكلاند، بل الرفض الشعبي أيضًا.ثلاثة أصوات، فقط ثلاثة من أصل 1517 مواطنًا في 2013، هم من صوتوا على رفض البقاء تابعين لبريطانيا. بينما ترك مواطن واحد ورقته بيضاء غير مكترث، أما الـ1516 الآخرون، بنسبة 99.8%، فاختاروا البقاء على الوضع القائم حينها والمستمر حاليًا، وهو أن تبقى فوكلاند في إقليم ما وراء البحار التابع للمملكة المتحدة، وهي تتمتع بحكم ذاتي مكتمل الأركان لكن تتبع بريطانيا في مواقفها الخارجية، وتتولى بريطانيا التنسيق بينها وبين الدول الأخرى.