إنصاف الإنسان البدائي: ليفي-شترواس ضد العنجهية الحديثة
فتش عن الفلسفة. في كل فرع من فروع المعرفة، ستجد عقلا عظيمًا أسهم في هذا الفرع بشكل لافت، وستجد قصة تكوين هذا العقل تبدأ من المحطة ذاتها، من الفلسفة. ولأن الفلسفة معرفة تجريدية بالأساس، تبتعد عن الواقع المعاش، فإن بعض العقول المتفردة تتجه للانتقال إلى مناهج أكثر عملية في تحليل الواقع والمجتمع. من بين هؤلاء برز في القرن العشرين الإثنولوجي الشهير ورائد البنيوية الفرنسي «كلود ليفي شتراوس».
ربما لا تبتعد الفلسفة عن الواقع إلى هذا القدر على أي حال، فعلى الرغم من الطابع التجريدي لمقولاتها إلا أنها تتأثر كذلك بما ينتج من خارجها، وهذا ما يبرهن عليه التأثير الكبير الذي تركته أعمال شتراوس البنيوية على شكل الفلسفة ابتداءً من منتصف القرن العشرين، من فوكو وألتوسير، مرورًا بدولوز، وليس انتهاءً بدريدا الذي أقام منهجه التفكيكي على أنقاض البنيوية.
الطفرة التي أحدثها المنهج البنيوي امتدت كذلك إلى علم الاجتماع والدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات الأدبية، وكذلك دراسات علم النفس مع جان بياجيه. جدير بالذكر كذلك أن البنيوية بالأساس ابتدأت كنظرية لغوية على يد فرناندو دي سوسير، وظلت مسيطرة تمامًا حتى بلغت أوجها مع نعوم تشومسكي الذي استطاع تجاوزها بنظريته في النحو التوليدي التحويلي، ثم بدأت النظرية في التلاشي لتخلفها التفكيكية في بدايات السبعينات.
من الأمازون إلى الأكاديمية
ولد كلود ليفي شتراوس في بروكسل في العام 1908م، بدأ تكوينه الفكري والعلمي بدراسة الفلسفة ثم سافر إلى البرازيل لدراسة علم الإجتماع. هناك ساعدته مناهج الأنثروبولوجيين الأمريكيين على التحرر من المركزية الأوروبية فتعرف على أعمال بواسو وكروبر ولووي.
عاد إلى فرنسا للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، وبعد احتلالها من قبل النازيين سافر إلى نيويورك وعمل في التدريس، ثم عاد إلى فرنسا عام 1948 ونشر كتابه الذي برز كأحد أهم الأعمال المعرفية شهرة في القرن العشرين، وهو كتاب «البنيات الأولية للقرابة».
استلهم شتراوس أعمال دي سوسير في النظرية البنيوية في اللغة فاستخدمها للتأسيس لمنهج جديد في دراسة الأنثروبولوجيا، وخصص لذلك كتابه «الأنثروبولوجيا البنيوية».
حصل شتراوس على مقعد في الأكاديمية الفرنسية خلفًا لمارسيل موس، وهو ما كان مبعث فخره على الدوام، وعلى مدار خمسة وثلاثين عامًا حرص على المشاركة الدائمة في اجتماعات الأكاديمية كل خميس.
على الرغم من أن شتراوس دعا على الدوام إلى الانفتاح الثقافي والحضاري على الآخر وافتراض المساواة بين الحضارات كعريضة مبادئ، وإن كانت الحضارات في أصلها مختلفة عن بعضها، إلا أنه كان شديد الانتماء لثقافته الفرنسية. هذا الانتماء لثقافة أحادية كان يعزز لديه الشعور بالمعنى، ويخفف من لاطمأنينته وتوتره.
شتراوس في كتابه «مدارات حزينة»
حاول شتراوس بعد ذلك في واحد من أبرز أعماله، وهو «الأسطوريات أو مقدمة لعلم الميثولوجيا»، الذي جاء في أربعة أجزاء، أن يبرهن على وجود بنية عقلية كامنة تتشارك فيها جميع الحضارات في صناعتها للأسطورة. باستخدام هذه البنية، يمكننا تفسير وتفكيك المركبات الأسطورية للثقافات المختلفة.
لم يعتقد شتراوس بانعدام النزعة الإنسانية أو عدم قدرة الإنسان على اختيار مصيره بل كان يرى أن الإنسان هو كائن بيو-ثقافي يقف في مركز وسط بين العقل والغريزةح لهذا ركز في أعماله على اكتشاف المضامين اللاشعورية في السيرورة الإنسانية. وهو ما ألهم جاك لاكان في عمله لإعادة قراءة الفرويدية قراءة بنيوية، وألتوسير في قراءته البنيوية للماركسية.
توفي شتراوس في 2009 قبل أسابيع من احتفاله بعيد ميلاده الـ 101، بعد أن قدم ما يربو على الستين عامًا من الإسهام المعرفي الذي لم ينقطع حتى مماته.
خوارزميات العقل الإنساني
ربما لكي نفهم المنهج الذي استخدمه شتراوس في حل القضايا الأنثروبولوجية، يجب علينا أن ننطلق من السؤال الذي انطلق منه، أو ربما بتعبيره هو: الصفات الشخصية التي أهلته للتفكير بالطريقة التي كان يفكر بها.
يتحدث شتراوس في مقدمة كتابه «الأسطورة والمعنى» عن نفسه باعتباره ذاتًا غير مرئية إزاء نفسه. أو ربما بتعبير أدق كأنه مَعبَر تعبر منه الأفكار المجردة إلى عالم التحقق فتكتسب ثقلا وكثافة منفصلة عنه. يقول في نفس المقدمة أنه لا يذكر عادة ما يكتب، وكأن أفكاره تكتب نفسها من خلاله.
كان شتراوس منذ طفولته وعلى حد تعبيره يبحث عن المتشابه والمشترك في الأشياء، عن ما يجعل فوضى الظواهر وتفردها وميلها للتمرد قابلا للتطويع وقابلا لأن ينضوي تحت إطار خاص يسلبها فرادة ذاتها ويجعلها لا-مرئية إزاء نفسها. ربما كان شتراوس يبحث عن عزاء له في هذا العالم، وربما كان يبحث عن فهم أفضل لنفسه.
هنا تكمن أهمية البنيوية بالنسبة له، كمنهج ينتصر للإطار والنظام على الفوضى والتبعثر، أو كمنهج ينتصر للكل على الفرد والذاتية.
من الطريف أن شتراوس كان محبًا لعلوم الكمبيوتر وللطريقة التي يستعمل بها النظام الثنائي الصفر والواحد لتمثيل المعاني الأعقد والأكثر تركيبًا، ولطالما استخدم هذا التمثيل الثنائي في محاولاته التفسيرية لفهم الأساطير. ربما نستعير منه هذا الشغف لنشرح بطريقة مبسطة منهج البنيوية.
هل تساءلت يومًا كيف أن الرسوم والألعاب ومتصفحات الإنترنت والبرامج المختلفة يكوِّنها جهاز الحاسوب باستخدام مركبين فقط هما الصفر والواحد؟ ببعض التجاوز يمكننا تشبيه المنتج الثقافي لمجموعة ما أو قبيلة ما بهذه البرامج. تتكون في أساسها من وحدات أصغر هي وحدات اللغة أو وحدات التعبير عمومًا. لا يمكن لهذه الوحدات الأصغر أن تنتج هذا المنتج الثقافي دون أن يجمعها نظام معين. كذلك في الحاسوب لا يمكن للمتغيرات التي هي مجموعة من الأصفار والآحاد أن تنتج برنامجًا إلا بترتيبها بنظام معين يمكن لوحدة المعالجة المركزية أن تفسرها من خلاله، وهذا ما يطلق عليه في علوم الحاسوب «الخوارزميات».
يتحدث شتراوس عن عمله في تحليل بنيات القرابة في إحدى محاضراته قائلا إنه فور دخوله إلى عالم الأنثروبولوجيا واجهته قضية إشكالية وهي وجود هذا الكم الهائل من قواعد الزواج في مختلف أنحاء العالم. للوهلة الأولى، يبدو الأمر وكأنه عبثي ولا معنى خلفه، لكن أنماط التشابه المثيرة التي تتكرر وسط هذه القواعد الكثيرة تدل على أن هناك معنىً كامنًا خلف هذا التعدد المثير. لذا فقد حاول اكتشاف النظام خلف هذه الفوضى الظاهرة فكان عمله الأول «البنيات الأولية للقرابة».
يصل شتراوس إلى عدة نقاط مثيرة باتباعه للمنهج البنيوي من أهمها أنه يعتبر أي عملية للبحث عن المعنى عملية بنيوية في الأساس؛ لأن المعنى في حد ذاته هو مجموعة من القواعد التي تسمح بانتقال التعبير من شكل إلى آخر. بعبارة مختصرة فالمعنى عند شتراوس هو النظام وليس الوحدات الاعتباطية أو الجوهرية المكونة للظاهرة.
إحدى النتائج الأخرى المثيرة التي يخلص إليها شتراوس هي أن العقل البدائي (وإن كان لا يفضل استخدام كلمة بدائي، ويفضل مكانها استخدام مفهوم المجتمعات الغير كتابية التي لم تمارس الكتابة) الذي استخدم الأسطورة والمجاز في تشكيل ظواهره الثقافية لا يختلف عن العقل المتحضر. بمعنى أنه، وإن كانت الاتجاهات التي سلكها كل من العقلين مختلفة، إلا أنهما يطرحان نفس الأسئلة ويسعيان إلى نفس الهدف بعكس ما كان سائدًا من أن الإنسان البدائي لم يكن يسعى إلا إلى تلبية رغباته الملحة فقط.
يزعم شتراوس أن الإنسان الأسطوري كان أكثر طموحًا في استخدامه لملكاته العقلية، أي ساد عنده الظن أن بإمكانه تفسير كل شيء في العالم ابتداء من الكون إلى تحقيق غرائزه ورغباته الأصلية، لهذا ساد الاختزال والمجاز في ظواهره الثقافية على عكس الإنسان الحديث الذي، ومنذ نيوتن وديكارت، قام بتجزئة المشكلة ليتمكن من حلها جزءًا تلو الآخر. باختصار، يخلص شتراوس إلى أنه رغم اختلاف الثقافات إلا أن العقل الإنساني في كل زمان ومكان واحد ومتشابه ويمتلك نفس القدرات والإمكانيات.
الحلم، الأسطورة والموسيقى
إذا كان الحلم على الطريقة الفرويدية هو تعبير عن لغة اللاوعي للإنسان الفرد، فالأسطورة كذلك عند شتراوس تبرز كلغة لا-واعية بدرجة ما، يستخدمها المجتمع الإنساني تعبيرًا عن مؤرِّقاته الوجودية.
قد يكون من اليسير أن نفترض أن الغاية الوظيفية التي تؤديها الأسطورة هي ضمان الاستمرارية الثقافية في التعبير عن مختلف المشاكل الاجتماعية والإنسانية أو حتى كنوع مختلف من الكتابة التاريخية. على الرغم من ذلك، تبقى الأسطورة في مساحة اللغة المرمزة والمجازية وشديدة الاختزال، تغطي المعنى الأصلي بطبقات كثيفة من الرموز والدلالات. لا يصبح من المنطقي في هذه الحالة أن تقرأ الأسطورة كنص مباشر، وإلا اعتبرناها ضربًا من الجنون أو العبث أو الخرافية.
شغلت دراسة الأسطورة هامشًا أساسيًا وكبيرًا من أعمال كلود ليفي شتراوس الأساسية، اشتغل فيها بمنهجه البنيوي فافترض وجود بنى كامنة خلف الأساطير المختلفة للشعوب المختلفة. واقترح نظامًا لقراءة الأساطير لا يتبع القراءة التسلسلية المعتادة إنما يعمد إلى جدولة الأساطير بمعيار التسلسل والتزامن ليكشف عن المعاني أو الرموز التي تتكرر أو تتعامد، ودلالات هذه الرموز في المجتمعات والبيئات المنتجة للأسطورة.
ربما تبدو هذه الطريقة مربكة قليلا لغير المختص، لكن بإمكان من له مخيلة واسعة أن يتخيلها كقراءة القطعة الموسيقية، حيث تقرأ متسلسلة حسب التتابع الأفقي للنوتات، وتقرأ كذلك رأسيًا للكشف عن التزامن في الأصوات الموسيقية.
أثار تشبيه شتراوس الأسطورة بالموسيقى دهشة الكثيرين. لقد وصل إلى حد اعتبار الأسطورة والموسيقى امتدادين في اتجاهين مختلفين لأصل واحد، وهو اللغة. وبهذا تكون الموسيقى الغربية هي الوريث الشرعي للأسطورة في المجتمع الحديث.
طوَّر شتراوس فرضًا بهذا الخصوص نقله من علوم اللغويات، يقول أن الوحدة اللغوية تتركب من جزئين: الصوت، والمعنى .الموسيقى هي تعبير عن الجنوح اللغوي نحو الصوت الخالص، بينما تتجه الأسطورة في الاتجاه المقابل نحو المعنى المجرد.
في الفصل الأخير من كتابه «الأسطورة والمعنى» الذي يتحدث فيه شتراوس عن علاقة الأسطورة بالموسيقى، قرأ بطريقة مختصرة ومثيرة تاريخ الموسيقى الغربية الكلاسيكية في سعيها لإعادة تمثيل الأسطورة التي قتلها العقل الحديث.