حقائق أم أوهام؟ ليس كل ما تسمعه عن تجارة الأعضاء حقيقيًا
دخل في فصلٍ مظلم من حياته لم يتصوره في أسوأ كوابيسه. لم يكن يتوقع أن ينتهي به ارتفاع الضغط في بضع سنين إلى أن يصير مريضًا بالفشل الكلوي النهائي، ويكون أمام خياريْن كلاهما أشد مرارة من العلقم؛ إما الغسيل الكلوي ثلاث مرات أسبوعيًا، أو زرع الكلى.
هكذا هي الحياة لا تعطي إلا بقدر ما تأخذ، هكذا حدثته نفسه. كان مهندسًا قديرًا، عمل بالخارج لسنواتٍ طوال، شغله كثافة العمل وتتابعه عن الاهتمام اللائق بمتابعاته الصحية، خاصة ارتفاع الضغط الذي اكتشفه مصادفة منذ عشرة أعوام.
كان في نفسه أشياء مما اقترحه عليه أحد الأطباء المشاهير من معارفه «بدل ما ترمي فلوسك بره وتتغرّب، خليك معانا وهتدفع بالكتير ١٥٠ ألف جنيه، منهم ٣٠ ألف للواد الغلبان اللي هيتبرعلك».
كان بين صوتين متناقضين بداخله: صوت ضميره يرفض بتاتًا، ويتهمه بأنه يريد أن يبني حياته على جسد وعمر أحد المحتاجين، وصوت آخر يحاول أن يبرر، ويقول له إن هذا الشاب إن لم يبِعْ كليته له، سيبيعها لغيره، بينما سيكون هو أرفق به من غيره، وسيوصي عليه الأطباء، وسيكرمه في الثمن.
بقي يومان على الموعد المقرر للعملية، وما زال لم يحسم أمره تمامًا، ولا يعرف ماذا سيفعل في صبيحة ذلك اليوم العسير.
فضيحة قديمة جديدة
ارتجَّت الساحة المصرية في الأيام الأخيرة لأخبار متواترة عن فضيحة جديدة كبيرة لتجارة الأعضاء البشرية في مصر، إذ أعلنت هيئة الرقابة الإدارية عن القبض عن أكبر شبكة دولية تعمل في تجارة الأعضاء البشرية في مصر، وهي تضم مصريين وعربًا وأجانب، يستغلون العوز المادي لبعض المصريين لإغرائهم ببيع أعضائهم خاصة الكلى، مقابل مبالغ مالية لا تتناسب مع المبالغ الطائلة التي يحصلون عليها لأنفسهم من المستفيدين. وأكدت التحقيقات الأولية تورط بعض أساتذة الطب الكبار، وبعض المشافي الكبيرة في العاصمة وجوارها، ووجود بعض السماسرة الذي يقومون بالوساطة بين البائعين والمشترين.
وكان من الصادم ما تردد في ثنايا هذه الأخبار عن أن مصر أصبحت هدفًا إقليميًا ودوليًا للاتجار بالأعضاء؛ نظرًا لانتشار معدلات الفقر بشكل غير مسبوق. كما يذكر بعض المحللين أن تعويم الجنيه المصري سيساهم أكثر وأكثر في تفاقم هذا الأمر، إذ ستصبح التكلفة بالنسبة للأجانب أرخص من الأسواق التقليدية لهذا النشاط في البرازيل والهند والصين.
ليست هذه المرة الأولى التي يطالعنا الإعلام فيها بأخبار من هذا النوع، وكالعادة يناقش الإعلام الأمر بأسلوب الفرقعات الإعلامية، وجذب أنظار المشاهدين، ولو على حساب المهنية والجوانب العلمية. فيختلطُ الحابل بالنابل، ولا يستطيع المشاهد في أحيانٍ كثيرة تكوين الفكرة الملائمة المبنية على حقائق فعلية.
سنحاول هنا تسليط بعض الأضواء على بعض جوانب هذا الأمر بموضوعية.
مسألة حياة أو موت، ولا بدائل شرعية كافية
ليس من المنطقي بذل الجهد والوقت في إثبات أهمية نقل الأعضاء لمن يحتاجها، فهذا من المعلوم من الطب الحديث بالضرورة.
ما يستحق النقاش، هو أنه من المعروف أن أفضل أعضاء صالحة للنقل هي تلك التي تؤخذ من متبرع حي سليم، أو من المرضى النهائيين الذين أصيبوا بوفاة جذع المخ لكن في وقت مبكر بعد حدوث الوفاة قبل أن تبدأ الأعضاء في الفساد.
وهنا تبرز عندنا عدة مُعضلات تعرقل تطور هذا الفرع الطبي الحيوي، وتضع الكثير من المحتاجين بين خياريْن عسيريْن؛ إما محاولة القيام بالأمر في الخارج وتحمُّل كلفته الكبيرة، أو اللجوء إلى أساليب غير شرعية كشراء الأعضاء من متبرعين محتاجين إلى المال.
أولاً: عدم حسم كافة الجوانب الشرعية المتعلقة بزرع الأعضاء، والتبرع بها، سواء في حياة الشخص أو بعد وفاته. حتى تعريف الموت بوفاة جذع المخ ما زال غير محسوم بين المراجع الدينية الإسلامية. وقضية كبرى كهذه تتصل بالحياة والموت، لابد أن تقوم من أجلها مجامع كبرى تضم كبار الفقهاء والأطباء للوصول إلى اجتهادات جماعية تحسم الجدل فيها.
ثانيًا: ما تزال القوانين قاصرة نصًا وتطبيقًا عن الإحاطة بكل جوانب الأمر، ولا تقدم البدائل الشرعية للمحتاجين لهذه الخدمة المتعلقة بالحياة بما يتناسب مع حجم الاحتياج، ولا تزال خلافات كثيرة بين الأكاديميين والبرلمانيين وعلماء الدين في نقاطٍ عديدة.
القانون وحده لا يكفي
بنظرة سريعة على القانون رقم 5 لسنة 2010 في القانون المصري والمتعلق بأحكام زراعة الأعضاء والتبرع بها، يمكن إبراز النقاط الآتية:
1. القانون لا يسمح بالتبرع بالأعضاء إلا بين الأقارب من المصريين. ولا يسمح لغير الأقارب إلا عند وجود حاجة ماسة، وبعد موافقة لجنة خاصة تشكل بقرار من وزير الصحة. ولا يجوز التبرع بين المتزوجين من أجانب إلا بعد مرور ثلاث سنوات على عقد الزواج.
2. القانون يجرم تمامًا أي مقابل مادي للتبرع، ويعاقب من يتورط في نشاط الاتجار بالأعضاء البشرية بعقوبات قد تصل إلى السجن المشدد، وغرامات قد تصل إلى ربع مليون جنيه. لكن تكرر كشف شبكات الاتجار بالأعضاء -وما خفي كان أعظم- يؤكد أن يد القانون لا تحيط بالجزء الأكبر من الأمر، ويؤكد في المقابل أن التجريم الفعّال لا يتحقق إلا بتوافر البديل الذي يرضي الحاجة الماسة سواء للمحتاجين للأعضاء، أو للملايين من الفقراء الذي يدفعهم العوز إلى أن يكونوا هدفًا لتجار الحياة والموت.
3. يتحدث القانون في عدة مواد عن تشكيل ما يسمى اللجنة العليا لزراعة الأعضاء البشرية، والتي تشكل من عضوية بعض كبار أساتذة الطب المختصين ورئاسة وزير الصحة، وتضم المستشار القانوني للوزارة، ورئيس الخدمات الطبية للقوات المسلحة. وطبقًا للقانون فإنهُ يُناط بها تنظيم كل ما يتعلق بزراعة الأعضاء والتبرع بها، وإنشاء قائمة انتظار تضم كل المحتاجين لهذا التدخل الحيوي طبقًا للترتيب الزمني لطلبها، مع إعادة ترتيب أولويات الحصول على الخدمة وتعديل الأدوار طبقًا للحاجة الماسة لبعض المرضى. لكن على أرض الواقع، لا يوجد تفعيل حقيقي لكل هذا، ولا تمثل هذه القناة الشرعية نسبة مؤثرة من مجمل حالات زرع الأعضاء في مصر. وبمحاولة فتح الموقع الرسمي لها على شبكة الإنترنت والموجودة بالرابط بالأعلى للتعرف على أنشطتها، نجد أن الموقع معطل عن الخدمة.
4. لا يوجد في أي من المواد أطر قانونية واضحة لقصة التوصية بالتبرع بالأعضاء بعد الموت، وكذلك لا يوجد حسم قانوني للجدل في قصة تعريف الموت بوفاة جذع المخ.
الثقافة العامة تعكس تذبذب الأطر الشرعية والقانونية
ما تزال ثقافة منحة الحياة life gift غائبة في ثقافتنا، والمقصود بها أن يوصي الشخص في حياته بأن تؤخذ أعضاؤه مبكرًا للتبرع للمحتاجين في قوائم الانتظار، وذلك في حالة تشخيصه بالموت الدماغي brain death، إذ تكون الأعضاء ما تزال صالحة للاستخدام. وهناك في أمريكا خاصة وأوروبا الكثير من التركيز الحكومي والإعلامي والتطوعي على هذا الأمر، ويوجد الكثير من الجمعيات الخيرية التي تكرس هذا النشاط، وتنسق مع الأجهزة المعنية المكلفة بتحديث قوائم الانتظار وتنظيم أولوياتها، وضمان نزاهتها.
مثال من منظمة منحة الحياة الخيرية في تكساس الأمريكية، والتي تذكر على موقعها أن هناك أكثر من 13 ألفًا في قوائم الانتظار بولاية تكساس وحدها، تم بالفعل عملية الزرع لـ 819 حالة فقط. لكن المبشر أن 45% من البالغين في ولاية تكساس سجلوا أنفسهم كمتبرعين بمنحة الحياة.
حقائق علمية هامة
يكفي لبيان أهمية الأمر، أن نذكر أن الإحصاءات تقول إنه في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد أكثر من 123 ألفًا في قوائم الانتظار من أجل الزرع، وأنه كل 12 دقيقة يضاف شخص جديد إلى القائمة الطويلة للغاية.
ولذلك لابد من تسليط الأضواء على هذا العلم الحيوي، وتكثيف الوعي به وبأهميته المتزايدة. وإليكم بعض الحقائق العلمية التي تزيل الكثير من اللبس والغموض:
– أولاً: كل شخص يوصي بالتبرع بأعضائه عند موته دماغيًا، يمكن أن يساهم في إنقاذ حياة سبعة مرضى على الأقل؛ ( كليتين – فصَّين من الكبد – القلب – الرئتين – والأقل شيوعًا البنكرياس).
– ثانيًا: ٩٩.٩٪ أو أكثر من المرضى الذي يتم تشخيصهم بوفاة جذع المخ brain stem death بينما هم على أجهزة الدعم الحيوي كجهاز التنفس الصناعي الذي يحافظ على استمرار حركات التنفس ونبض القلب، لا تضمن هذه الأجهزة بقايا نشاطهم القلبي والتنفسي لأكثر من عدة أيام، وتحدث الوفاة الكاملة. بعض المعترضين على تعريف الموت بموت جذع المخ يرون عدم إعلان الوفاة إلا بعد توقف القلب بينما المريض ما يزال على جهاز التنفس الصناعي، ويرون أن فصل الأجهزة لمجرد وفاة جذع المخ نوع من القتل. ولذا يرى المؤيدون لتعريف الموت بوفاة جذع المخ أن لا فائدة تعود على المريض من ترك أنفاسه ميكانيكيًا دون نقطة أمل في عودته إلى الحياة. والحالات الاستثنائية التي طال بقاؤها على الأجهزة شهورًا أو حتى سنين، آل معظمها إلى الوفاة في النهاية. في المقابل، لو كان الشخص وتطوع بالتوصية بالتبرع بمجرد وفاة المخ، سيسهم في إنقاذ أرواح عدة.
– ثالثًا: عامل الوقت مهم جدًا في الحفاظ على حيوية الأعضاء المنقولة. فكلما تم حسم التشخيص بوفاة المخ مبكرًا -وبالتالي بدأ استخراج الأعضاء مبكرًا- كلما كانت النتائج أفضل. ومن البديهي أنه من المُجرَّم قانونًا وطبيًا أن تختلف الرعاية الطبية للمرضى شديدي الخطورة والمحتمل حدوث موت المخ لهم، طبقًا لوجود أو عدم وجود وصية بالتبرع.
والمدة القصوى التي تتحملها الأعضاء بعد استخراجها و قبل زرعها في المتلقي مع توافر أقصى ضوابط الكفاءة التخزينية والتبريد والتعقيم:
الرئة والقلب 4-6 ساعات.
الكبد والبنكرياس 24 ساعة.
الكلى 72 ساعة.
قرنية العين 14 يومًا.
– رابعًا: يمكن لشخص بالغ حي أن يتبرع ببعض أعضائه دون أي إضرار بصحته، حيث يقوم الجسم فسيولوجيًا بتعويض وظيفة العضو المتَبرَّع به. فيمكن التبرع بكلية كاملة فتقوم الكلية الأخرى بالتضخم حجمًا ووظيفةً والقيام بدور الاثنين، أو فص من الكبد،ويقوم الجسم خلال ستة أشهر إلى عام بتكوين فص جديد واستعادة الوظيفة الكاملة. ويمكن كذلك التبرع بجزء من البنكرياس، أو الرئة.
لكن تظل عملية التبرع في ذاتها عملية جراحية كبيرة، وكل جراحة لها آثار جانبية محتملة مثل خطر النزيف، الأعراض الجانبية للتخدير، التلوث البكتيري للجروح، …إلخ، وهذا لابد أن يوضع في اعتبار من سيتخذ قرار التبرع.
حياة أم موت؟
كانت جنازة مهيبة وكان الحزن يعتصر الجميع. لم يتصور أقرب أقربائه أنه -وهو الذي لم يتجاوز الخمسين من عمره- ستتطور مأساته هكذا حتى تصل إلى الوفاة في أقل من شهرين بعد تشخيصه بالفشل الكلوي، بل لم يخطر في أشد كوابيسهم أن يصاب بهذا الداء العضال في هذا السن.
وكان ما يزيد الأمر مرارة، قسوة مشهد الختام بالفضيحة المدوية في كل وسائل الإعلام بالقبض على شبكة كبيرة للاتجار بأعضاء البشر. فقبل العملية بساعة داهمت الشرطة المستشفى، وألقت القبض على الجميع. وفي مساء نفس اليوم تدهورت حالته كثيرًا، وتم حجزه بالعناية المركزة التي توفي بها بعد ثلاثة أيام.
وهكذا انضم إلى قائمة الضحايا المجرمين وما أطولها.