الاستخراجية: الرأسمالية وتدمير البيئة في العالم الثالث
في الثاني والعشرين من يوليو/تموز من العام 2016، وصلت درجة الحرارة في دولة الكويت إلى 54 درجة مئوية متخطية أعلى درجة حرارة مسجلة إلى حينها، وهي التي كانت قد سُجلت في وادي الموت بكاليفورنيا. يقول باحثون إن استمرار التغير المناخي قد يؤدي إلى أن تصبح منطقة الخليج العربي منطقة غير صالحة للعيش الآدمي في عام 2100. والسؤال هو كيف أسهمنا في هذا الخراب البيئي الذي ما زال مستمرًا رغم درايتنا بخطورته؟
كانت علاقة البشر مع البيئة في الماضي متصلة أكثر بالطبيعة، واعتمدت بشكل أساسي على التبادل الذي كان يقوم على الرعي والزراعة وفلاحة الأرض، وأدت هذه العلاقة على الحفاظ على النظام البيئي بل وازدهاره وتنوعه، مما ساعد البشر في تأمين الحصول على الماء والغذاء والكساء.
في القرن السادس عشر، ومع دخول أوروبا في عصر النهضة، ظهرت صيحات تنادي، باسم العقلانية والعلم، بوجوب نبذ كل الأفكار الوثنية عن الأرض، وهي الأفكار التي تعتبر الأرض أمًّا مانحة للحياة ندين لها بالإجلال والاحترام والخوف، وأن يكون هدفنا هو استغلال الأرض وتطويع الطبيعة لرغباتنا وأهدافنا دون أن نصاب لحظة بالتردد جرّاء ذلك.
مع الثورة الصناعية وتطور الآلات والتوسع الرأسمالي، بدأت نتائج هذه الصيحات تظهر في محاولة الشركات والدول الاستعمارية آنذاك، استخراج كل ما يمكن استخراجه من باطن الأرض من نفط ومعادن ومواد خام حتى سميت هذه الحركة فيما بعد بـ«الاستخراجية – Extractivism».
كيف أثرت الاستخراجية على المناخ؟
ما تعملنا إياه علوم البيئة هو أن جوهر العلاقات في الطبيعة قائم على التبادل والأخذ والعطاء، وبالتالي فأي فعل نقوم به تجاه الأرض لا بد له من رد فعل.
كانت عمليات الاستخراج المستمرة للنفط والمعادن التي استمرت عدة قرون إلى الآن قد حررت الإنسان من الحاجة إلى خوض أي حوار ثابت مع الطبيعة، على عكس ما كان يحدث في الأزمنة السابقة التي كان فيها الإنسان مقيدًا وبشكل دائم بتضاريس بيئته وحركة الرياح وطبيعة المياه وتقلباتها. لكن العلاقة التي نشأت بين عملية الاستخراج والأرض هي علاقة غير متبادلة، فهي تقوم على السيطرة على الأرض، علاقة استحواذ كامل، حيث إن النفط والفحم والمعادن طاقات محفوظة بشكل أحفوري يمكننا أن نستخرجها وأن نتتجها متى شئنا وكيف شئنا. إن هذا الأثر التراكمي لكل هذه القرون من الفحم المحروق في طريقه لجعل الطبيعة تصب جامّ غضبها علينا.
متروكًا في مكانه الطبيعي، كان الفحم يساعد على امتصاص الكربون من الهواء، ويساعد أيضًا على تخليص الهواء من كثير من السموم، وكما قال عالم المناخ الأسترالي المرموق تيم فلانيري، إن الفحم كان يعمل «كإسفنجة تمتص مواد كثيرة ذائبة في المياه الجوفية كاليورانيوم والكادميوم والزئبق». باستخراجنا للفحم وحرقه، نخرج هذه السموم إلى النظام البيئي، وهي التي بدورها تصل إلى المحيطات ويتم امتصاصها بواسطة العوالق البحرية التي من خلالها تنتقل السموم إلى الأسماك، ومنها إلينا.
كل هذا الكربون المنبعث يدخل في النهاية إلى المجال الجوي متسببًا في الاحتباس الحراري، ناهيك عن مساهمته في التلوث البيئي الذي أصاب حياة المدينة منذ الثورة الصناعية وتسبّب في إصابة أعداد مهولة من البشر بأمراض الرئة والقلب وأمراض أخرى كثيرة.
مناطق التضحية: خراب بيئي واقتصاد سيئ
تقوم الشركات الكبرى بحفر الأرض لاستخراج المعادن وتكريرها ثم تصديرها إلى من تشاء مع ترك أماكن الاستخراج أو تدميرها دون وجود أي نيّة في إصلاح ما فعلت، بل واتجهت تلك الشركات بعد ذلك إلى تسمية تلك المناطق بـ«مناطق التضحية – Sacrifice Zone»، واستمرت في البحث عن مناطق تضحية جديدة.
أحد أبرز الأمثلة على مناطق التضحية هو جزيرة «ناورو – Nauru». كانت الجزيرة نموذجًا لدولة نامية تتقدم بسرعة صاروخية، وبحسب الدول الاستعمارية آنذاك، كانت هذه الجزيرة تقوم بكل شيء حسب الخطة وبشكل مدروس. اغتنت الجزيرة في الستينات من القرن المنصرم حتى وصل الغنى إلى درجات لامعقولة حيث كان يُهدي الناس بعضهم البعض وسائد مليئة بالنقود من فئة المائة دولار، وكان سبب هذا الغنى الفاحش هو تميز هذه الجزيرة بظاهرة جيولوجية نادرة، حيث كانت الجزيرة عبارة عن شعاب مرجانية تطفو فوق المحيط.
استغلت الدول الاستعمارية هذه الميزة بأن قامت بعمليات استخراجية مستمرة لاستخراج الفوسفات من الجزيرة حتى أصبحت الجزيرة هيكلًا فارغًا من الداخل وكأنه كان لزامًا عليها كي تتطور أن تزول. بعد 30 سنة من عمليات الاستخراج المستمر أٌصيبت الجزيرة في التسعينات بمعدلات ركود ودمار اقتصادي وبيئي نوعي، حيث انخفضت متوسطات أعمار السكان فيها بينما كان يعاني أكثر من نصف السكان من السمنة وأمراض السكر والضغط وذلك لسوء التغذية وعدم قدرتهم على الاستيراد أو الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية اللازمة.
المفارقة المحزنة هنا هي أن الفوسفات الذي كان يتم استخراجه وتصديره كان يُستخدم في الأساس لتصنيع الأسمدة الزراعية. تحولت الجزيرة فيما بعد لمأوى عالمي لغسيل الأموال وذلك كمحاولة من أهلها لإنقاذ اقتصادهم، ولاحقاً تم استخدام الجزيرة من قبل السلطات الأسترالية كسجن حدوديّ لحبس اللاجئين الهاربين القادمين على شواطئها.
الحنين إلى أوطان نعيش فيها
صكّ عالم البيئة الأسترالي جلين ألبيرخت مصطلحًا سماه «السولاستالجيا – Solastalgia»، من Solace بمعنى السِلوان، وقد عرّفه بأنه «الحنين والشوق إلى الوطن وأنت تعيش فيه»، وهو يشير إلى ما سبّبته الاستخراجية والصناعة من أزمات نفسية بسبب تأثيرها على أوطان كثير من الشعوب التي تأثرت بهذه العمليات الصناعية.
تدور اليوم مناقشات على طاولة الحوار حول التأثيرات الجسيمة التي تسبّبت فيها الاستخراجية في أمريكا الجنوبية، فيقول الفيلسوف الأورجواياني ياماندو أكوستا في كتابه «أمريكيا اللاتينية: التحولات العنيفة ومستقبل الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين» إن الاستخراجية لم تتسبب فقط في خراب بيئي، بل وفي ارتفاع نسب البطالة والفقر وفي زيادة التوزيع غير العادل للثروة، ولذلك «يجب على كل التقدميين اليوم في أمريكا الجنوبية أن يقفوا في وجه الاستخراجية كنموذج اقتصادي عمّق اعتمادنا على الجزء الشمالي من الكوكب، وعاث في البيئة فسادًا، ودمّر حياة الملايين».
إن الاستخراجية في جوهرها هي اختزال للحياة في أشياء يتم استخدامها من قبل آخرين، من غير أن نعطي تلك الأشياء أي قيمة في ذاتها، وهي أيضًا اختزال للبشر كعمّال يتم إرغامهم على العمل، وتحميلهم أعباء اجتماعية فوق طاقتهم. في هذا الاقتصاد الاستخراجي، يتم تشييء كل مكونات الحياة وإهمال الترابط فيما بينها، وتظهر عواقب قطع هذه الروابط وكأنها شأن لا يعنينا.
الحركات البيئية والجبن السياسي
أخذت الحركات البيئية في العقود المنصرمة على عاتقها مواجهة خطر المناخ، لكن هذه الأصوات التحذيرية ذهبت أدراج الرياح لأنها لم تشتغل على الحد من النمو الاقتصادي المبني على تضخيم المكاسب فقط، ولكنها عملت عوضًا عن ذلك على محاولة إثبات أن الوسائل التي من خلالها يمكن المحافظة على الكوكب يمكن أيضًا أن تكون فرصة أخرى للتجارة والكسب.
كان السبب وراء هذا الجبن السياسي متعلقًا بالحركات المحافظة المعادية للعلوم البيئية التي تحاول إلى الآن أن تنكر أن هنالك أي مشكلة بيئية من الأساس، كما كان له علاقة أيضًا بالإغراء الذي جلبته الطاقة واستحوذ على السوق الحرة وغزا عقول النخبة في نهايات الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم.
إن هذا الإصرار المستمر على الرغبة في عدم الأخذ بنتائج العلم وتحذيراته يمكن أن نضعه في سياق السلطة الثقافية التي تخبرنا أن الإنسان في النهاية هو المتحكم في الأرض وليس العكس. وهذه هي نفس الثقافة التي تطمئننا أنه مهما ساءت الأمور سنستطيع أن ننجو وإن كان في اللحظة الأخيرة، إن كان بفعل تدخلات السوق أو بفعل تبرعات رجال الأعمال أصحاب المليارات، أو من خلال عباقرة التكنولوجيا، أو من خلالهم جميعًا في نفس الوقت.
إننا فقط وعندما نترك هذا التفكير اللاعقلاني السحري سنكون عندها مستعدين لترك «الاستخراجية» وراء ظهورنا وسنكون قادرين على بناء مجتمعات في ظل الحدود المتاحة لنا – دون مناطق تضحية أو ناورو جديدة.