فيلم «ليل خارجي» وأسطورة السينما المستقلة
يقال إن عنوان النص/الفيلم هو أول عتباته. عنوان «ليل خارجي» يحيلنا على الفور إلى عالم صناعة السينما، فهذا التعبير يستخدم بشكل قصري في النصوص السينمائية لوصف مكان وزمن المشهد. ﻻ يتأخر الفيلم في الإعلان عن ذلك من مشاهده الأولى التي نرى فيها مخرجًا شابًا يحاول التغلب على معوقات عبثية لصناعة فيلمه، لكن في المشاهد التالية يتحول مجرى الأحداث لنعرف أن المخرج ليس سوى بطل القصة التي يرويها الفيلم بعيدًا عن صناعة السينما. وهنا يثور السؤال: لماذا اختار صناع «ليل خارجي» أن يكون بطلهم مخرجًا سينمائيًّا؟
تدور أحداث الفيلم بالكامل على مدى يوم واحد في حياة بطله (مو/كريم قاسم)، يمر خلاله بالعديد من المواقف بصحبة السائق (مصطفى/شريف دسوقي)، وفتاة ليل (توتو/منى هلا). تيمة اليوم الواحد هي إحدى التيمات المكررة في السينما، والتي يعيد تقديمها هنا المخرج أحمد عبد الله، مع الكثير من الكوميديا، والقليل من الدراما.
كل هذا جميل، لكنه ﻻ يجيب على سؤال: لماذا اختار صناع الفيلم أن يكون بطلهم مخرجًا سينمائيًّا؟
يتناول موضوع الفيلم العلاقة بين النخبة الثقافية (ممثلة في المخرج الشاب)، وبين المواطن العادي (ممثل في السائق)، بأقل القليل من التفاصيل عن السياق الزمني والسياسي الذي تدور فيه الأحداث، والتي تقتصر على الإشارة المقتضبة في بداية الفيلم لقضية رواية «استخدام الحياة» للكاتب أحمد ناجي، والتي قضت فيها المحكمة في فبراير 2016 بالحبس لمدة سنتين بتهمة خدش الحياء العام. نُفذ الحكم وحُبس ناجي حتى تم إخلاء سبيله في نهاية العام عقب قبول النقض الذي تقدم به.
اقرأ أيضًا: إضاءات تحاور الكاتب أحمد ناجي قبل الحكم ببراءة الخيال
بالطبع ﻻ ينفصل كل ذلك عن كون أحمد عبد الله (مخرج الفيلم) أحد رموز النخبة الثقافية الجديدة (نخبة ما بعد ثورة يناير 2011) الذي كانت الثورة حاضرة في أفلامه السابقة بشكل أو بآخر، وﻻ عن ظهور بعض الوجوه المألوفة التي تنتمي لهذه النخبة في أدوار صغيرة في الفيلم، مثل الممثل الشاب علي قنديل، ورسام الكاريكاتير والصحفي محمد قنديل، بل إن أحمد ناجي نفسه يظهر في مشهد قصير بالفيلم.
في الفصل الأول من الفيلم، حيث التأسيس للشخصيات وعالمها، نرى بطل الفيلم يساعد إحدى صديقاته في تسجيل كلمة مصورة للمطالبة بالإفراج عن كاتب الرواية ضمن حملة تنسقها الصديقة، والتي تحاول إقناع المخرج بتوظيف الرواية في فيلمه بأي شكل، فتقرأ عليه مقاطع منها لم تكن إﻻ نصوصًا أدبية من رواية «استخدام الحياة». وفي مشهد ﻻحق تدور مناقشة بين هذه الصديقة والسائق مصطفى بشأن الرواية، نستعرض من خلالها التباين في رؤيتين نمطيتين للنخبة والمواطن العادي.
يُصنف أحمد عبد الله كأحد صناع السينما المستقلة، ذلك المصطلح شديد الالتباس، والذي يتم تعريفه في صيغة مبسطة بأنه كل عمل سينمائي تم إنتاجه بمنأى عن دوائر الصناعة التقليدية السائدة، سواء على مستوى الإنتاج والموارد، أو على مستوى الموضوع، إذ ترتبط الأفلام المستقلة بشكل من أشكال التمرد على القوالب التقليدية، والأفكار السائدة.
قبل ذلك عرف المصطلح باسم «أفلام المهرجانات» في إشارة إلى الأفلام التي تقتصر عروضها على المهرجانات وﻻ تحقق نجاحًا ﻻفتًا عند عرضها جماهيريًّا، ومؤخرًا تغير الاسم ليصبح أفلام الـ«Art House»، وهو اسم لدور العرض المتخصصة التي تتحمل تقديم أفلام تغلب على صناعتها المعايير الفنية على التجارية.
وهنا نسأل: هل حقا ينتمي فيلم «ليل خارجي» إلى السينما المستقلة؟
كما أشار المخرج فقد تم إنتاج الفيلم بالجهود الذاتية، وإن أغفل في حواره أن الفيلم قد تلقى دعمًا من مهرجان دبي السينمائي لمرحلة ما بعد الإنتاج، ولكن مع الوضع في الاعتبار أن فيلم «ليل خارجي» يتطلب ميزانية متواضعة أو متوسطة على أقصى تقدير، ما مدى ارتباط الموارد الإنتاجية بجودة المنتج الفني؟
لنأخذ عنصر التمثيل مثالًا. يتطلب عنصر التمثيل شقين مهمين، أولهما هو اختيار الممثلين، وثانيهما هو توجيههم. بالطبع ترتبط الموارد الإنتاجية بالقدرة على استقطاب المواهب الحقيقية والنجوم الكبار، غير أننا لن نعدم الأمثلة التي اعتمد فيها المخرجون على ممثلين غير محترفين وخرج أداؤهم في شكله النهائي على درجة مقبولة من الجودة الفنية. في «ليل خارجي» صاحب التوفيق أحمد عبد الله في تسكين بعض الأدوار، وتخلى عنه في غيرها، فأبطال العمل الرئيسيون هم كريم قاسم الذي يمتلك موهبة متواضعة وإن كان في أفضل أحواله هنا، ومنى هلا التي سبق أن قدمت أدوارًا جيدة لكن جاء أداؤها باهتًا في أغلب مشاهد الفيلم، أما المفاجأة الحقيقية فتمثلت في شريف دسوقي الذي كان حضوره وتأثيره واضحًا على الجمهور بمجرد ظهوره على الشاشة.
وفي الأدوار الثانوية جاء اختيار بسمة في دور رحاب، وعمرو عابد في دور بذرة، اختيارًا سيئًا على أكثر من مستوى. قدمت بسمة أداءً باردًا ومفتقرًا لأدني درجات الإقناع لشخصية شديدة البعد عن الواقع، مليئة بالتناقضات غير المفهومة. أما عمرو عابد، ففضلًا عن أنه ممثل متواضع ولم يقدم طوال سنوات عمله الطويلة نسبيًّا أداءً ﻻفتًا مع اختلاف المخرجين والأعمال، كان اختياره كارثة محققة، فهو ﻻ يفي بأي من الشروط الشكلية والجسمانية للشخصية التي يؤديها، فكيف يمكن أن تقنع المشاهد أن هذا الممثل ضئيل الجسد ناعم الصوت يصلح لأداء دور بلطجي في حارة شعبية؟
نعود إلى سؤالنا: هل هناك أي رابط بين ضعف الموارد، وبين الاختيار السيئ والتوجيه الضعيف للممثلين؟ بالقطع لا.
لنأخذ مثالًا آخر وليكن المونتاج. بالطبع تؤثر الموارد الإنتاجية على القدرات التقنية المتوفرة للمونتير، ولكن إذا كان الفيلم لا يتطلب مثل تلك القدرات الخاصة، وإذا كان جوهر عنصر المونتاج يكمن بالأساس في الجوانب التعبيرية للسرد، وإذا كان الفيلم يلتزم بقالب سردي تقليدي ﻻ يخرج عن قواعد النوع أو التيمة التي يقدمها، فأين يكون موقع الفيلم من السينما المستقلة أو المعايير الفنية لأفلام الـ «Art House»، خاصة مع ميل عدد من النقاد إلى اعتبار أعمال أحمد عبد الله أفلامًا تجريبية على أحد المستويات؟
اقرأ أيضًا: كيف حقق «يوم الدين» أعلى إيرادات في تاريخ الآرت هاوس؟
يفتقر المونتاج في «ليل خارجي» إلى الإحساس بالمكان في الكثير من مشاهد الفيلم، فلا يؤسس بشكل بصري مناسب للتباين الواضح بين عوالم الشخصيات (المعادي، الحدائق، البساتين)، ناهينا عن الأخطاء الكارثية في بعض المشاهد والتي لم يعد من الصعب على المشاهد العادي التقاطها. في أحد مشاهد الفصل الأول نرى مساعد الفنان أحمد مجدي يقوم بإزالة بدلة سوبر مان، في أحد اللقطات يقوم بخلع أحد أكتاف البدلة ووضعه في الدولاب، وفي اللقطة التالية نرى الكتف نفسه مكانه، ثم يقوم المساعد بخلعه مرة أخرى ووضعه في المكان ذاته. أخطاء كهذه لا تحتاج إلى موارد إنتاجية عظيمة، تحتاج فقط إلى مونتير ماهر، ومخرج يقظ.
يقترن مصطلح السينما المستقلة بفعل الاستقلال. الاستقلال عن دوائر الصناعة التقليدية، وعن شركات الإنتاج الكبيرة والميزانيات الضخمة، وعن كل رموز الصناعة من نجوم. ويقترن كذلك بالاستقلال عن النموذج الفكري السائد سياسيًّا ومجتمعيًّا، وهو ما يعني بالضرورة استقلاله عن الدولة أو النظام السياسي. وبهذا المعنى، هل يعتبر ليل خارجي فيلمًا مستقلًا؟
إذا كان الفيلم يحظى بكل هذا الدعم من دوائر الصناعة التقليدية، وﻻ يخفى على المشاهد العادي أن السياق الفني المصري هو سياق طارد بالطبيعة، وﻻ يقبل أي دخلاء. ناهينا عن السياق السياسي الذي يشهد تغول الدولة في العملية الإنتاجية إلى الحد الذي دفع بعض رموز الصناعة إلى الشكوى بشكل مباشر من هذا التغول. ولكن مثل هذا الحديث قد يدفعنا إلى جدلية إذا ما كان الحكم على الأعمال الفنية يجب أن يكون من داخل النص الفني ذاته بعيدًا عن السياق العام لصناعته. ولذلك لن نخوض كثيرًا في السياق العام، لنعد إلى النص الفني.
كما أسلفنا، يستعرض الفيلم العلاقة الملتبسة بين النخبة الثقافية الجديدة وبين المواطن العادي في سياق ما بعد ثورة يناير 2011، ويصل الفيلم إلى ذروته بدخول الدولة طرفًا في المعادلة. هنا يتبنى الفيلم بشكل واضح سردية الدولة. ففي حين أن المواجهة مع الدولة كانت ناعمة وغير مباشرة في بداية الفيلم من خلال حملة التضامن مع الكاتب المحبوس، فإنها تتحول في نصفه الأخير إلى مواجهة مباشرة مع الذراع الأمنية للدولة، حينما يتم القبض على أبطال الفيلم الثلاثة.
تقديم جيد لتصاعد أزمة التباين بين رؤية النخبة والمواطن العادي للسلطة، وهي الأزمة التي يقوم الفيلم بتفكيكها بقدر هائل من السذاجة والسطحية. فالسائق موقن بأن المخرج سيستطيع الخروج من قسم الشرطة بمجرد اتصاله بأحد معارفه النافذين، بينما سيبقى هو بمفرده في مواجهة الدولة، بينما المخرج ممثل النخبة، يحاول التمسك بمبادئه التي يؤمن بها، ويدافع عن السائق/المواطن العادي.
في حوارين متباينين أحدهما مع الضابط الصغير والآخر مع الضابط الكبير، تتجلي سردية الدولة الأبوية، وتنعكس رؤيتها للمواطن العادي. يرفض الضابط الصغير إطلاق سراح المخرج، بينما يوافق الضابط الكبير معبرًا عن إدراكه العميق للفارق الجوهري بين المخرج، خريج الجامعة الأمريكية الذي يكفي أن ينهره ويحذره بنبرة أبوية، وبين المواطن العادي الذي سيعود إلى القسم غدًا بمصيبة أخرى، وإن لم يعد هو فسيعود ابنه. في مشهد ﻻحق يدور حوار بين المخرج وجيمي/أحمد مالك الذي خرج من القسم هو الآخر في سياق مغاير بعد أن تلقى صفعة على قفاه. يقول المخرج: «بس انت اضربت على قفاك»، فيجيبه جيمي: «مش مهم، المهم إننا بنعمل اللي إحنا عاوزينه». هكذا بكل بساطة يتفهم المخرج أن صفع المواطن العادي هو من طبائع الأمور.
في المشاهد الختامية نرى مواجهة أخرى مع شكل آخر من أشكال السلطة، مواجهة المخرج والسائق للبطلجي، وكيف أن موازين القوى تتبدل في هذه المواجهة بفعل تدخل رجل كبير من قاطني المنطقة الشعبية. هنا تتعارض سلطة القوة مع سلطة الشيب، وتنتصر بالطبع سلطة الشيب في تجسيد جديد لسردية الدولة الأبوية المحافظة.
على مدى الفيلم يغيب المخرج في نوبات موازية للأحداث يتخيل فيها شكل فيلمه، وينتصر في خياله على معوقات صنعه. هذا المخرج لم يكن سوى أحمد عبد الله نفسه، الذي يحاول التعبير عن معاناة صناعة السينما في سياق المشهد المصري الحالي، لكنه يختار أن يتجاهل المعوقات الحقيقية، ويرفض أن يعترف بالفيل القابع في وسط الغرفة، ويرضخ إلى قوانين الصناعة ودوائرها، ويتبنى سردية الدولة، ويصنع فيلمًا تجاريًّا بامتياز لكنه يغلفه بلفافة براقة من الاستقلالية الزائفة.