حرية التعبير: الكوميديا في مواجهة الصوابية السياسية
في 4 ديسمبر/كانون الأول عام 2018 أعلن الممثل والكوميديان الأمريكي «كيفين هارت» تقديمه حفل الأوسكار الذي سيُقام في فبراير/شباط 2019. في هذه الفترة كنت قد فقدت حماسي تجاه حفلات الأوسكار ومُقدميها، لكن ما حدث وقتها جعلني أتابع الأخبار بشغف.
بعد الإعلان بساعات قليلة بدأ المُغردون على موقع تويتر في إعادة نشر تغريدات مُسيئة للمثليين كتبها هارت ما بين عامي 2007 و2011، وطالب عدد من المغردين بمنعه من تقديم حفل الأوسكار بسبب عدم اعتذاره عن هذ التغريدات.
في الأيام القليلة التي تلت هذه المطالبات، رد هارت بمقطع مُصور قصير على إنستغرام، يقول فيه إن الأكاديمية طالبته بالاعتذار علنًا عن تغريداته المُسيئة أو أن يعتذر عن تقديم الحفل، فقرر بالفعل عدم تقديم الحفلة، مما فاجأ العديد من متابعيه. وصرّح هارت بأنه تحدث عن هذه التغريدات من قبل، وشرح وجهة نظره واعتذر عنها، وأنه لا يريد أن يعتذر مرةً أخرى لأنه اعتذر بالفعل.
أثار عدم اعتذاره عاصفة من التغريدات التي تتهمه بالعنصرية وكره المثليين ومجتمع الميم. ورغم ذلك ظهر هارت في عدد كبير من البرامج للاعتذار مرةً أخرى والتصريح بأنه تخطى هذه الأفكار منذ زمن بعيد، وأنه يحظى بأصدقاء مثليين يعتز بهم، لكنه لم يحب فكرة أن تُخيِّره الأكاديمية بين الاعتذار أو عدم تقديم الحفل، وعندما أخبرهم أنه اعتذر بالفعل أخبروه بأن يعتذر مرةً أخرى.
يمكننا أن نعتبر هذه القصة مدخلًا جيدًا لفكرة الصوابية السياسية وعلاقتها حاليًا بأصحاب القرار في هوليوود، وكيف يمكن للكوميديا أن تتطوّر في تلك الظروف؟ وهل يمكن أن نعتبر الصوابية السياسية أداة لقمع حرية التعبير؟
ما الصوابية السياسية؟
الصوابية السياسية هي مصطلح يصف اللغة والسياسات والمقاييس الهادفة إلى عدم إهانة أفراد جماعة معينة من البشر. بمعنى أبسط، هو مفهوم يشير إلى عدم استخدام الكلمات أو الرموز أو التقاليد المُسيِئة لمجموعة من البشر، وذلك لإهانة توجههم الجنسي أو أعراقهم أو جنسهم إلخ.
بدأ المصطلح في الظهور منذ ثمانينيات القرن الماضي، خصوصًا بين طلبة الجامعة، ثم توسع في الانتشار مع بداية الألفية الجديد وما زال يتوسع حد الآن، إلى أن أصبح المنادون به أشبه بسلطة، يمكنها تشكيل جماعات للضغط على جهة ما لمنع شخص ما أو عدد من الأشخاص من الحديث أو تقديم حفل كما حدث مع كيفين هارت.
هذه السلطة التي يدعمها أصحاب القرار (مثل الأكاديمية وشركات الإنتاج في هوليوود) حاليًا جلبت الكثير من النقد على فكرة الصوابية السياسية، لأنها لم تعد أداة للنظر بصورة مختلفة إلى الكلمات والأفعال المُسيئة للبشر، بل أصبحت أداة يمكنها المنع والقمع أحيانًا، حتى وإن طالت أصحاب سُلطة آخرين مثل السياسيين. لهذه الأسباب تحديدًا عبّر العديد من الكوميديانات عن عدم رغبتهم في إقامة حفلات للكوميديا في الجامعات، وتفضيلهم للمسارح ونوادي الكوميديا والبارات، من ضمن هؤلاء الكوميديانات الأمريكي «جيري ساينفيلد» الذي قال -بحسب موقع Hollywood report: إن طلبة الجامعة يحبون فقط استخدام كلمات مثل «هذا عنصري» أو «هذا تفضيل على أساس جنسي»، دون أن يفهموا معنى العنصرية أو الجنسانية بالأساس.
كوميديانات ضد الصوابية السياسية
في حديثه مع الفيلسوف والكاتب «سام هاريس» طرح الممثل والكوميديان البريطاني «ريكي جيرفيس» سؤالًا، هل كل من شعر بالإهانة معه حق في وصم كلمات غيره بـخطاب الكراهية؟ من يُحدد ما هو خطاب الكراهية وما الفارق بينه وبين الرأي العادي؟ يقول جيرفيس إنه لا يريد أن يؤذي أو يجرح مشاعر أحد، لكنه لا يعلم منْ يمكنه تحديد من المسيء، ومن العادي؟
يضيف جيرفيس أن الكثيرين يعتبرونه مُسيئًا عندما يقول إنه مع حق الإجهاض، حيث يتخيلون أنه يكره الأطفال وبالتالي يريدهم أمواتًا. يمكنك قياس فكرة الشعور بالإهانة على أي شيء، بعض الناس يشعرون بالإهانة من المُجاهر بالإفطار في نهار رمضان، البعض الآخر يشعر بالإهانة من مجرد الحديث عن دينه بشكل يبدو له غير لائق، البعض حتى يرى في وجود المثليين إهانة للذكور. فما الذي يمكن أن يُحدد من هو المُسيء ومن العادي؟
في عرض الكوميديا الخاص به تحت عنوان Humanity، قال جيرفيس، إن إحدى السيدات على موقع تويتر طلبت منه ألا يُلقي أيّ دعابات على فكرة الاغتصاب، وإذا فعل يجب أن يتأكد أنه لا يوجد بين الجمهور من تعرض لحادث اغتصاب من قبل. ففكر في أن طرح مثل هذا السؤال على جمهوره أثناء شراء تذاكر العرض سيكون مُهينًا، ويمكن أن يكون مُحرجًا أكثر من الدعابة المُلقاة في عرضه.
تابع جيرفيس في نفس العرض، أن السخرية من فعل سيئ كالاغتصاب مثلًا لا يجب بالضرورة أن يكون أمراً سيئاً، ولا يجب بالضرورة أن تكون متوافقة مع من يرتكب هذا الفعل، بل على العكس، يُمكن أن تكون الدعابة ضد هذا الفعل السيئ وتسخر من فاعله كما يحدث عندما يسخر البعض من المتحرشين مثلًا. الفاصل بين الدعابة السيئة والجيدة هو: أولًا، تقبل كل شخص لها على حدة بما يتناسب مع قناعته، وثانيًا، سياق الدعابة نفسها وهل تدعم الفعل السيئ أم لا.
في مناظرة بين مناصري الصوابية السياسية ومن يخالفونها، قال «ستيفن فراي»، الممثل والكاتب البريطاني، إنه لا يؤمن بأن للصوابية السياسية أيّ تدخل في تغيير قوانين الزواج الخاصة بالمثليين -وهو مثلي بالمناسبة- بل يؤمن بأن الأمر جاء عن طريق الحديث المستمر من ذوي الشأن في المجتمع، أمثال الممثل الشهير إيان ماكلين مع أصحاب القرار مثل رئيس الوزراء، حتى تمكنوا من إقناع أصحاب القرار بضرورة تغيير القوانين.
أضاف فراي عبارة قالها له صديقه راسل مينز، الممثل والناشط الحقوقي للهنود الأمريكيين، حيث قال:
وهذا تحديدًا هو ما يفتقده بعض مناصري فكرة الصوابية السياسية، إذ يُركزون على منع المُسيء من وجهة نظرهم من الحديث، دون أن يعبئوا بكيف يمكنهم الضغط على أصحاب القرار لإصدار قوانين تحمي غيرهم من البشر من الأذى والعنف وهو الأهم.
كوميديانات يدعمون الصوابية السياسية
في مقالٍ بعنوان «الصوابية السياسية لا تقتل الكوميديا… يقتلها الكوميديانات القدامى الراكدون»، تقول الكاتبة والكوميديانة الأسترالية ريبيكا شو إن الصوابية السياسية تُغيّر الكوميديا وتساعد على تطويرها للأفضل، وأن الكوميديانات الكُسالى أو غير الموهوبين هم من يعارضون فكرة الصوابية السياسية. وأضافت أن الرجال، وصفتهم بـ«الرجال الغاضبين الشاعرين بالمرار (Bitter Men)»، يرفضون تقديم كوميديا ذكية تواكب العصر الحالي.
قصدت شو تحديدًا اثنين من الكوميديانات الأستراليين وهم «كيفين ويلسون» و«أوستن تايشوس»، حيث عارضا المناخ الكوميدي الحالي ووصفوه بالميت بسبب حكم الصوابية السياسية له. بالطبع لا توافق شو على آرائهم فيما يخص المناخ الكوميدي الحالي، بل تقول إن المناخ الحالي يميل إلى استعمال بعض البشر (مثل المثليين) على أنهم أكياس رمل يضربونهم متى أحبوا، وأن المجال لا يزال بحاجة إلى التطوير.
انتقد الكاتب والناقد المتخصص في العروض الكوميدية «براين لوجان»، عروض «ريكي جيرفيس» والكوميديان الأمريكي «ديف شابيل»، حيث وصفها بالتعصب الساخر (Ironic bigotry)، حيث ألقى الاثنان عددًا من الدعابات التي تسخر من العابرين جنسيًا مثل الرياضي الأمريكي «بروس جينر» الذي أصبح الآن «كاتلين جينر». لكنه في النهاية قال: إن العرضين كانا جيدين باستثناء دعابة أو دعابتين ألقوهما على العابرين جنسيًا. مما يعني أن العرض يمكن أن يكون جيدًا حتى دون استخدام دعابات قد تكون مُهينة للبعض.
حرية التعبير
يبدو أن الصوابية السياسية باتت تُستخدم كسُلطة لمنع المخالفين في الرأي، ولم تعد أداة لرفع الظلم ودفع العنف عمّن يتعرضون له. الأمر للأسف شديد التعقيد، من يمكنه أن يجزم بصورة قاطعة أن رأيه هو الصواب فقط؟ من يستطيع أن يجزم أنه لا يقول أي شيء يمكن أن يتسبب في أذى أو جرح مشاعر شخص آخر. شخص واحد يمكنه أن يجيب على السؤال الثاني بكل سهولة، شريطة أن يكون ميتًا بالفعل لأن الأحياء على الأرجح يتحدثون، وإذا تحدثوا فعلى الأرجح قد يشعر غيرهم بالإهانة بسبب حديثهم هذا لأي سببٍ كان، فكيف إذًا لأي شخص قد يتسبب في جرح مشاعر غيره أن يُحاضرنا عن الطريقة التي نتحدث بها؟
لا أقصد بما أقوله إن كل ما يقوله الكوميديانات صحيح واتفق معه، بل على العكس، بعض ما يقولونه اختلف معه بشدة، لكن وجود حرية التعبير يمنحني الحق في قول رأيي فيما يقولونه دون أن أشعر أنني تسببت في أذية مشاعرهم بصورة أو بأخرى. حرية التعبير تكفل لك قول رأيك في جميع الآراء التي تختلف معها، ومنع هذه الآراء سيلغي فكرة الرأي المضاد بالأساس، أو سيجعل الرأي المضاد متطرفًا وأكثر حدةً وعنفًا. فالمُصادرة على الرأي ومحاولة قمعه لا تنتج مناخًا صحيًا أبدًا، بل تنتج مناخًا مُغلقًا تحكمه وجهة نظر واحدة، وهو أمر مخالف تمامًا لفكرة الصوابية السياسية من الأساس.
تقول الكوميديانة الأمريكية «ليزا لامبانيلي» في مقال لها على موقع Hollywood Reporter، إن الصوابية السياسية يمكن أن تُغلق العقل ضد وجهات النظر المضادة، مما يجعلها متعصبة، والتعصب بالتأكيد لا يتوافق مع الصوابية السياسية، فكيف يمكننا أن نتخطى هذه المُعضلة؟ ذاك هو السؤال الذي يجب أن نُجيب عليه قبل محاولة قمع أو منع الرأي المضاد طالما لم يتحول إلى خطاب كراهية أو سبًا وقذفًا، وهي جرائم يعاقب عليها القانون، لكن الآراء يجب أن تبقى حرة، نقتنع بها أو نرفضها، نتوافق معها أو نعارضها، نتفاعل معها أو نتجاهلها، لكننا أبدًا لا نشارك في قمعها أو منعها إلا في حدود ما يفرضه القانون الحاكم بيننا.
وحتى القانون نفسه لن يجد توافقًا جماعيًا، فبعض القوانين قد تُستخدم ضد البعض للتنكيل بهم كمان حدث مع نجيب محفوظ بعد رواية أولاد حارتنا، أو ما حدث مع العديد من الفنانين بسبب قانون تجريم ازدراء الأديان. في النهاية، كل شخص يُعبر عن أفكاره الخاصة بالمفردات التي يعتقد صوابها، وهو أمر لن يتغير للأسف طالما حيينا. ثم إن تغيير المفردات -على الأرجح- لا يغير من معتقدات الشخص تجاه ما يراه خطأ، وهو ما يفسر وجود العديد من النواب الأمريكيين العنصريين في مجلس الشيوخ وغيرهم في المناصب السلطوية، الذين قرروا تغيير مفرداتهم لكن أفكارهم وكراهيتهم لغيرهم لم تتغير، وهذا ما أتمنى تغييره في السنوات المقبلة.