العالم بعيون خفاش: شرح لأشهر بحث فلسفي في القرن العشرين
عنوان الموضوع يحمل مفارقة أليس كذلك، كيف نرى العالم بأعين خفاش وهو كائن أعمى؟
حسنًا هذه المفارقة بالضبط ما جعلت الفيلسوف الأمريكي «توماس نايجل» يعكف على كتابة ورقة فلسفية مستفيضة وينشرها عام 1974 في إحدى أعرق المجلات الفلسفية في العالم، وهي مجلة «البحث الفلسفي» The Philosophical Review.
هذه الورقة هزت الوسط الثقافي الغربي كله وقت صدورها، البعض رحّب بها مثل الفيلسوف الأمريكي المخضرم «دانيال دينييت» في معرض تفنيده لها في كتابه المهم «الوعي مُفسرًا» قائلاً إنها أشهر «تجربة فكرية» عن الوعي على الإطلاق [1]، والبعض انزعج منها، لكن «نايجل» ظل يردد دائمًا بأن إحدى أهم أدوات الفلسفة هي الدفع بحدود معرفتنا العلمية لأقصى مدى ممكن. أليس على الفلسفة أن تكون أداة للحزن والأذى ومفيدة للغباء كما يقول «جيل دولوز»؟
الورقة ببساطة تقول باستحالة رؤيتنا للعالم بعيون الخفاش، وتشن هجومًا شديدًا على المذهب الفيزيائي بصيغته الكلاسيكية Physicalism التي تختزل الوجود والواقع في القوانين الفيزيائية. ووفقًا لهذا الموقف، يتكون كل شيء في الوجود، ملحوظ أو غير ملحوظ، من مواد وعناصر فيزيائية، وهو ما يعني بالضرورة أن كل ما ينتجه العقل البشري، من أفكار وقيم وأحلام وذكريات، أيضًا له خواص فيزيائية.
تأتي هذه النظرية الاختزالية للوجود ردًا على إشكالية الرابط بين العقل والجسد التي أحدثها المذهب المثنوي الديكارتي الشهير، والذي ينهل من التقليد المثالي الأرسطوي والأفلاطوني، ويقول إن الوجود مُقسم إلى وجود فيزيقي مادي، ووجود عقلي غير مادي، فالعقل مثلاً يتأسس على حقيقتين أنطولوجيتين: الأولى أنه يتكون من جانب مادي وهو الدماغ الذي يحميه الجمجمة… إنه العضلة المعقدة التي تتكون من مليارات الخلايا العصبية. والثانية، هي العقل أو الإدراك أو الوعي الذاتي وهو غير محكوم بالقوانين الفيزيائية.
ترويض المادة
قبل أن نشرح ورقة «نايجل» علينا أن ندرك شيئين: أنها أولًا، لا تدافع بالضرورة عن المثنوية، وثانيًا، أن الفيزيائية رفضت الرابط الغيبي الذي قدمه «ديكارت» بين العقل والجسد، وقالت إنهما يتكونان من مادة واحدة، وثالثًا، أنها مذهب اختزالي بمعنى أنها موقف يختزل أجزاء من أي نظام معقد إلى أجزاء تتألف من خصائص فردية أساسية، فمثلاً قطرة الماء تتكون من جزئيات وكل جزيء منها يتكون من ذرة أكسجين وذرتي هيدروجين، وشعاع الضوء عبارة عن موجة كهرومغناطيسية ذات طاقة تتكون من جسيمات دقيقة جدًا تدعى فوتونات.
ترى الاختزالية أن الحيوانات والبشر ما هم إلا آلات بالمعنى الميكانيكي كما أعلن «لامتري» في كتابه «الإنسان كآلة»، وهو ما وصفه «ميشيل فوكو» بأن مذهب أفضى إلى وجود نظرية عامة في الترويض «أدخلت الجسد البشري ضمن آلية للسلطة تُنقِّب فيه وتُفكِّك مفاصله وتُعيد تركيبه». [2]
«كارل بوبر» ينهال هجومًا على هذا الموقف في كتابه «النفس ودماغها»، ويخلص إلى أن الأشياء المادية ليست «نهائية» Ultimate، بل تجاوزت المادة نفسها وأنتجت العقل الذي خلق اللغة ومن ثَمَّ الأساطير والقصص والأعمال الفنية، أي التجربة المعيشة أو الوعي، فـ «نتائج الفيزياء الحديثة تهيب بنا أن نتخلى عن فكرة الجوهر أو الماهية، وتشير إلى أنه ليس هناك شيء من قبيل الكيان الثابت الدائم عبر الزمن، وأنه ليس هناك جوهر باقٍ حامل أو مالك لخصائص الشيء أو صفاته».
وبالتالي يسع للفيزيائي الحديث أن يقول إن الأشياء المادية لها بنية ذرية، ولكن الذرات لها بنية بدورها، فالضوء مثلًا ليس مادة ولكن طاقة، ولذلك يصعب أن نصف بنية الذرات على أنها مادية، ومن «خلال برنامج تفسير بنية المادة، تحتم على الفيزياء أن تتجاوز المادية». [3]
منْ الإنسان؟
ورقة «الخفاش» تتجاوز المادية بشكلها الصارم-الدوجمائي أحيانًا-وتركز على سؤال «منْ هو» وليس «ما هو» الإنسان؛ مركز ثقلها ليس المادة بل الوعي أو الإدراك أو العقل أو- إذا تحدثّنا بلغة «هيجل»- المفهوم الذي تتأسس عليه ثنائية الوجود والجوهر، وهي تستعير الترسيمة الجميلة، الاستخدام/السكن لـ «ميرلوبونتي»، حيث يرى «نايجل» أن العلم يتعامل فعلًا مع الأشياء ويستخدمها لكنه لا يسكن فيها ولا يحل بها ولا يراها ولا يبقى داخلها، فتفكير العلم لا يسكن العالم وإنما يدخل به إلى المختبر، بينما يعكف العقل على «تسجيل» العالم ومن ثَمَّ «الحلول» فيه.
الاختزالية فيما يقول «نايجل» في كتابه «الإخفاء والتعرض» [4] ترفض هذا النوع من «الواقعية الحلولية»، بل وحتى ترفض المثالية المتعالية الكلاسيكية عند «كانط» والظاهراتية عند «هوسرل»، وحتى الما-صدقية أو البراهنية التي ترتبط بتراث «ديفيد هيوم»، وتقليد الوضعية المنطقية وأقطابها مثل «راسل» و«فيتجنشتاين» وحتى المذهب الشكي التقليدي عند «هوبز» و«سبينوزا».
يبدأ «نايجل» الورقة بالتصريح التالي: «من دون الوعي، تصبح مشكلة العقل-الجسم مملة»، ويصف بعد ذلك الاختزالية بأنها «هستيرية» [5] ويرفضها شكلًا وموضوعًا ويقول إنها همّشت علاقة العقل بالدماغ وفشلت في مقاربة تلك العلاقة، إذ يقول في موضع آخر بكتابه «الفلسفة العلمانية والمزاج الديني» إن الاختزالية احتكرت الوصف الدقيق الذي تعطينا إياه الفيزياء عن العالم، فـ«عادةً ما يحاول المشروع الاختزالي استعادة الجوانب غير المفهومة من العالم ونبذها منه، عن طريق تحليلها فيزيائيًا، لكنه ينكر أي حقيقة لا يمكن اختزالها فيزيائيًا. وأنا أظن أن هذا المشروع مآله الفشل، فالتجربة الواعية والفكر والقيم كلها ليست أوهامًا، حتى لو فشلت الفيزياء في مقاربتها». [6]
لا ترى الورقة أن جميع الحقائق في الوجود فيزيائية أو مادية فحسب، بل ثمة حقائق أخرى مثل المفاهيم العقلية والحسابية، وإن كانت تعتمد في تطبيقها على الوجود الفيزيقي. وهو ما يُعلِّق عليه «نايجل» بالقول إن «العلوم الفيزيائية لا يمكنها أن تفسر كل شيء مثل الرياضيات والأخلاق، لمجرد أنها حققت إنجازات عظيمة. ليس لدينا أي مبرر على الإطلاق لتهميش العقلنة والتأمل والتحليل كأدوات للكشف عن الحقيقة لمجرد أنها ليست أدوات فيزياء». [7]
التجربة الواعية ظاهرة شاملة، تحدث عند البشر وعند الحيوانات؛ فلنجرب أن نتخيل لوهلة ما الحياة من منظور شخص يبلغ من الطول 9 أمتار، سيكون هذا سهلًا؛ سنرى أسطح المباني والبشر العاديون قصار القامة والقطارات تسير ببطء. والآن فلنتخيل ماذا سيكون شكل الحياة من منظور قلم، هل هذا ممكنًا؟
بالتأكيد لا. لم ولن نعرف أبدًا الحياة من منظور قلم؛ قد نغلق أعيننا ونستطيع أن نتخيل ونشعر ونرى اللاشيء، نستطيع أن نجلس في غرفة مظلمة ونرى اللا-مرئي، لدينا دائمًا ارتباط بالخبرات الأضعف، لكن القلم ليس عنده تجربة واعية بالوجود أو بالعدم – إذا شطحنا فلسفيًا قليلاً- ولا حتى بنفسه، فالقلم لا يدرك ذاته، ولا يوجد شيء اسمه «قلمية»، وبالتالي ليس هناك على الإطلاق طابع شخصي أو ذاتي Subjective character لتجربة كون القلم قلمًا.
لكن هل يمكننا أن نتخيل الحياة من منظور الخفاش؟ إن هذا الحيوان يقدر على رؤية محيطه في الظلام لا عن طريق النظر بل عن طريق نظام الملاحة الشبيه بالسونار، عبر التنصت لصدى نبضات صوته ليهتدي بها، ومع ذلك نحن لا نمتلك هذه الحاسة وليس لدينا هذا النوع الإدراكي للعالم، وبالتالي طابعنا الشخصي لتجربة إدراكنا للعالم يختلف عن مثيله لدى الخفافيش.
على عكس مثال الشخص الطويل، لن نستطيع أبدًا رؤية العالم من منظور الخفاش لأن تجربة إدراكه لها طابعًا ذاتيًا Subjective، يختلف عن تجربتنا في رؤية العالم والشعور به، ولأننا لا نمتلك حاسة السونار تلك، وبالتالي لا نستطيع من خلالها فهم أو تخيل تجربة الخفاش في إدراك الحقيقة والعالم والواقع بشكل موضوعي. فبما أن «الكيفية» تحصل عند «أنا» الخفاش من وجهة نظرها فقط، فهي لا تكون تجربة ظاهرية شعورية إلا بالنسبة إلى «أنا خفاشية» تظهر لها وتشعر بها.
ربما نستطيع تخيل العالم من منظور الخفاش، بأن نُركِّب منظورنا على منظوره، أي أن «نؤنسنها»، بمعنى أن نعيش تجربته من خلال تجربتنا، أو أن نعرف التشريح الفيزيولوجي العصبي للخفاش، لكن هذا سيؤدي إلى ما سماه «نايجل» بـ«الاختزال الخاطئ»، لأن طريقة ظهور العالم بما هو، للخفاش عبر السونار، هي «كيفية» ذاتية شديدة الأصالة والتفرد.
إذا كان معي جهاز للكشف عن المعادن، واستطاع الجهاز أن يحدد أن المعدن الذي أحمله في يدي هو قطعة ذهب، كلانا، أنا والجهاز، نستطيع التعرف على هذه القطعة، لكن الجهاز لن يكون لديه إدراك لهذا المعدن مثلي؛ أنا أرى وأدرك الذهب «بطريقةٍ ما» من خلال تجربتي الواعية، بينما الجهاز محرومًا من هذا. إنه محروم من شعوري الخاص بالجوع والعطش والألم ووخزة الضمير… من الوعي.
الكيفيات والإنسان الشامل
ما يقصده «نايجل» من هذه التجربة هو الأشياء كما تبدو لنا، وهي ما اصطلح عليه في فلسفة العقل باسم «كواليا» Qualia أو «كيفيات» [8]، وهي موجودة عندنا وعند الخفاش والقطة والكلب وعند الشخص الطويل، وليست موجودة عند القلم وجهاز الكشف عن المعادن، إنها الوعي باختصار إنها حدث عقلي مربوط بزمان ومكان لكنه ذاتي غير مادي، وليس له جانب موضوعي، أي لا يمكن عزل التجربة الشعورية بذاتها موضوعيًا عن «الكيفية» التي نحصل عليها بها.
ولهذا السبب بالتحديد هاجم «نايجل» المذهب الاختزالي لأنه يرفض ويعجز عن تفسير حقائق التجربة الواعية الذاتية- الأشياء كما تبدو لنا- ويكتفي فقط برصد وتحليل موضوعي للأشياء بما هي ذاتها، أي على نحو مستقل عـن «كيفية» إدراكنا لها. وبالتالي من المستحيل رصد «الكيفيات» موضوعيًا.
يُقال إن «إروين شرودنجر» قال مرة في محاضرة بجامعة كامبريدج إن «الوعي هو مفردة، جمعها مجهول» [9]، وهو نفس ما ردّده شيخ النقد الغربي «نورثروب فراي» حينما قال إن الذات المُدرِكة والموضوع المُدرَك يتحدان معًا عن طريق الخيال؛ الأساطير واللغة، أو عن طريق ما سماه الشاعر الأمريكي «والاس ستيفنز» بـ «العقل المركزي» و«الخيال الرئيسي» و«الإنسان الشامل». [10]
إنه مبدأ Verum Factum الذي صاغه فيلسوف النهضة الإيطالي «جيامباتيستا فيكو»، وعنى به أن ما هو حقيقي بالنسبة لنا، هو ما نخلقه بأنفسنا؛ فطالما أن العقل يتخذ من نفسه موضوعًا له فإنه لا يستطيع خلق نفسه: «الحقيقة هي العالم الذي نصنعه». إنه الاستبطان أو الملاحظة الذاتية للخبرة الذاتية إذا استخدمنا تعبير «توماس كون».
هذا المنعطف بالضبط هو ما جعل هناك شيئًا اسمه فلسفة العلوم، فبعد ما أحدثه «فيتجنشتاين» من شرخ عظيم في الفلسفة في رسالته المنطقية Tractatus، وقال إن حدود عالمنا هو حدود ما نلفظه من كلام، انقسمت الفلسفة إلى قارية وتحليلية؛ الأولى ركزت على «الخيال الرئيسي» أو الوعي أو الميتافيزيقا الحداثية كما سماها «هيدجر»، والثانية، حملت معها إرث التجربة الواعية في التنظير داخل المعمل، ووجدت أن اليقين التام والمطلق والموضوعي من الحقيقة العلمية، هو أمر مستحيل، ولهذا مثلًا كان «بوبر» من أشد مهاجمي نظرية التطور.
بالطبع موضوع «الكيفيات» هذا سيراه «راسل» أو «فيتجنشتاين» مثلًا نوعًا من أنواع «ميتافيزيقا علمية شاطحة»، وهذا بالضبط ما أوضحه «دينيت» في «الوعي مُفسرًا»، فهو وإن لم ينكر واقع التجربة الشعورية، قال إن «الكيفيات» مسألة وهمية لا وجود لها وفكرة غير عملية وبمجرد دخولها المعمل تصبح غير صحيحة تخلو من أي معنى، وصاغ بدلاً من ذلك تجربة ذهنية جميلة باسم «مضخات الحدس». [11]
- D.C. Dennett, «Consciousness Explained» P. 441.
- ميشيل فوكو، «المراقبة والمعاقبة»، ترجمة علي مقلد، ص159.
- K.Popper, «The Self and Its Brain» P. 7.
- T.Nagel, «Concealment and Exposure», P. 175.
- T.Nagel, «What is it Like to be a Bat?», P. 2.
- T.Nagel, «Secular Philosophy and the Religious Temperament», P. 25.
- Ibid, p. 26.
- D.C. Dennett «Quining Qualia» in Marcel & Bisiach, «Consciousness in Contemporary Science», P.42.
- N.Frye, «Myth and Metaphor», P.129.
- Ibid, p. 129.
- J.Baggini, «The Philosopher’s Toolkit» P. 58.