القرار الجمهوري رقم 300 المنشور بالجريدة الرسمية في يوليو 2016م الخاص بتشكيل لجنة برئاسة إبراهيم محلب لحصر ممتلكات هيئة الأوقاف، لا يحتاج إلى شرح، بقدر احتياجه إلى بيان مضمونه ونقده بمعايير موضوعية وقانونية. وثمة سبعة مسائل في هذا القرار هي:

المسألة الأولى: هي اقتصار مرجعيته على «الدستور» وحده. فديباجة القرار تقول: «رئيس الجمهورية: بعد الاطلاع على الدستور، قرَّرَ…إلخ». ولا يوضح القرار: أي مواد من الدستور اطلع عليها ليستند إليها في هذا الموضوع؟ فدستور مصر لسنة 2014م الذي اشار إليه القرار يخلو من أية نصوص تخص الأوقاف، أو تشير إلى مسئولية الدولة تجاهها؛ وذلك بعد أن تم حذف المواد (21، و25، و212) التي تضمنها دستور سنة 2012م بشأن الأوقاف.

وهذا يعني أن الاطلاع على الدستور في ديباجة هذا القرار قد يكون منصرفًا إلى نص المادة الثانية التي تقول إن «الإسلام دين الدولة … ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع». وذلك باعتبار أن خصوص الوقف يدخل في عموم هذا النص. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن المستفاد من تلك المبادئ هو أن «الوقف» لا يعتبر ملكية عامة، وإنما هو «نمط خاص» من الملكية قائم بذاته، وله قواعده وأحكامه الشرعية.

ولا يدخل هذا النمط الوقفي للملكية ضمن أنواع الملكية التي نص عليها دستور سنة 2014م نفسه في مادته رقم 33 التي حددتها في «الملكية العامة، والملكية الخاصة، والملكية التعاونية». وقد جرت القوانين وأحكام المحاكم المصرية بمختلف مستوياتها على اعتبار أن أعيان الأوقاف ومؤسساتها وأبنيتها بما فيها أبنية المساجد لا تدخل ضمن «الأموال العامة»، ولا تأخذ حكم المنافع العامة المملوكة للدولة؛ وإنما تظل محتفظة بتكييفها الشرعي باعتبارها ملكية من نمط خاص تنظمها أحكام الوقف الشرعية وحدها دون غيرها.

استقلال الأوقاف بنمط خاص للملكية، أمر لم ينص عليه دستور 2014م، وهذا يطرح الشكوك حول دستورية القرار الجمهوري بتشكيل لجنة محلب.

ومن أظهر الأدلة على ذلك أن هيئة الأوقاف المصرية تسدد سنويًا مبالغ تتراوح بين ثلاثة وأربعة ملايين جنيهًا لمصلحة الضرائب العقارية المستحقة على الأعيان الوقفية التي تديرها باعتبارها أمولًا خاصة، كأموال الأفراد والشركات من هذا الاعتبار. ويظهر هذا الرقم في الحساب الختامي للهيئة سنويًا. كما تخضع أوراق وزارة الأوقافلرسم الدمغة الخاص بمؤسساتها الخيرية والإدارية؛ وهذا الرسم لا يتم تحصيله إلا على الأموال الخاصة أيضًا؛ حيث أكدت فتوى مجلس الدولة بتاريخ 30/12/1959م على أن إدماج ميزانية وزارة الأوقاف في ميزانية الدولة لا يغير صفة الأوقاف الخيرية باعتبارها أشخاصًا معنوية خاصة، تخضع للضرائب كما تخضع أموال الأفراد (ملف رقم 37/2/82_916 أرشيف مجلس الدولة).

وعليه فإن استقلال الأوقاف بنمط خاص للملكية، أمر لم ينص عليه دستور 2014م، وهذا يطرح الشكوك حول دستورية القرار الجمهوري بتشكيل لجنة محلب؛ حيث أن موضوعه يقع في منطقة «فراغ تشريعي» في الدستور القائم؛ ولا يمكن الجزم بدخوله أو عدم دخوله ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية.

المسألة الثانية: هي أن القرار جاء خلوًا من النص على مدة زمنية تنتهي فيها اللجنة من أعمالها، ومن ثم فغالبًا ما لن يكون أعضاؤها في موضع التزام قانوني بوقت معين لإنهاء مهماتهم، وسيَرون أن الوقت مفتوح أمامهم ما مد الله في أعمارهم وأعمار الذين سيأتون من بعدهم لإنجاز تلك المهمات. أو قد يختصرون المدة ويختزلونها بما لا يتناسب مع ثقل المسئولية الملقاة على عاتقهم في الحصر والتنقيب عن الأوقاف الضائعة؛ اكتفاءً بالحصر الموجود فعلًا لدى هيئة الأوقاف والتصرف على أساسه.

ومما يؤكد هذا الاحتمال الثاني أن المادة الرابعة من القرار نصت على أن ترفع لجنة محلب تقريرها النهائي وتوصياتها لرئيس الجمهورية؛ دون تحديد مدة معينة تلتزم بأن ترفع فيها هذا التقرير إليه. ثم إن تكليف اللجنة بكتابة تقرير ورفعه للرئيس أمر يتناقض مع طبيعة اختصاصات اللجنة نفسها التي نص عليها القرار في مادته الثانية، فلا تدري اللجنة ما مسئوليتها بالضبط: هل ستدرس وتكتب تقريرًا، أم ستقوم بعمليات الحصر والتقييم والمراجعة وإنشاء أرشيف والتبليغ عن جرائم الاستيلاء على الأوقاف… إلخ؟ أم ستقوم بالأمرين معًا؟ وهل بوسعها فعلا القيام بذلك كله وفي أي مدة زمنية يمكنها الانتهاء من ذلك كله؟

والمسألة الثالثة هي: أن اختصاصات اللجنة تكاد تستوعب اختصاصات «هيئة الأوقاف المصرية» التي نص عليها قانون إنشائها رقم 180 لسنة 1971م، ولا أحد يستطيع أن يتكهن بمآلات سير العمل بالهيئة عندما تمارس اللجنة اختصاصاتها؛ حتى ولو كان من أعضاء اللجنة رئيس مجلس إدارة هيئة الأوقاف؛ لأنه في هذه الحالة سيكون واحدًا من بين ستة آخرين حددهم القرار وهم: ممثل لوزارة الأوقاف، وممثل لوزارة الإسكان والتعمير، وممثل لوزارة الاستثمار، ورئيس مجلس إدارة المجموعة الوطنية لاستثمارات الأوقاف، وممثل الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وممثل هيئة الرقابة الإدارية. ثم: هل «ممثل» كل وزارة من تلك الوزارات سيكون مفوضًا باتخاذ القرار أو التصويت أو إبداء الرأي دون الرجوع إلى وزارته أم لا؟

والمسألة الرابعة هي: أن اللجنة مكلفة بنص قرار تشكيلها بـ «حصر كافة أملاك هيئة الأوقاف المصرية، سواء كانت (أراضي ـ مباني ـ مشروعات ـ مساهمات في شركات)». ومعنى ذلك أن القرار يفترض أن هيئة الأوقاف ليس لديها «حصر» بما سماه القرار «أملاكها»؛ إذ لو أن لديها هذا الحصر لما جاز تكليف اللجنة «بحصر المحصور»، وإلا كان الأمر غير معقول، ولكان السؤال الأهم هو: هل تعمل هيئة الأوقاف المصرية (وهي «هيئة اقتصادية» بحكم قانون إنشائها في سنة 1971م) بدون أن يكون لديها حصر شامل للممتلكات التي تديرها وتستثمرها؟

طبعًا الإجابة هي النفي؛ فالهيئة لديها حصر وإحصاء يقول: إنها تدير 165 ألف فدان من الأراضي الزراعية الموقوفة، وأنها تؤجر من هذه المساحة 104 آلاف فدان لصغار المزارعين بإيجارات أقل من أسعار السوق لاعتبارات اجتماعية وهذا بالمخالفة لنص قانون إنشائها الذي كلفها بالإدارة حسب قواعد نظام السوق الحر، إضافة إلى استثمار الثروة العقارية وبعض المصانع والشركات التي تديرها منذ سبعينيات القرن الماضي.

يكفي أن نشير إلى أن الهيئة لا يوجد لديها «دفتر أصول» يوضح أنواع الأصول الثابتة التي تديرها لنعرف الخلل الفادح في طريقة إدارتها.

والمفارقة ليست في عدم وجود حصر بممتلكات الأوقاف التي تديرها الهيئة حتى ينص قرار تشكيل لجنة محلب على أن من مهماتها «الحصر»؛ وإنما المفارقة في وجود خلل فادح في طريقة إدارة هيئة الأوقاف واستثمارها لتلك الأوقاف من العقارات والأراضي والمشروعات والآلات والإيداعات البنكية.

ويكفي أن نشير إلى أن الهيئة لا يوجد لديها «دفتر أصول» يوضح أنواع الأصول الثابتة التي تديرها ويميز بينها حتى نعرف ما لديها بالضبط من: الأراضي الزراعية والعقارات والأراضي الفضاء والمباني والأرصدة البنكية والمصرفية ـ…إلخ، كما أن الهيئة تستبعد منذ إنشائها في سنة 1971م الأصول الثابتة من الأراضي والعقارات التي يتم استبدالها بالقيمة البيعية لعدم وجود دفاتر وسجلات تحليلية توضح قيمتها الدفترية، الأمر الذي يؤدي إلى تشويه ميزانية الهيئة بكاملها، ويؤدي أيضًا إلى عدم إمكانية تقييم أدائها الاستثماري، فضلًا عن عدم وجود حسابات تكاليف لدى الهيئة عن نشاط المقاولات الذي تقوم به، وانخراط الهيئة في حجم قضايا يبلغ 16 ألف قضية أمام المحاكم المختلفة، وجزء كبير منها مع هيئات وجهات حكومية وسيادية لا ولن تأخذ معها حقًا من حقوق الأوقاف، إضافة إلى مشكلات تتعلق بأربعة عشر ألف حكر وقفي على الأقل منتشرة في مختلف أنحاء الجمهورية، أغلبها تحت الاستيلاء وسوء الاستغلال من واضعي اليد عليها.

والمسألة الخامسة هي: أن القرار ينص على أن من اختصاصات لجنة محلب «تقييم عوائد الاستثمارات، واتخاذ اللازم لتعظيم أملاك الهيئة». و«حصر كافة الأراضي والأملاك المستولى عليها، واتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية المتبعة لاسترداد تلك الأراضي ومتابعتها». وسبق أن بينا إشكالية «حصر الموقوفات»، بما فيها المستولَى عليها. ونضيف هنا أن الخطأ في هذا النص ذو ثلاث شعب:

أولها أنه أسند للجنة تقييم عوائد الاستثمارات الوقفية، وهي لجنة بيروقراطية ليست مختصة بمثل هذه المهمة. صحيح أن القرار خولها الاستعانة بمن تراه لأداء مهماتها؛ لكنها قد لا تجد مكاتب فنية متخصصة وذات خبرة في شئون الاستثمار الوقفي تحديدًا. وكان من المفترض أن تكون هيئة الأوقاف بعد أن بلغ عمرها أكثر من أربعين سنة، قد طورت خبراتها في تقييم استثماراتها الوقفية، ولكنها لا تتوفر على شيء من ذلك حتى اليوم بدليل ما نص عليه قرار تشكيل لجنة محلب.

وثانيها: أن إسناد مهمة «تعظيم أملاك الهيئة» ليس من اختصاص هكذا لجنة أيضًا، وإلا لكان معنى هذا شطب هذه المهمة من مسئوليات هيئة الأوقاف المصرية وهي مسئولة عن ذلك مسئولية قانونية مباشرة .

وثالثها: أن القرار يتحدث دائما عن «أملاك هيئة الأوقاف»، وهذا تعبير خاطئ شرعًا وقانونًا؛ حيث أن هيئة الأوقاف لا تمتلك ما تديره من أراضٍ وعقارات وأموال موقوفة، وإنما تديرها فقط بموجب وكالة قانونية عن وزارة الأوقاف، ووزارة الأوقاف ذاتها قد أقامها القانون «ناظرًا» على الأوقاف نيابة عن الواقفين. ومن ثم فإن يد هيئة الأوقاف ليست يد تملُّك وإنما هي يد أمانة وإدارة، أو يد وكالة بمفهوم القانون المدني، وبالمفهوم الشرعي أيضًا. وعليه يكون استعمال تعبير «ممتلكات هيئة الأوقاف» خطأً بكل المعايير.

المسألة السادسة هي: أن قرار إنشاء لجنة محلب ينص على أن من اختصاصها «إعداد التقارير اللازمة التي تتضمن المشاكل والمعوقات التي أدت إلى الاستيلاء على هذه الأراضي واقتراح الحلول للحيلولة دون تكرارها مستقبلًا». و«إنشاء أرشيف إلكتروني لحفظ الحجج والخرائط وممتلكات الهيئة». أما إعداد تلك التقارير فهي مسألة بحثية استقصائية تكفلت بقسم كبير منها بحوث ودراسات كثيرة، وتقارير رسمية صدرت عن أجهزة الرقابة في الدولة.

وأما إنشاء أرشيف إلكتروني لحفظ الحجج والخرائط لممتلكات الهيئة، فهو مشروع يجري تنفيذه في ديوان عام وزارة الأوقاف بـ «قسم الحجج والسجلات» منذ بداية تسعينيات القرن الماضي؛ وقامت بتنفيذه وحدة الميكروفيلم بجريدة الأهرام بموجب اتفاق موقع مع وزارة الأوقاف في عهد الدكتور محمد الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف.

وفي مارس سنة 2013م أعلن مدير عام مركز المعلومات والتوثيق بالوزارة أن مؤسسة الأهرام سلمت الوزارة 3079 فيلمًا بإجمالي 85 ألف حجة وقفية تمت مراجعتها وأرشفتها إلكترونيًا (من إجمالي يصل إلى 130 ألف حجة تقريبًا). ففيم إذن تكليف لجنة محلب بعمل أرشيف إلكتروني لهيئة الأوقاف سيكلفها مبالغ طائلة، ويستهلك منها وقتًا طويلًا؟ ولماذا لم ينص القرار على «استكمال» وليس إنشاء أرشف جديد؟ ولم لا تأخذ الهيئة نسخة من الوزارة توفيرًا للنفقات واختصارًا للوقت والنفقات؟

والمسألة السابعة هي: أن القرار جعل من اختصاص لجنة محلب «دراسة إمكانية استغلال مقومات الهيئة في دعم الاقتصاد القومي، وتقديم خطة تنفيذية للدراسة»، و«إخطار جهات التحقيق بالجرائم التي تشكل عدوانًا على المال العام، وباقي جهات الدولة لتحصيل مستحقاتها». والسؤال هو: على أي أساس قانوني أو دستوري ستقوم اللجنة بمثل هذه المهمة؟

وإذا كان دستور 2014 لم يتضمن شيئًا بخصوص الأوقاف، وإذا كانت الأوقاف وهيئتها لها قوانينها ونظمها وأصولها الشرعية المستقرة؛ فما المسوغ القانوني أو الدستوري لمثل هذا الاختصاص الذي أسنده القرار الجمهوري للجنة المهندس محلب؟ وهل بمقدرة اللجنة حقًا أن تقوم بإبلاغ جهات التحقيق بالجرائم التي تشكل عدوانًا على الأوقاف؟ نتمنى أن تنجح اللجنة في «حصر الأوقاف» واسترداد الضائع منها ليعود إنفاق ريعها كما كان في مساعدة الفقراء والمساكين والمرضى وطلبة العلم والعاجزين عن العمل وغير ذلك من وجوه البر والخيرات والمنافع العامة.