زفرة المستوحش!
سُئل بعض الصوفية: ما دهليز نزول العلوم الإلهية في القلب؟، فقال: «ذهاب جميع النقول منه». ويوشك الفن أن يكون كذلك، فقد رووْا أن شاديًا سأل ناقدًا عن كتابة الشعر، فقال له: احفظ عشرة آلاف بيت، ثم انسها.
فقول الناقد: «انسها» في الفنون عِدْل قول العارف: «ذهاب جميع النقول منه» في العلوم. فالشاعر المطبوع يُوفَّق إلى ضروب من الإلهام لا يدرك مثلَها ولا قريبًا منها شاعرُ الصناعة؛ لأن هذا الأخير في شُغُل بصناعته، والمطبوعُ خليُّ النفس، قد كفته قريحتُه مؤنة البحث والتقصي، فهو منتصِبٌ أبدًا للتلقي.
على أنه لا بد له -مع ذلك- من براعة تنفي عن طبعه شينَ السذاجة وقربِ المورد، كما نفى عنه طبعه هُجنة التكلف في استجلاب الحُسْن. وقد قيل: إن بعض البراعة مهارة، وبعضها طبع. وشتان بينهما؛ فليس سواءً توالهٌ ووَلَه!.
وفي قصيدة «سبعون» من البراعتين مما لا يخفى على ذي بصر بالقول ما لا يجتمع مثله إلا لأهل الطبقة العليا من الشعراء. ففي عنوانها -مثلاً-من المعنى فوق ما يدل عليه ظاهره بادي الرأي؛ إذ ليست «السبع والسبعون والسبعمائة» في العربية كسائر الأعداد.
فقد ذكر جماعة من الأدباء فيما حكاه صاحب «مغني اللبيب» كالحريري، ومن النحويين كابن خالويه، ومن المفسرين كالثعالبي أن العرب إذا عدوا قالوا: .. ستة سبعة وثمانية إيذانا بأن السبعة «عدد تام»، وأن ما بعدها عدد مستأنف، واستدلوا على ذلك بآيات، إحداها: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم» إلى قوله سبحانه: «سبعة وثامنهم كلبهم».
والحق أن مسألة «تمام العدد سبعة» خارجة عن علم النحو جملة إلى ما يسمونه «علم العدد»، وما ظهور مصطلح «واو الثمانية» إلا ثمرةَ ذلك.
وههنا إشارات تدلك على معنى في هذا العدد لا تراه في غيره: فالمكان والزمان مدارهما على التسبيع: السموات سبع، والأرضون سبع، والأيام تتعاقب حتى تتم سبعة، ثم تُستأنف من جديد، والإنسان مظروفُ زمانه ومكانه، فإذا اتخذ من العدد الضابط لهما غاية يستأنف بعدها عددا جديدا لم يكن ذلك في التصور بعيدا، وزد على هذا ما يذكره شيوخ التربية في باب المجاهدات والسلوك من «سَبْعيِّة» مراتب النفس الإنسانية.
فها قد رأيت العالَميْن الأكبر والأصغر قد ابتُنيا على التسبيع، فأية غرابة في أن يوصف العدد «سبعة» بالتمام؟! والسبعون أخت السبعة في جنوحها نحو الرمز، غير أنها تشير إلى «مطلق الكثرة».
وفي الكتاب العزيز: «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم» (التوبة/٨٠)، قال الرازي في تفسيره: «قال المتأخرون من أهل التفسير: السبعون عند العرب مستقصاة؛ لأنه عبارة عن جمع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف»، وقال الزمخشري في تفسيره أيضًا: «السبعون جارٍ مجري المثل في كلامهم للتكثير».
وكذلك الحال ههنا، فليست «السبعون» عددًا يذكر في حساب الأرقام، ولكنها «كَثْرةٌ معتبرة» في معرفة الناس وخبرة الحياة في مدى الأيام والأعوام، وهو معنى يطالعك في جملة القصيدة، كما يطالعك في تفصيلها:
فهذا التقلب بين صفوها وكدرها، وحلوها ومرها، وإقبالها وإدبارها هو ثمرة «السبعين»؛ ولذلك قالت العربُ وصدقت: «ظنُّ الشيخ خير من معاينة الفتى»؛ لأنه ظن تُسدِّدُه الحكمة، ويسوسه الرشد، وتسعده الأناة والريْث، فلا عجب أن قال المتنبي: «والشيب أوقر والشبيبة أنزق».
ومن الإلهام أيضًا في «سبعون» رويُّها؛ وذلك أن حرف الضاد غدا علمًا على العربية، فهي تنفرد به دون اللغات، وفي الانفراد وحشة، وهذه الوحشة هي النَفَس الساري في أنحاء القصيدة وأثنائها، فالشاعر مستوحش من هذه السن، فهو يتمتم بذكرها مفردةً في العنوان كالمبهوت، كأنما وافته بغتة:
ثم يفاجئه ما رآه من تفلت العمر كأنه ومضة بارق، فإذا به يزيد قيدًا يدل على هذا المعنى:
فالظرف وهو الزمان عادٍ، والمظروف وهو الإنسان لاهث، وهذا أمكنُ في المغافلة، ثم لما أفاق من فُجاءة «سرعة التقضي»، أوحشه «حال المنقضي»، فزاد قيدًا:
فهي في رأيه عقيم، لم تؤت ما كان يؤمِّل؛ لأن الجهام السحابُ لا ماء فيه، وهو لذلك مضرب المثل لما لا خير فيه، فأخلصه ذلك إلى «وحشة» الأثر:
وهذا من أثرها في النفس. ولا كالمستوحش تولعا بالشكوى، فهو يستزيد العذاب بالذكرى، أو يستجلب الأنس بالمشاركة، أو يستدفع تهمة الغلو ببينات من الوقائع والأحداث. ومدارُ الأمر على وجْدٍ وفَقْدٍ، فالمستوحش مبتلى إما بفقد محبوب، أو بحصول مكروه، أو بهما جميعًا:
وهذا المعنى سارٍ في أشعار المتقدمين، وإنما يتفاوتون بحُسن السبك، وقوة البناء، فمن ذلك قول مضرّس:
غير أن البلاء في البيتين السعديين أشدُّ؛ ولذلك كان المعنى فيهما أحكم منه في بيتي مضرس؛ وذلك أن مضرسًا إن يكن قد ذكر الفاجعة بفقد الحبيب، فإنه لم يذكر البلية بقرب الشانئ البغيض.
وأوهى من بيتيه قول الآخر:
فإنه اقتصر على العجب من فقد الحبيب ولم يتفجع، ولا ذَكَرَ في مقابل ذلك إلا دنوَّ من لا لذةَ في قربه، وليس فيه من الأسى مثلُ ما يكون في صحبة الإنسان من يبغض؛ فإن هذا كما قيل: «من نكد الدنيا على الحر».
وفي معنى البيتين أيضًا قال الطِّرِمَّاح:
وهو -كما ترى- جمع الوجهين في بيت واحد؛ وذلك يكفل له التقدم -في رأي القدماء ونظرهم- على من فرقهما في بيتين أو أكثر، غير أن الأمر لا ينبغي أن يكون على إطلاقه؛ فإن القدماء من الشعراء كانوا يُعاقبون بين أغراض الشعر في القصيدة الواحدة، فمِنْ مستكثر ومِنْ مستقل، فلذلك تحرَّوْا الوجازة ما أمكن، وإلا اتسع الخرق على الراقع، ولا كذلك المحدَثُون، فإنهم وآثروا وحدة الغرض يطيلون النَّفَس، ويمدون حبل الكلام مدَّا.
وقال المتنبي أيضًا في هذا المعنى:
غير أنك تحس في هذا البيت وفي كل ما تقدم أنه رقعة من طِرس، وأن البيتين السعديين قطعة من نفس، كما يقول العقاد رحمه الله.
ولعل غيري يرى فيما أقول شيئًا من غلو؛ إذ لم يعرف «السعد» معرفتي، مع أن المعرفة في الفن حجاب، فليس أشقَّ على الكاتب من درس أديب يعرفه؛ لأنه يكون محجوبًا بصورة الإنسان عن صورة الفنان، فكلما طمحت نفسه إلى تأويل معنى في فنه، هتفت به هواتف الحقيقة: قد خلَّفت ما تطلب وراءك، فإذا هو مشدود إلى عالم الحس، مصروف عن عالم المثال.
على أن الأمر ههنا لا يجري على هذا النسق؛ فإن اجتماع براعة الطبع وبراعة الصناعة قد أدنى منازل الحقائق من مضارب الخيال، وألحق عالم الحس بعالم المثال. حزنٌ مقيمٌ تراه في عين الشيخ إذا نظر، وفي صوته إذا تكلم، بل في ضحكه حين يغافلُ ذلك الهم الدفين، ويَسْتَرِقُ آنَاتِ بَهْجةٍ، هي أشبهُ شيءٍ بزفرة المكدود مسه لغوبٌ، فهو يَسْترْوِحُ بها بين نَصَبَيْن!، فإذا لم تكن هذه الحال داعيةَ وحشة، فليس على ظهر الأرض مستوحش!.
ومن آيات الاستيحاش كذلك في القصيدة أنه لم يخاطب بها الناس، وإنما خاطب بها نفسه:
ومنها أنه حين أجمل في وصف سني عمره لم يذكر إلا أنها مرت «جهاما»، مع أنه لما فصّل ذكرَ صنوفا من الخير والشر، والنفع والضر، فلم تكن الحياة مقفرة مجدبة بإطلاق، غير أن الأديب لا يحسن إلا إذا تألم، ولا يبلغ تمام الإحسان إلا إذا ضاعفت نفسُه هذه الآلام، فإذا لها من الأثر عنده فوق ما يكون لنظائرها عند غيره من الناس.
كل ما ذكرناه آنفًا تصح نسبته إلى براعة الطبع؛ لأن الأديب المحسن يساق إلى مثله غير متجانف إليه، فهو من الموافقات التي يبعث عليها إلهام الفن.
أما الصناعة التي تحسن الصوغ والحوك، وترد الساذج القريب إلى أغوار بعيدة، فلا أدل عليها من اصطناع الرمز:
بيتٌ يردّك إلى أُنْسِ نبي الله موسى عليه السلام بالمكالمة بعد وحشة الانقطاع والغربة، وكذلك شاعرُنا، أقبل بكلِّه على داعية أنسه، والتفت عن الخطاب إلى التكلم؛ تنبيهًا على الانتقال من حال إلى حال: من حال وحشة إلى حال أنس، فهو في كل ما تقدم قد جرّد من نفسه شخصًا آخر، تارة يناجيه، وطورًا يناديه، وهذا أول بيت تُطل فيه تاء المتكلم مسبوقةً بمادة «أنس»، ومتلوةً بذكر الطور، حيث كان الكلامُ، وكان الفتحُ، وكانت البشرى.
فلما وقعت البُشرى بكمال العناية، أعقبها الأمر بمَطالب الهداية:
وهو نظير قول العارف: «قلتُ: أي ربّ، كيف السبيل إليك؟ فقال: خلّ نفسك، وتعال!»، فلا أكثفَ في الحُجُب عن الحق من حجاب النفس.
ولما بلغ هذه الرتبة العرفانية، علم أن التسليم في حضرة الرب أصل الأصول، فأومأ إلى العهد المقطوع به في عالم الذر يوم «ألست بربكم قالوا: بلى»؛ وذلك أن من معاني الربوبية العنايةَ والحياطةَ والقيامَ بأمر المربوب، فمن تعلق قلبه بهذ المعاني قرت بلابل صدره، وعلم أن غاية أمر الخلق معه إجراء مراد الحق فيه.
فانهتك الحجاب، وانجمع القلب، واكتمل الرضا بشهود العين، فلا كيف ولا أين.
فالمحض صفو خالص يوجب شكرًا، والمخض وهو التحريك الشديد بلاء يورث صبرًا، والمتقلّب بين شكر وصبر يرفُل في غلائل النور.
فقوله: «خلا» من الخلوة، يريد خلاني من العلائق؛ أي جعلني في خلوة، وهي «محادثة السر مع الحق حيث لا مَلَكَ ولا أحد»، «فلما تجلى» يريد عليّ، من «الجلوة»، وهي في اصطلاح القوم: «خروج العبد من الخلوة بالنعوت الإلهية». ثم كان الإفضاء بالإرضاء خاتمة المطاف، وفاتحة الألطاف:
فتأمل كيف بدأ الأمر مع الدنيا شرًّا لا خير فيه، ثم انتهى بالله خيرًا لا شرَّ فيه!
وبين الطرفين واسطة الأوبة، وحساب النفس:
ومن براعة الصناعة كذلك هذه المقابلات التي انبثّت في القصيدة، فأشاعت الحُسْن في أرجائها، على نحو ما قيل: والضد يظهر حسنه الضد!.
(صحاح من القلوب ومرضى، بسطا وقبضا، فيضك غيضا، أيسا وليسا، وانشر وانقض…إلخ)، وجمال هذه الأضداد فيما توحيه من أنها ما اجتمعت على لسان قائلها إلا بعد اجتماعها في نفسه، فهو مليٌّ من الدنيا وأحوالها، مطلع على تنوع تصاريفها، لم يفتنه حسنها حين أقبلت، ولا أقنطه قبحها حين أدبرت، قد علم أن عمارتها بالأضداد.
وذلك أن النشأة الإنسانية ثمرةُ التوجهات الأسمائية الإلهية، ومبنى هذه الأسماء على التضاد، حتى قال الشيخ أبو سعيد الخراز رضي الله عنه: «عرفتُ الله بجمعه بين الضدين، ثم تلا قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)، فتعيّن أن يقع الأثر على صورة المؤثِّر، فلولا هذا التضاد، لم يكن لعالمنا وصف الكون والفساد، وقد قلتُ في هذا المعنى :