ألم تبطل نظرية التطور حكاية الدين عن آدم وحواء؟
يسأل سائل: ألم تثبت نظرية التطور عدم وجود أصل إنساني مشترك وبالتالي فإن وجود آدم كإنسان أول هو وهم ثبت نقضه؟
نقول: تكلمنا فيما سبق عن نظرية التطور وأهميتها في علم البيولوجيا، وعن طبيعة النظريات العلمية وأنها بحث في النظام السببي الذي نعتقد أن الله تعالى يُجري الكون على أساسه[1]. وبيننا أن الكون، وإن فهمنا كل ما فيه من علاقات وقوانين طبيعية، هو ممكن الوجود في العقل، ولا بد له من سبب، ولا بد لسلسلة الأسباب أن تنتهي إلى واجب الوجود مسبب الأسباب الذي تختلف حقيقته عن طبيعة الكون.[2] وتناولنا بعض أهم الإشكالات الفلسفية التي وجهتها النظرية إلى بعض الأدلة على وجود الله.[3]
ثم ذكرنا المواقف المختلفة من قضية السببية العادية في المباحث البيولوجية التي تتناولها النظرية وبينا موقفنا من هذا،[4] وبينا الفرق بين “الخلق” الذي هو الإيجاد من عدم، وفهم الأسباب الدنيوية.[5]
ثم ذكرنا بعض ما جرى في الغرب من الصراعات بين العلماء الملحدين والتخليقيين المسيحيين حول عمر الأرض وتطور الحيوانات[6] وبينَّا كيف أن هذا لا يلزمنا كمسلمين، وبينا ذلك بتفصيل.
بقي أمر واحد أخير: وهو التطور الإنساني وقصة سيدنا آدم عليه السلام. وقبل أن نحل هذا الإشكال الأخير، بإذن الله، وكلامنا هنا مبني على ما ذكرناه في المقالات السابقة، فنرجو من القارئ الكريم أن يكون قد قرأها أولاً.
ما هو الإشكال؟
يعتقد البعض أن ثمة تعارضاً بين نظرية التطور وبين القصة الدينية لخلق سيدنا آدم عليه السلام. وهذا التعارض من جهتين:
أولا: أن القصة الدينية تقول إن البشر جميعا ينتسبون إلى آدم وحواء، والنظرية تنفي اتحاد الأصل.
ثانيا: أن القصة الدينية تقول إن الله خلق سيدنا آدم خلقاً مباشراً، والنظرية تقول بانحدار البشر جميعاً من حيوانات أخرى سابقة.
بعض طرق التعامل مع النظرية:
سبق أن تكلمنا عن من رفض النظرية برمتها، وناقشنا هذا الموقف[7]. وبينا أننا تابعون للمجتمع العلمي المتخصص الذي يكاد يجمع على التمسك بالنظرية التي تزداد الأدلة عليها كل يوم، ولم يظهر إلى الآن ما يقضي ببطلانها أو ما يفسر المشاهدات تفسيراً أفضل منها[8].
وهناك مواقف أخرى حاولت التوفيق بين النظرية والمسلمات الدينية، نذكر منها:
موقف تأويل النصوص:
تأويل الظواهر والنصوص الدينية التي تفيد كون سيدنا آدم، عليه السلام، أول إنسان وكونه خُلق على صورته هذه، وهذا المسلك قد سلكه جمع من الشيوخ منذ ظهور النظرية، وخلاصته الفرق بين الإنسان البشر، وأن البشر هم خلق كانوا موجودين قبل الإنسان، فاصطفى الله منهم سيدنا آدم، وحملوا آيات خلق سيدنا آدم من طين على أنه خُلق من كائنات سابقة تعيش في الطين، وأنه تبع ذلك مراحل أخرى ظهر فيها “البشر”، فجعلوا سيدنا آدم هو “أبو الإنسان”، لا “أبو البشر”، وقد اندثر البشر وذريتهم.
وقد عُرض كتاب “أبي آدم” للشيخ عبد الصبور شاهين –وهو ممن تبنى نحو هذا- على لجنة شكلها مجمع البحوث الإسلامية سنة 1999 واللجنة وإن لم توافقه على تأويلاته هذه، وعلى الأخص ما أشار إليه من إمكان أن يكون سيدنا آدم، عليه السلام، قد خلق من أبوين وما انتهى إليه من العلاقة بين البشر والإنسان، ومع ذلك فقد قررت اللجنة أنه لم يقع في مخالفة يخالف بها ثوابت العقيدة أو يتناقض مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهو لا ينكر سيدنا آدم ولا ينكر أننا بنو آدم، وإنما خاض في تفسير النصوص تفسيرات غير صحيحة.[9]
ونحن لا نتبنى هذا المسلك. وليس المحل الآن هو محل مناقشة هذا الرأي، وبيان الإشكالات في صرف النصوص الدينية عن ظواهرها دون وجوب موجب شرعي لذلك، لكننا سنقدم جواباً نراها أقرب للصواب من هذا.
موقف نقض النظرية:
نقض أي نظرية أمر ممكن، وعليه فنقض نظرية التطور ممكن، والطريق لنقضها يكون عن طريق العلم التجريبي، أي خصوص علم الأحياء، ولا تنقض بغير هذا، ومحاولات نقضها من غير البحث البيولوجي غير مفيد[10]، وهو في الحقيقة يشبه نقد غير المحتك بالعلوم الشرعية وغير الدارس للغة العربية للمسائل الدينية. فنحن لا نرتضي هذا المسلك كما بينّا من قبل.
حل الإشكال من وجهة نظرنا
التعارض الحقيقي هو حيث لا يمكن الجمع بوجه:
هناك قاعدة منطقية في غاية الأهمية تقول:
الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
فما معنى هذه القاعدة؟ معناها أنك إذا أردت أن تقيم الدليل على أمر ما، وكان الدليل الذي أتيت به يحتمل أن يدل فعلاً على ما تريد ويحتمل أنه يدل على أمر آخر غير ما تريده، فإنه حينئذ لا يصلح دليلاً لك. ولنضرب على ذلك مثالاً:
تخيل أنك رأيت رجلاً يسلم عليك وهو متجهم الوجه حزيناً ولا يهشّ لك في الكلام ولم يكن لطيفاً على عادة هذا الشخص. فلو رأيت هذا منه فقلت لنفسك: (لا بد أنه يكرهني). فإنك حينئذ قد استدللت بعدم ترحيبه ولطفه معك في هذا اليوم على كراهيته لك. وفي الحقيقة يمكن أن ننقد دليلك هذا فنقول: ألا يوجد احتمالات أخرى تفسر حزنه وانقباضه غير أنه يكرهك؟ ألا يمكن أن يكون قد فقد عزيزاً عليه هذا اليوم، أو علم بمرض خطير قد أصيب به، أو تشاجر مع زوجته، أو انتابه الغضب من بعض أعدائه فظهر شيء من ذلك في وجهه وسلوكه؟ إذا كان هذا احتمالاً وارداً فإن دليلك الذي استعملته (وهو حزنه وعدم لطفه معك) لا يوصل إلى النتيجة التي اعتقدتها (وهو أنه يكرهك) بالضرورة، لأن هناك احتمالات أخرى لذلك. فيكون دليلاً تطرق إليه الاحتمال، فيبطل به عندئذ الاستدلال.
ونفس القاعدة تكون في التعارض بين أمرين. فلو كان هناك احتمال يمكن معه الجمع بين الأمرين المتعارضين، فلا يمكن القول حينئذ بالتعارض الحقيقي بينهما. ولنضرب على ذلك مثالاً آخر:
لو قال لك قائل (أسامة في بيروت) فقلتَ له (هذا خطأ.. لقد رأيته أمس في القاهرة). فالحقيقة أن ما تدعيه من التعارض بين كون (أسامة في بيروت) و(رؤيتك له بالأمس في القاهرة) هو تعارض بين أمرين يمكن الجمع بينهما بسهولة وهو أنه سافر هذا الصباح مثلاً ولم يخبرك. فلكي تصل إلى القطع بالتعارض بين قضيتين لا بد من نفي أي احتمال للجمع بينهما.[11]
والحقيقة، أن الجمع ممكن جداً بين قضية (أن آدم خلق خلقاً مباشراً) كما يظهر من القصة الدينية، ونظرية التطور التي تقول إن (البشر انحدروا من كائنات أقل تعقيداً وأننا وجدنا حفريات كثيرة تبين الإنسان في مراحل أقل تطوراً مما هو عليه الآن).
فبعض الاحتمالات التي يمكن بها الجمع بين القضيتين أن نقول:
لعل الله تعالى قد خلق الكون الذي تتطور فيه الكائنات كما هي، ثم خرق العادة التي هي أصلاً فعله، وخلق زوجين خلقاً مباشراً، وقد نزلا إلى الأرض وعاشا مع بقية ما خلق الله تعالى من الكائنات.
وأيضاً: لا يوجد في الدين ما يمنع أن يكون أبناء آدم قد تزاوجوا مع موجودات بشرية أخرى كانت موجودة في الأرض، ويكون انحدار البشر الحاليين من تزاوج أبناء آدم مع غيرهم من الكائنات شبه البشرية التي كانت تسكن الأرض. وأن يكون من بقي من البشر ينتسب إلى آدم عليه السلام من هذا الوجه.
وكذلك: لا يوجد في الدين ما يقضي بزمن وجود سيدنا آدم على كوكب الأرض، ولا بنوعه. فلا مانع أن يكون قد خرق الله، تعالى، العادة وخلق سيدنا آدم على صورة الــHomo sapiens الموجودين في الأرض، الذين هم تطوروا من غيرهم.
فكل هذه الاحتمالات وغيرها الكثير هي احتمالات ممكنة، ولعل غيرها قد حصل بالفعل (الله أعلم)، لكنها احتمالات تبين خطأ ادعاء التناقض بين كون الله، تعالى، قد خلق سيدنا آدم خلقاً مباشراً، وكون البشر قد تطوروا من كائنات أقل تعقيداً.
ونحن لا نريد من كل ما ذكرناه القطع بأي من هذه الاحتمالات أو بغيرها. ولكننا نريد أن نقول: ما دام أن هناك طريقاً للجمع بين الحقائق فيستحيل القول بالتناقض.
ونحن قد بينا احتمالات كثيرة لا يرفضها دين الإسلام ولا ينفيها، ولا يوجد في النظرية ما يعارضها، يمكنها الجمع بين كون سيدنا آدم خلق خلقاً مباشراً وأننا جميعاً ننتسب إليه من جهة، وبين ما بين أيدينا من دلائل على تطور البشر كسائر الحيوانات من كائنات أقل تعقيداً.
الأصلية والفرعية
تكلمنا في حلقة سابقة [12]على موقع حكاية خلق سيدنا آدم من الدين، وموقع البشر من نظرية دارون، وبينا أن كلا الأمرين فرعي فيهما، فحكاية خلق سيدنا آدم، فرع من فروع الدين مبني على أصول ثابتة قطعية، من صحة الدين ووجود الله، تعالى، والبشر واحد من بلايين الكائنات الحية التي تتناولها النظرية.
والمراد بهذا هو: التنبيه على القضية المنهيجة في التعامل مع التعارضات، وهو أنه ما دام السؤال أو الإشكال في جزئية، فإنه يكون فرعاً، ولا ينبغي لمن يُشكل عليه هذا أن يتسلسل به فيشكل على أصل صحة الإسلام، إذ هو إشكال فرعي، ولا يكون ذلك طعناً في أصل ثابت بدليل برهاني مستقل.
ونفس الكلام يقال على نظرية داروين وعلى كل نظرية معرفية، فالإشكالات تتجدد ومعرفة موقع الإشكال من المنظومة العلمية أو النظرية العلمية مهم، فالنظرية إن ثبتت بأدلة متضافرة لا يشكل عليها أمور فرعية فنضطر لهدمها من أصولها.
فغاية الأمر أن يجهل الشخص كيف يحل الإشكال الفرعي، فيسعه التمسك بالأصول الثابتة عنده بالبراهين، ثم المرور على ما أشكل عليه، وتفويض العلم به إلى الله تعالى عسى أن يفتح عليه به بعد حين.
وبالعموم فنحن نتحدث عن أمور ضاربة في القِدم، لا نعلم عنها شيئاً يذكر، فما بين أيدينا من حفريات هو قليل جداً نستنبط منه معلوماتنا عن التاريخ الطبيعي، وما بين أيدينا من آيات قرآنية تتكلم عن خلق آدم لا تعطي تفاصيل علمية أصلاً إذ القرآن الكريم ليس كتاب نظريات علمية، بل يستفاد منها أمور دينية اعتقادية وأخلاقية كشأن الخطاب القرآني عموما.
وبما ذكرناه وما يأتي تفصيله يظهر أن ما ورد في القرآن الكريم من كون آدم أباً للبشر، حتى لو فهمناه على ظاهره أن الله خلقه خلقاً مباشراً وأن كل البشر الحاليين هم بنوه، لا يعارض أياً من الدلائل الحفرية ولا المقررات العلمية الحالية ولا تقسيم البشر بحسب أصولهم البيولوجية ولا يمنع البحث في تطور البشر الحاليين.
وسوف نبسط في السطور القادمة ما أجملناه من الجواب لمن أراد الاستزادة.
خلق سيدنا آدم خرقاً للعادة ولقوانين الطبيعة
كما ذكرنا سابقاً بإجمال، ونذكر الآن بتفصيل، أننا نرى أن حل هذا الإشكال أيسر بكثير مما يظهر للبعض، لأننا لا نرى تناقضاً لا يبقى معه احتمال لأحد المتعارضين أصلاً، فغاية الأمر أن نجيب قائلين:
لا يوجد ما يمنع أن الله، تعالى، خرق العادة التي هي أصلاً فعله، وأوجد سيدنا آدم بالذات بغير النظام السببي الذي أوجد به بقية الكائنات. فنحن نقطع بخوارق العادات هذه، إذ العادة والقوانين الطبيعية ليست إلا أمور منتزعة من المشاهد الذي هو كل فعل الله تعالى، وجائز عقلاً أن تكون القوانين العادية على غير ما هي عليه، والذي جعلها مطردة على النحو الذي نراه هو نفسه قادر على أن يخرقها بنحو معجزة، وقد فصلنا هذا في مقال سابق.[13]
فنحن نؤمن بأن النار لم تحرق سيدنا إبراهيم، عليه السلام، وأن سيدنا عيسى خلق لأم من غير أب، وهذا لا يؤثر في علمنا بأن النار محرقة، بل وقطعنا به، ولا يؤثر في إيماننا بأن الإنسان يولد لأب وأم، وقطعنا كلما شاهدنا إنساناً أن له أباً وأماً، يعني من مني وبويضة، إذ هذا هو النظام السببي المطرد الذي أقامه الله.
فلا تعارض حقيقياً يلزم عليه استحالة كون النظام البيولوجي للكائنات الحية تابعاً لنظرية التطور، وبين خلق الله تعالى لسيدنا آدم على غير هذا النظام.
كيف التعامل مع كون سيدنا آدم خُلق خرقاً للعادة، وما تفيده علوم البيولوجيا؟
وهنا يأتي سؤال يقول: عملياً، كيف لمن يؤمن بأن آدم أبو البشر خرقاً للعادة، أن يجمع بين ذلك وما يقوله البيولوجيون، وما فيه من تفسيرات لأشياء كثيرة في جسد الإنسان، كضرس العقل، والزائدة، وعظمة الذيل وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي يقولون هي في جسد الإنسان ودليل على التطور؟
نجيب: بأننا لا نقول باستحالة وجود الإنسان بطريق التطور.
بل لو أن النظرية صحيحة 100% بكل تفاصيلها، فهذا يعني أن الإنسان مقدور على أن يكون قد وجد بطريق التطور، وأنه لو لم تخرق العادة بخلق سيدنا آدم لكان الإنسان وجد بالتطور، ولا يمنع هذا من أن يخلق الله، سبحانه وتعالى، زوجين خلقاً مباشراً خارقاً للعادة على تلك الصورة التي سيؤول إليها تطور الإنسان لو لم يكن قد خُلق خرقاً للعادة، يعني لما خلق بطريق خارق للعادة، خلق على الشكل الذي كان سيكون عليه لو لم تخرق العادة.
نقطة ثانية نوضحها وهي أن الله، سبحانه وتعالى، لو خلق شيئاً خارقاً للعادة، فلا يلزم ذلك أن يظل خارقاً لعادة الكون بعد ذلك. فالله، سبحانه وتعالى، خلق سيدنا عيسى –كما نعتقد- من غير أب خرقاً للعادة، وبعد ولادته كان إنساناً تجري عليه القوانين الكونية.[14]
فخرق العادة في خلق سيدنا آدم أنه خُلق من غير أبوين، ولكنه من حيث اتباع العادة، فجسده ثم أولاده كجسد البشر، خاضعين لطبيعة البشر، فالطبيعي أن نجدهم على الطبيعة التي هي مقتضى قوانين الطبيعة.
بل في القرآن أن الله، تعالى، قد خلق ناقة صالح خلقاً خارقاً للعادة معجزاً، ثم إن هذه الناقة كانت تشرب كسائر الحيوانات كما يقول القرآن الكريم {قال هذه ناقةٌ لها شِربٌ ولكم شِربُ يومٍ معلوم}. فبين أن خلق الناقة خلقاً معجزاً لم يمنع من خلقها مثل بقية النوق في احتياجها للماء وخضوعها للقانون الطبيعي.
فهذا مرادنا بقولنا: الإنسان كان سيكون بهذا الشكل لو لم يُخلق بطريق خارق للعادة، فلما خلق بطريق خارق للعادة، خلق على الشكل الذي كان سيكون عليه[15].
هل سيدنا آدم هو أول “هومو سابين Homo Sapien” أصلا؟
كما ذكرنا سابقاً: لا يوجد في الدين ما يمنع أن يكون هناك مخلوقات أخرى مثل الإنسان في الشكل والهيئة والأفعال، هذا أمر قد سكت الدين عنه، إذ لم يخبرنا الدين إلا بما يعنينا نحن كمخلوقات: أننا بنو آدم، وعليه نفهم كل نصوص القرآن الكريم.
أما لو كان هناك كائنات مثل الإنسان Humanoids يعيشون على الأرض، وقد تطوروا مثلاً من كائنات قبلهم على النظام التطوري الذي تشرحه النظرية الدارونية، فهذا لا يوجد في الدين ما يقطع بوجوده أو نفيه. وكذلك لا يوجد إخبار قطعي بزمن وجود سيدنا آدم، عليه الصلاة والسلام، أصلاً، الذي يخبرنا القرآن أننا “البشر الموجودون على الأرض المخاطبون بالتكليف” أبناؤه.
فعلى التقسيمة للأجناس الحية التي تشمل الآن “البشر الحاليين” Homo Sapiens
Homo، التي تشمل تحتها:
Homo habilisو Homo erectus و Homo heidelbergensis وHomo Neanderthalensis، أي وختاماً homo sapiens
لا يوجد في الدين ما يخبرنا أن مثلاً سيدنا آدم كان أول Homo Sapiens أصلاً، ولا أنه موجود قبله، ولا موجود بعده مدة، فإن علماء التطور يقولون إن أول ظهور الـHomo Habilis كان في حدود 2 مليون عام، وظهرت كائنات تستعمل آلات حجرية قريب من تلك المدة، بل وجد ما يشير إلى أن الكائن Australopithecus من جملة أشباه البشر قريب من 3 ملايين عام كانت تستعمل الآلات. وأن الطبخ واستعمال النار من هذه الكائنات كان منذ نحو مليون عام من قبل Homo Erectus.
ولكن: هل سيدنا آدم كان موجوداً منذ ملايين السنين؟ لا ندري، فهذا مما سكت عنه الدين.
وهل هناك ما يمنع في الدين وجود مخلوقات عندها هذه المقدرة لفعل هذه الأمور من صنع آلات وغير ذلك منذ ملايين السنين غير آدم وبنيه؟ لا يوجد في دين الإسلام ما يمنع من ذلك أصلاً.
فما يقوله علماء التطور من إن الــHomo Sapiens ظهروا حوالي 300،000 عام، فهل هذا يعني بما أنهم أول كائنات حية مثل البشر الحالي، أن سيدنا آدم كان منذ تلك المدة ؟ لا يلزم هذا أيضاً.
فلا يوجد ما يمنع أن يكون سيدنا آدم كان منذ مثلاً 20،000 سنة مثلاً، ونكون نحن “بني آدم” من ذرية ذلك الشخص الأول الذي كان وجد في تلك المدة، والذي كان يوجد وقتما وجد هو مخلوقات أخرى تعيش على الأرض.
ولا مانع من أن يكون قد حصل تزاوج بين بني آدم وبقية الـHomo Sapiens مثلاً.
ولا مانع من أن يكون الـHomo sapiens قبل، قد تزاوجوا مع الـNeanderthals، وDenisovans أو غير ذلك، ثم سلاسة هؤلاء تزاوجت مع الفرع الذي جاء من بني آدم، والاحتمالات عديدة وكثيرة، وكل هذا لا يوجد في الدين ما يمنعه.
وفي كل هذا سيكون نوعنا (بني آدم) أولاد سيدنا آدم، وإن حصل تزاوج من أولاد غيره. فلو تزاوج أولاده مع أولاد غيره، ولم يبق إلا نتاج تزاوج أولاده مع آخرين، بحيث يصح إطلاق بني آدم على كل من في عهم الرسالة ولا يخرج منهم أحد. فإن المحذور (ألا نكون بني آدم) أو (أن يكون سيدنا آدم ولد من أبوين) وأما ما زاد على هذا فلم يأت الدين فيه بتفصيل.
وكذلك لا يوجد ما يمنع أن يكون الـNeanderthals كانت قادرة على فهم المسائل الغيبية مثلاً، فكانت تمارس “طقوس وشعائر دينية” ولا ندري هل الله تعالى كلفهم أم لا.
وعلى كل، فكل هذه المسائل نقول:
إنها خارجة عن القدر المقطوع به من الدين، ولا يوجد في الدين ما يمنع من البحث في كل هذه الأمور. وليس ما ذكرناه هنا تأويل للنصوص الدينة، وليس فيها مناقضة لنظرية التطور، بل كلها أمور ممكن يصح معها الحكاية الدينية بكون آدم أباً للبشر، والحكاية العلمية المستفادة من الحفريات التي بين أيدينا.
فإنا نقول: إن البشر وبني آدم وكل ما جاء ذكره في القرآن الكريم المراد به “بنو آدم” الذين نحن من ذريته، ولكنا نقول: إن ذلك كله لا يمنع وجود كائنات أخرى لم يأت الخبر الدين لها.
خاتمة:
{ولقد كرمنا بني آدم}
قال تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك} {لما خلقت بيدي} {وصوركم فأحسن صوركم} {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}
وقد فسر الإمام أبو بكر بن العربي المعافري، رضي الله عنه، هذه الآيات بتفسير جميل فقال:
ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيا عالما ، قادرا ، مريدا ، متكلما ، سميعا ، بصيرا ، مدبرا ، حكيما ، وهذه صفات الرب ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله ((إن الله خلق آدم على صورته))، يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية (على صورة الرحمن) . ومن أين تكون للرحمن صفة مشخصة ، فلم يبق إلا أن تكون معاني، وقد تكلمنا على الحديث في موضعه بما فيه بيانه.[16]
وأعظم ما كرم به الله، تعالى، الإنسان هو عقله، الذي به يعرف العبد ربه، وكل هذا وإن جرى على نظام سببي، فكل نظام سببي ليس إلا فعل الله، تعالى، أولاً وآخر!
فكل هذا لا ينافي أبداً أن يكون الإنسان تابعاً لنظام سببي خلقه الله عليه، ولا ينافي أن بعض الناس ابتلاهم الله بنقص أو مرض، إذ ليس المراد أن “حقيقة الإنسان” حسنة إذن فيخلو “كل فرد من الإنسان” من أي تشوه أو نقص، بل هذا كله مما ابتلى الله به البشر، فإنه تعالى قال أيضاً: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} ، وسيأتي الكلام على كل هذا في مقالات لاحقة.
فالإنسان ليس فقط مجرد حيوان. هذه النظرة التي ننظر بها لأنفسنا ولا نرى في ذلك بناء على ما قررناه أي مخالفة للمشاهدات ولا للعلم، وإن ادّعى البعض غير هذا، فهذا من قصور أنظارهم حيث نظروا إلى بعض الحقائق دون بعض.
كلنا بنو آدم:
ومما جاء به الدين مما يهمنا ويعيننا على العيش في الدنيا: أن نعرف أن كل البشر (أخوة) الكل في النهاية يرجع إلى سيدنا آدم، فهو أبو البشر. فمن هذه الناحية الدين جاء ليخبرنا عن إزالة أي فروق.
فإن من الآثار السيئة التي تبعت أول ظهور النظرية هو ما عرف بالعنصرية العلمية scientific racism، يعني بما أن البشر في الحقيقة كلهم منشؤهم هو فصائل مثل القرد، وما زالوا في التطور والتغير، فإن البشر ذوي البشرة السوداء والأنوف التي فيها فعص، هؤلاء بشر أقل منزلة من البشر البيض! الأوائل في مراحل متدنية من البشرية، مرحلة بعد القرود نعم، ولكن قبل الإنسان الأبيض الروماني هذا أو الألماني أو والإسكندينيفي هذا، الأبيض، ذي المعالم الرومانية هذا، والشعر الأصفر pure breeds!، هؤلاء هم صفوة البشر والباقي مثل الحيوانات!
وتبع ذلك ظلم وقهر وتعد شديد على كل بني آدم! من ذوي البشرة السوداء، واتهامهم بأن أخلاقهم مثل الحيوانات wild savages، ولم تزل البشرية لم تخرق من هذا المأزق الذي دخلت فيه!
وإن الدين أخبرنا أن كلنا أولاد أب وأم واحدة في النهاية، وإن تخلل بين الأب والأم الأول تزاوج من بشر آخرين مثلاً أو سلالات أخرى أو أي شيء، فكل هذا لا علاقة له بأننا كلنا نفس الجنس: كلنا إنسان عاقل، متساو في الإنسانية تماماً، والخلاف الظاهري هذا –بغض النظر عن ما سببه – لا يؤثر في شيء من هذه الحقيقة، فبعض ذلك له علاقة بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان، وملاءمة الجينات التي تؤثر في البشرة وغير ذلك من أمور كثيرة، وليس غرضنا مناقشة هذا، وإنما غرضنا بيان بعض المشكلات العظيمة التي أصابت البشرية من أخذ طرف من قصة “من أين جئنا؟” واكتفى بها!
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}
تكلمنا في هذه الحلقة:
تكلمنا في هذه المقالة على طرق مختلفة في الجمع بين النظرية وما جاء به الدين، عن طريق تأويل بعض النصوص الدينية، وبينا أن هذا فيه خطأ ديني، مع أنه لا يرفع الإشكال العلمي كذلك.
ثم تكلمنا على أنه لا يوجد ما يمنع، بل هو الظاهر من النصوص، أن سيدنا آدم خُلق خلقاً غير سببي، وأن هذا لا يعني أننا نقول إنه يستحيل أن يحصل مثل سيدنا آدم بالنظر إلى قانون الأسباب، بل هذا ممكن، وأن النظرية لو صحيحة، فسيكون سيدنا آدم قد خُلق على الشكل الذي كان سيكون عليه لو كان وُجد سببياً.
ثم تكلمنا على أنه لا يوجد في الدين ما نعرف به هل سيدنا آدم أول هومو سابين Homo Sapien أصلاً أو هو قبل أو بعد ذلك، ولا أنه هل كان قبل الهومو سابين غير بني آدم، وأنهم كان عندهم عقل، وكانوا مكلفين، أو لا، إلى غير ذلك من المباحث التي سكت الدين عنها. ولا مانع أن يكون قد حصل توازن بين أبناء سيدنا آدم، وغيره، ونكون نحن ذرية هؤلاء، فيصدق علينا أننا (بنو آدم)، وأن الله تعلى خلق الإنسان في أحسن تقويم، عالماً قادراً مريداً عاقلاً، وأننا كلنا (أخوة) إذ أننا (بنو آدم)، أولاد لنفس الأبوين.
[1]https://www.ida2at.com/does-universe-follow-laws-nature-or-godly-intervention/
[2]https://www.ida2at.com/does-the-scientific-interpretation-of-the-universe-presume-that-there-is-no-god/
[3] https://www.ida2at.com/did-theory-evolution-enough-us-creator-god/
[4] https://www.ida2at.com/theory-of-evolution-and-creationism/
[5] https://www.ida2at.com/theory-of-evolution-and-creationism/
[6] https://www.ida2at.com/darwin-vs-tales-of-religion-on-the-universe-and-animals/
[7] https://www.ida2at.com/theory-of-evolution-and-creationism/
[8] https://www.ida2at.com/what-is-theory-of-evolution-and-why-is-it-important/
[9] “كيف بدأ الخلق”، د. عمرو شريف . ص 324
[10] على أن في هذا الموقف إشكال لا يتنبه إليه أكثر الخائضين فيه، وهو أن أي محاولة لنقض النظرية، بل أو التعديل فيها، جرياً على البحث التجريبي البيولوجي، فإنه لن يكون بحيث يحل الإشكال!
ذلك لأن البحث التجريبي هو بحث في السببية المادية للكون، ووجود إنسان لا من أبوين – خلق غير سببي- أمر مستحيل في العادة! وعليه (فالخلق اللاسببي) أبداً لن يكون جزءاً من نظرية علمية، وهو مثل نقض نظرية الكروموزومات لحل إشكال خلق سيدنا عيسى من غير أب!
ذلك أن نفس خارق العادة (المعجزة ونحوها) هو بنفس حقيقته: ذلك الذي يخرق العادة (قوانين الطبيعة) فكيف يُطلب له تفسير جرياً على القوانين الطبيعية؟!
[11] https://www.ida2at.com/pain-invalidates-science-tales-of-the-universe/
[12] https://www.ida2at.com/is-theory-evolution-origin-opposes-fundamentals-religion/
[13]https://www.ida2at.com/does-universe-follow-laws-nature-or-godly-intervention/
[14]الخارق للعادة: يحصل بشكل لا يستتبع خوارق بعد.
يعني مثلاً انشقاق القمر، هذا خارق للعادة، وانشقاق القمر يترتب عليه فيزيائياً أمور عديدة، وكذلك مثلاً توقف الشمس في سيرها، ثم عودها ثانياً ونحو هذا مما ورد كمعجزة لبعض الأنبياء، هذا بالنظر إلى قوانين الطبيعة يلزم عليها تغيرات عظيمة، واضطراب كبير في الكون.
ولكن لما تحصل الخوارق: فهي تحصل كأمر خارق للعادة، لا أنها تحصل بشكل له آثار عادية حقيقية كما لو كانت العادة تغيرت فعلاص
فمثلاً لما سيدنا عيسى كان يصنع من الطين كهيئة الطير فيخلق الله منه طيراً حقيقياً، فالطير الحقيقي نعرفه على مستواه التفصيلي، من مخ وأعصاب وقلب ورئة ومعدة وغير ذلك وتفاصيل دقيقة جداً يتعذر تماماً صنعها من طين، ولكن سيدنا عيسى صنع طائراً مشكلاً من طين، والظاهر أنه دون كل هذه التفاصيل، ثم خرق العادة هو تحويله إلى طائر حقيقي، ذلك الذي فيه تلك التفاصيل الدقيقة.
فالحاصل أن خرق العادة هو في حدود ما خُرقت العادة فيه.
[15]ومن فروع هذا البحث هو البحث في (الوعي) وهل يستحيل أن يحصل للإنسان الوعي من طريق النظام السببي الذي تشرحه نظرية التطور، وأن هذا دليل على أنه خلق الله، لا أنه أمر طبيعي.
وجوابنا على هذه النقطة أن نقول: بأننا قد ناقشنا أصل هذه القضية في مقال إله الفجوات، فتحتاج أن تراجع.
ثم نقول بأننا لا نقول بأن الوعي وما يُلحق به هو من نتاج التطور، وكذلك لا نقول إنه ليس كذلك.
فإنا لم نرد الخوض التفصيلي في كل القضايا الفلسفية والعلمية المتعلقة بالموضوع، واخترنا هنا -كما فعلنا في مقالات سابقة- الاكتفاء بالتزام أقل حمولة فلسفية ممكن نخوض بها، ولا نمنع غيرنا من الخوض الزائد، أو أن نخوض نحن ولكن ليس هذا منهجنا في هذه المقالات.
[16] أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي المعافري الإشبيلي 4/415 ط. دار الكتب العلمية